قضايا

حاتم حميد محسن: كيف أثّر انتصار ارسطو على ديموقريطس سلباً في تقدم العلوم؟

لا يمكن ابدا فهم التاريخ بشكل كامل من خلال أسئلة "ماذا لو"، لكن لا يوجد شيء مثير للاهتمام بالنسبة للحضارة الغربية اكثر من النقاش الفلسفي بين ديموقريطس وارسطو. هذان الفيلسوفان الكبيران تصادما حول طبيعة المادة ذاتها وهو الخلاف الذي أثّر على العلم قرابة 2000 سنة.

ديموقريطس تصوّر الكون باعتباره مؤلف من ذرات غير مرئية تتحرك في فراغ، اما الثاني ارسطو نظر الى عالم مؤلف من عناصر ملموسة ومستمرة. في النهاية، منْ ساد كان هو الأكثر شهرة بين الفيلسوفين، وانتصاره حدد بعمق مسار الفيزياء والمعرفة الإنسانية.

نظرية ديموقريطس مقابل المنطق البديهي لأرسطو

النقاش بين ديموقريطس وارسطو دار حول سؤال يبدو بسيطا وهو: ممّ صُنع العالم حقا؟

في احدى الزوايا وقف المفكر ديموقريطس من مدينة ابديرا القديمة في تراقيا. وفي وقت ما من القرن الخامس ق.م هو حقق قفزة مذهلة في المنطق – وبالخصوص في دراسة العقائد الواسعة في ذلك الوقت. هو جادل انك اذا تستمر في تجزئة الشيء الى قطع أصغر وأصغر فانت سوف تصل في النهاية الى نقطة لا يمكن فيها التجزئة . هو سمى هذه العناصر الأساسية غير القابلة للتجزئة بـ "atoma" في اليونانية "غير قابلة للقطع".

وفق رؤيته، يتألف الكون من هذه الذرات التي تتحرك من خلال فضاء فارغ تتصادم وتتشابك لتخلق كل ما نراه من أشياء. هذه كانت رؤية مذهلة وحديثة للكون لم تتطلب آلهة او اسطورة لتوضيحها.

لنتصور كم كان هذا الاتجاه مبتكرا وشجاعا في زمن وثق فيه الناس فقط في عيونهم وحواسهم.

وفي الزاوية الأخرى من هذا النقاش الفلسفي يقف ارسطو. كتلميذ لافلاطون ومعلم للإسكندر الأكبر، كان تأثيره هائلا. هو فحص نظريات ديموقريطس ولم يكن امامه الا التحقق منها. فكرة "الفراغ" صدمته واعتبرها مستحيلة منطقيا. نظرية ارسطو الخاصة تأسست على ما يمكن ان تتصوره الحواس، او على ما يراه الانسان ويشعر به. هو دافع عن فكرة ان كل الأشياء مؤلفة من أربعة عناصر: الأرض والماء والهواء والنار. انه كان نظاما بديهيا وأنيقا في توضيح العالم بشكل تام، وما هو اكثر أهمية، كان منطقيا بالنسبة لمتوسط الأشخاص. انت يمكنك ان ترى الخشب (ارض) يتحول الى لهب ودخان (نار وهواء) وتشعر ان الماء يتحول الى بخار. انها عملية مبسطة. بالنسبة لأرسطو، هناك هدف ومكان لكل شيء.

فكيف اذن اشتهرت نظرية ارسطو الأقل دقة – وفق ما نعرفه اليوم - وسحقت كليا الفكرة العلمية الدقيقة والمدهشة للذرات؟ الجواب يكمن في النفوذ والايديولوجيا. عمل ارسطو احتُفظ به لقرون واعتُبر من قبل العديد من الناس الحقيقة النهائية حول كيفية عمل العالم. كتاباته أصبحت أساس التعليم في الإمبراطورية الرومانية وجرى استيعابها لاحقا من جانب العلماء المسلمين والمسيحيين. رؤيته التيلولوجية (الغائية) بان لكل شيء غرض متأصل  - تنسجم بشكل رائع مع المعتقدات الثيولوجية التي هيمنت على اوربا في القرون الوسطى. الكون الذي عُرّف بالهدف (تيلوس)، وخُلق بفعل كائن الهي، كان فهمه أسهل من الايمان بالذرات العشوائية والفوضوية المتراقصة في فراغ افترضه ديموقريطس.

النظرية الذرية جرى رفضها بشكل واسع ليس فقط لأنها خاطئة وانما لأنها ملحدة وخطيرة. وبالتالي، كتابات ديموقريطس ضاع معظمها او كُبحت ليتبقى منها فقط هوامش في أعمال منتقديه بمن فيهم ارسطو.

العلوم أغلقت حصراً في الاطار الارسطي، والذي كما نعرف الان كان معيبا في الأساس. لعدة قرون، توقفت التحقيقات الجادة في تركيب المادة . الكيميائيون أمضوا اجيالا محاولين تحويل الرصاص الى ذهب بالارتكاز على أفكار ارسطو في تغيير العناصر، بينما الحقيقة الثورية للذرات لم تنل الاهتمام وبقيت دون تحقيق. انها اخذت قرونا حتى جاءت تجارب مفكري النهضة وعلماء القرن التاسع عشر مثل جون دالتون لتكتسح في النهاية الدوغما القديمة وأحيت الروح العلمية لديموقريطس.

عندما نتأمل في هذا المسار الطويل والمختلف في الفهم، سنرى كيف ان التقدم العلمي يمكنه ان ينحرف وينقلب بمرور الزمن. النصر النهائي للنظرية الذرية يذكّرنا بانه في بعض الأحيان يتضح ان أشد الأفكار راديكالية وغرابة يثبت في النهاية انها صحيحة.

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم