قضايا
حاتم حميد محسن: "رسائل من رواقي" وقيمة الفلسفة

كان الفيلسوف لوسيوس أنيوس سينيكا من الشخصيات الرئيسية والمؤثرة في الفلسفة الرومانية القديمة. مثلما ابكتيتوس و ماركوس اوريليوس، كان سينيكا من أبرز الفلاسفة الرواقيين والذي ساهم الى حد كبير في الفكر الرواقي. كان سينيكا يؤمن وبحزم بقوة الفلسفة في تعزية الناس وقد كتب في نطاق واسع من الموضوعات، غالبا على شكل رسائل الى أصدقاء ومقربين. العديد من أعماله تقدم نصيحة عملية حول كيفية العيش دون الانغماس في المخاوف والهموم المجردة. هذا ينطبق خصيصا على عمل سينيكا (رسائل من رواقي).
منْ هو سينيكا؟
أمضى سينيكا حياة رائعة ومضطربة انتهت بإقدامه على الانتحار بطلب من الامبراطور نيرو عام 65م. وُلد سينيكا في قرطبة في اسبانيا سنة 1 ق.م، ثم أمضى شطرا من حياته المبكرة في مصر، وتعلّم الفلسفة والبلاغة في روما. هو اصبح محققا – نوع من وظيفة عمومية – وعُرف لدى مجلس شيوخ روما كونه متحدثا ممتازا في الاحاديث العامة. عوقب سينيكا مرتين بعقوبة كانت أقرب الى الموت من جانب الامبراطور كاليجولا وكذلك من خليفته الامبراطور كلوديوس بتهمة التآمر السياسي. بعدها، نُفي سينيكا الى كورسيكا التي بقي فيها الى ان استُدعي الى روما لتقديم النصح والاستشارة لنيرو.
كان سينيكا منخرطا في حكم الامبراطورية الرومانية اثناء الفترة المبكرة من حكم نيرو وساهم الى حد كبير بالتغييرات القانونية والمالية . هو ايضا جمع ثروة لا بأس بها. وعندما تغير وضع سينيكا السياسي، غادر روما في السنوات الاخيرة من حياته ليركز على الفلسفة والكتابة. وبعد ذلك بعدة سنوات،اتُهم سينيكا بالتآمر ضد نيرو وطُلب اليه ارتكاب الانتحار. بالاضافة الى كونه رجل دولة وفيلسوف، كان سينيكا ايضا كاتبا مسرحيا. مسرحيته (ثيستس) اعتبرها البعض قدمت أحداثا مفصلية وهامة لشكسبير في مسرحيته (Titus Andronicus).
سينيكا والرواقية
كان سينيكا فيلسوفا رواقيا، وعلى الرغم من ارتباط الرواقية بروما القديمة، لكنها نشأت في اليونان الهيلينستية. هذه كانت الفترة التي أعقبت ارسطو عندما كانت اثينا تحت حكم الاسكندر الاكبر. في هذه الفترة برزت اثنتان من المدارس الفلسفية الهامة والمتنافسة وهما الايبيقورية والرواقية.
تأسست الرواقية بواسطة زينو (من سيتيوم) حوالي سنة 300ق.م. انها اكتسبت اسمها من الرواق "stoa" والذي كان عبارة عن ممر مغطى بالاوراق يُستعمل في الاماكن اليونانية العامة. هذا كان المكان الذي درّس به زينون فلسفته. الرواقية هي نظام فلسفي كامل يغطي علم الكون والاخلاق وتحقيقات في المنطق. العقيدة الرواقية المركزية هي ان الكون مؤلف ومرتب بواسطة اللوغس او العقل. هذا يمثل كل من المادة بأدنى درجاتها والله ، الطبيعة،القدر، او الرعاية الالهية. جميع الاذهان البشرية تحتوي على شيء من العقل، وان الهدف من حياة الفرد هو اكتشاف كيف يعيش في انسجام مع هدف العقل الكوني او اللوغس.
