قضايا

أكرم عثمان: فن التأثير بين الوعظ المباشر والحكمة في التعامل مع الآخرين

كم هو مؤلم أن يظهر الإنسان أستاذيته للآخرين عندما يوجه انتقاداته، فهو في ظنه يرفع من مكانته ويثبت ذاته أمام الآخرين، لكنه في الحقيقة يولد نفوراً داخلياً ومقاومة صامتة عند من يتلقى هذه الملاحظات، وقد تتحول الكلمة التي يقصد بها الإصلاح إلى مصدر ضغوط نفسية أو شعور بالنقص والدونية. حين يكشف الإنسان أخطاء الآخرين أمام الجماعة ويبرز ضعفهم، يشعر بالنشوة على حساب الآخرين، فتفقد ملاحظاته التأثير الإيجابي ولا تبني احتراماً أو ثقة متبادلة، بل على العكس، تجعل الشخص المستهدف مقاوماً للتوجيه ويحتفظ بما في صدره من انفعال وغضب قد يظهر في السلوكيات اليومية أو الانعزال النفسي، وقد يتحول النقد المباشر إلى بركان صامت يخلق بيئة مشحونة بالعدائية أو الانسحاب.

أما الشخص الذي يتصرف بحكمة ويراعي مشاعر الآخرين في أسلوبه، ويهذب كلماته ويتصرف بلطف، فيتمكن من تحويل أي ملاحظة إلى فرصة للتطوير والنمو وزرع الثقة والاحترام المتبادل، فيصبح مصدر إلهام وتأثير إيجابي، فتلامس كلماته قلوب الآخرين وتترك أثراً في نفوسهم وسلوكهم وتفكيرهم. هذا الشخص لا يهدف إلى إظهار تفوقه أو رفع ذاته على حساب الآخرين، بل يحرص على الحفاظ على كرامتهم، ويقدم النقد بطريقة تراعي مشاعرهم، فتجعلهم يشعرون بالراحة والاحترام والاعتبار، ويصبح نقده محفزاً للتعلم والتغيير، لا سبباً للرفض أو الاحتقان النفسي.

إن الفرق بين أسلوب الصرامة والوعظ المباشر وأسلوب الحكمة والتوجيه اللطيف واضح في جميع جوانب الحياة. ففي بيئة العمل، المدير الذي يوبخ موظفاً أمام زملائه يخلق جواً مشحوناً بالقلق والخوف وفقدان الثقة، وقد يؤدي ذلك إلى ضعف الأداء أو مقاومة التعليمات ورفضها، بينما القائد الذي يلتقي بالموظف بشكل خاص يبدأ بالتقدير والثناء على جهوده ثم يقدم الملاحظة بطريقة لطيفة وبناءة، فيصبح الموظف أكثر استعداداً لتقبل النقد والتغيير، ويزيد التفاعل الإيجابي، ويتحول النقد إلى أداة للتطوير وتحسين الأداء دون فقدان احترام الذات أو الاحترام المتبادل. فشتان ما بين مدير يحرِج موظفيه ويحاسبهم وهو يرفع سلطته عليهم، فيفقد احترامهم ويتعامل مع سلوكهم من زاوية سلبية لا ترى النور، بل تقبع في ظلامٍ دامس؛ وبين قائد يحترم الكرامة الشخصية، ويبني ويطور وفق رؤية قيمية وأخلاقيات عمل راقية ترتقي بالفعل والممارسة الإيجابية والمهذبة. فالأول يزرع النفور ويضعف الانتماء، أما الثاني فيلقى القبول، ويغرس الثقة، ويحسن الأداء، وينمي الولاء الحقيقي ويثري جودة العمل ومنظومة الفاعلين فيه.

أما في التعليم والتدريب، فالمعلم الذي يوبخ المتعلم والمشارك أمام زملائه قد يشعره بالإحراج ويولد شعوراً بالنقص، وربما يصبح مقاوِماً للتعلم واكتساب المهارات أو يظهر سلوكيات مضادة بسبب الإحساس بالإهانة والتعدي على كرامته، بينما المعلم والمدرب الذي يختار أسلوباً لبقاً ولطيفاً ويشرح لطالب العلم والمتدرب ما ينبغي فعله مع تشجيع دائم على تطوير مهاراته، يخلق بيئة تعليمية وتدريبية آمنة ويساعد المتعلم على التعلم بثقة وراحة، فيصبح النقد أداة للتوجيه وليس سبباً للعصبية أو النفور. وفي الحياة اليومية، الصديق الذي يسخر من صديقه أمام الآخرين قد يخسر احترامه ومودته، بينما الآخر الذي يعالج الأخطاء بلطف ويقترح حلولاً عملية، يصبح مصدر دعم وتأثير إيجابي، ويخلق جواً من الثقة والمحبة، فتصبح الملاحظات فرصة للنمو والتعلم، وليس أداة للتحقير أو الإحباط أو التقليل من شأن الآخرين.

لقد جاء الإسلام ليعلمنا هذا الأسلوب في التعامل مع الآخرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قدوة في تقديم الموعظة بالحكمة واللين، وقد قال في الحديث الشريف: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا" [رواه البخاري ومسلم]، وهذا يعكس أسلوب التوجيه العام بدون إساءة أو تحقير ويعطي مثالاً عملياً على كيفية تقديم الموعظة بطريقة تراعي مشاعر الناس وتحث على الإصلاح دون إثارة النفور أو الانفعال. كما جاء في القرآن الكريم: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159]، وهذه الآية الكريمة تؤكد أن الفظاظة والغليظة تؤدي إلى النفور، بينما الرحمة واللين والرفق يجلب القبول والتأثير الإيجابي في نفوس الآخرين، ويجعل الإنسان محبوباً وفاعلاً في مجتمعه ومؤثراً بطريقة لطيفة وبناءة.

إن فن التأثير الحقيقي لا يكمن في إظهار الأستاذية أو رفع الذات على حساب الآخرين، بل في الحكمة واللين والرحمة عند تقديم الملاحظات والنقد. الشخص الحكيم يوازن بين الصراحة والمراعاة وبين الصرامة والرحمة، ويحول النقد إلى فرصة للتطوير والتحسين بدلاً من أن يكون سبباً للرفض أو النفور. ويظهر ذلك جليًا في قدرته على التفاعل مع مختلف الشخصيات، فالذي يتقن فن التوجيه باللين يجعل كل كلمة تصل إلى القلب وتترك أثراً إيجابياً، بينما من يستخدم أسلوب الصرامة والعناد يثير مقاومة داخلية ويولد جواً من النفور والانعزال النفسي. في النهاية، الحكمة واللين ليست ضعفاً بل هي قوة حقيقية في التأثير وبناء العلاقات الإيجابية، مما يجعل التأثير دائماً مستداماً ويعكس شخصية متزنة وقادرة على التغيير الإيجابي في الآخرين.

***

د. أكرم عثمان

3-12-2025

في المثقف اليوم