العيش طبقا للفضائل الرواقية
ان فكرة اللوغس استمرت لدى الرواقيين الرومان الذين لازالوا مشهورين الى يومنا هذا وهم : سينيكا، ابكتيتوس وماركس ايرليوس. لكن أخلاق الرواقيين أكدت على الفضائل الاساسية للشجاعة والعدالة والاعتدال والحكمة التي اصبحت سمة بارزة في الرواقية الرومانية. انها وفرت مجموعة من القيم التي نُظمت حولها الحياة الرومانية (خصيصا الارستقراطية).
في العصر الامبراطوري المبكر، الذي عاش فيه سينيكا وكتب، اصبحت الاخلاق الرواقية شكلا من المقاومة للنظام الامبراطوري القمعي. التأكيد على تربية حياة الفضيلة الداخلية طبقا للّوغس كان يعني التركيز على المسؤولية الفردية والانفصال عن الخيرات الخارجية التي يمكن ان تختفي في يوم ما. معنى هذا ان العديد من الرواقيين الذين كانوا في الغالب ارستقراطيين، آمنوا بقيم تصطدم مع الامبراطور وحكمه. الفضيلة هي الشيء المهم للرواقيين – هم اصبحوا غير مبالين بأي شيء آخر. شخصية الفرد وكيف يتصرف هو كل ما يقع تحت سيطرته. الفضيلة الباطنية لايمكن سلبها في نزوة امبراطورية. هذه هي الاخلاق الرواقية الاخيرة التي يستطلعها سينيكا في (رسائله). سينيكا كان يهتم بالسؤال عن كيفية عيش حياة جيدة اكثر من الاهتمام بتعقيدات الميتافيزيقا والمنطق.
أهمية دراسة الفلسفة
كتب سينيكا رسائله الى لوسيليوس جورو Lucilius Juror اثناء الفترة الاخيرة من حياته، بعد تقاعده من الواجبات العامة في روما وانتقاله الى الريف. دعا سينيكا بحماس لتعزيز قيمة دراسة وتطبيق الفلسفة على حياة الفرد، وشجع لوسيليوس على القيام بنفس العمل. هو أعطى عدة اسباب لهذا في عدة أماكن في (الرسائل). احد الاسباب التي يعطيها سينيكا هي في رسالة مبكرة. هو يجادل ان اول أمل بدراسة الفلسفة هو "الشعور بالزمالة والانتماء الى البشرية". هذا يأتي اثناء مناقشة حول عدم تنفير الناس عبر الاختلاف الشديد عنهم. مظهر هام للفلسفة الرواقية هي انها تؤمن بوحدة جميع الناس. الرواقية تعزز العالمية وهذا يأتي من فهم اننا جميعنا متساوون بصرف النظر عن المنزلة. نحن جزء من الطبيعة، جزء من اللوغوس.
يقتبس سينيكا، في العديد من الرسائل من ابيقور. هذا يسلط الضوء على حب سينيكا للفلسفة لأن الايبيقورية نُظر اليها كمافس رئيسي للرواقية. كان سينيكا متلهفا لتعلّم الحكمة. هو يرى ان الحكمة والحقيقة هما لجميع الناس بصرف النظر عن المصدر الذي تأتي منه. الحكمة هي ملكية مشتركة. هو يجادل مع ابيقور بانه عندما يكون المرء عبدا للفلسفة ذلك يجلب الحرية لأن الفلسفة والفهم الصحيح يحررنا من المعاناة ويجلب الهدوء (ataraxia).
الحكمة تجلب الحياة السعيدة
النقطة الاساسية بالنسبة لسينيكا هي "لا أحد يستطيع ان يقود حياة سعيدة بدون السعي للحكمة". سينيكا يعترف بان الفلسفة ليست محببة ولا هي مسلية وانما هي هامة جدا لتعلّم كيفية عيش حياة أعمق واكثر معنى. انها تحدد الشخصية، وتجلب النظام للحياة، تعطي ارشادا في كيفية التصرف وما يعمله المرء او لا يعمله في مختلف الظروف. انها تحافظ على ابقاء السفينة متوازنة وباتجاه الهدف المقصود. الأهم من ذلك كله، ان سينيكا يسلط الضوء مرة اخرى على ان الفلسفة تجلب الحرية من الخوف والقلق. وبما انها تتولى مهمة كشف الحقيقة في العالمين البشري والالهي، فهي توفر عزاءً في أوقات المحن. نحن نرى الواقع كما هو واقعا وليس لأن الآخرين يفترضونه او يخبروننا عنه. وهنا تكمن الراحة.
تنمية المرونة
الرواقية تدعو للاتزان حتى وسط اكثر التقلبات في الحياة. وكما لاحظنا انفا، سينيكا عاش في فترات غير مستقرة في ظل حكم اثنين من الاباطرة الاستبدادين الأكثر قسوة. في رسائله، سينيكا عادة يفكر في الحاجة الى تربية الفضيلة الداخلية والمرونة ليكون الفرد حرا من القلق. ان دراسة الفلسفة كانت هي الاساس في هذا، كذلك، نصح سينيكا بمواجهة الخوف وقبول الموت عبر التركيز على اللحظة الراهنة. في موضوع بعنوان (حول قصر الحياة)، وفي (الرسائل) ايضا، هو يؤكد على عيش كل يوم كاملا كما لو كان الاخير. هو يكتب، "كل يوم .. يجب ان يُنظم كما لو كان اليوم الاخير في السلسلة، يوم يستكمِل حياتنا".
اساسا،هذا عبارة عن عيش بإمتنان، معرفة ان ثروة المرء يمكن ان تتغير بسرعة. انه ايضا يأتي من العيش بفضيلة والتصرف من دوافع شريفة. عمليا، سينيكا ينصح بشكل من التدريب الزاهد للناس الذين يعيشون في خوف من فقدان ثروتهم ومكانتهم. هو اعتقد بانه لأجل ان تكون مرنا في أوقات الشدة فمن الضروري ممارسة هذا التدريب من خلال محاكاة ظروف صعبة. يجب على الشخص ان يمارس مرة واحدة في الشهر كونه فقير عبر قيامه بتزيين الخرق البالية، يأكل فقط الخبز والماء وينام في أماكن خشنة. بهذه الطريقة، يستطيع الشخص ادراك ان ما يخشاه لم يكن سيئا جدا، وان الفضيلة الداخلية، وليست الظروف هي مقياس الشخص.
شيئان يسببان التعاسة
يرى سينيكا اننا ننزعج بشيئين اثنين، الاول هو تذكّر المشاكل في الماضي، والثاني هو القلق مما يأتي من أشياء في المستقبل. هدف سينيكا هو ازالة كلا النوعين من التفكير. الماضي لم يعد يشكل اي اهتمام، والمستقبل لم يأت بعد. عندما تحل الكوارث والصعوبات، يجب على الشخص "المواجهة بكامل الحماسة والتصميم". المكافأة ليست الشهرة او الثروة وانما في "القيمة الاخلاقية" و "قوة الروح".
تجدر ملاحظة، ان سينيكا يقول "كل شيء معلّق على تفكير المرء". التجارب والمحن يمكن جعلها افضل او أسوأ اعتمادا على الكيفية التي يفكر بها الشخص تجاهها. ان عزاء الفلسفة وليس اتّباع افكار الحشد هو منْ يرشد المرء للتفكير بالطريقة الصحيحة.
حين تكون رواقيا في مواجهة الموت
هنا يتسع التفكير حول الموت عبر قبوله وعدم الخوف منه. سينيكا جادل بان الحياة اذا كانت شريفة فهي ليست غير تامة. من المهم جدا ان تكون "انسانا جيدا" اكثر من أي شيء آخر وحالما يتحقق هذا، سيكون الباقي مجرد اضافة. الموت ليس الاّ انتقالا او تحوّلا الى شيء آخر. سينيكا يقول "كل رحلة لها نهايتها".
بعد وقت قصير من كتابة رسائله الى لوسيليوس، واجه سينيكا موته، حيث أمره الامبراطور نيرو بالإقدام على الانتحار. الكثير من حياة سينيكا تلفّها التناقضات، لكنه واجه موته رواقياً وبشكل درامي مثير. كان حدثا مدبّرا حيث شرب السم وهو محاط بأصدقائه مقلّدا بذلك موت سقراط. من السهل رؤية لماذا ينال سينيكا إعجاب الناس حاليا. نحن نواجه العديد من نفس القضايا المتعلقة بظروف الانسان، أقلها فهم كيف نعيش حياة جيدة.
***
حاتم حميد محسن
.................
The collector.com, Sep 29, 2025