قراءة في كتاب

علجية عيش: رؤية مهنا الحبيل للظاهرة القرآنية وسؤال هل اغتيل مالك بن نبي؟

من خلال كتابه أزمة المستقبل الإسلامي "البحث عن المخرج"

رسالة وجهها مهنا الحبيل إلى الإسلاميين ليطوروا فكرتهم في الدولة الحديثة وأن يضعوا أرضية فكر وعمل لتحقيق الشراكة المجتمعية، أي تأسيس أممية إسلامية؟، يرحل بنا مهنا الحبيل في كتابه لنعيش معركة المفاهيم والمصطلحات، ونجده يوظف الكلمات والمعاني توظيفا علميا رغم اختلاف الباحثين في التعامل مع المفاهيم وتعريفها وهذا لاختلاف التوجهات الفكرية، فما يراه الإسلامي يختلف عن ما يراه العلماني، لأن الصراع فكري طائفي، في كتابه يتساءل مهنا الحبيل إن أمكن لثورات الربيع العربي العودة من جديد؟ لا شك أنها عادت بعد السابع من أكتوبر 2023 فيما يسمّى بطوفان الأقصى وهو طوفان حركة مشاعر الجماهير حتى التي على غير دين الإسلام

انطلاقا من ثلاثيته: (فكر السيرة، التنوير وزمن اليقظة) يقدم الناقد مهنا الحبيل مقاربات فكرية جريئة من أجل الكشف عن المسكوت عنه والمقبور من قضابا الأمّة معلنا بقناعته بما يطرحه من أفكار ونقاشات لعله يعيد للحضارة الإسلامية بريقها التي فقدته وهي تفتح نوافذها على العصر الحاضر تغيّر فيه الخطاب الديني الوعظي وسؤال النهضة المجهضة اليوم كما يقول هو، مرورا بوائل حلاق وإدوارد سعيد والمسيري وفرانز فانون خاصة وهؤلاء قدموا مقاربات لأزمات ومشكلات يعيشها الإنسان الحديث، وقد اتخذ مهنا الحبيل ثورات الربيع العربي منطلقا لدراسته ليجدد النقاش عن سؤال الدولة الحديثة ذات المرجعية الإسلامية، هذا السؤال الذي شغل بال كثير من المفكرين وفي مقدمتهم المفكر الإسلامي شكيب أرسلان في سؤاله لماذا تأخر العرب وتقدم الغرب؟، ليمر بعدها إلى المفكر الجزائري مالك بن نبي.

وقبل التطرق إلى القراءة التي اجراها الحبيل عن مالك بن نبي، يتساءل مهنا الحبيل في الباب الأول من كتابه إن كانت ثورات الربيع العربي أن تعود من جديد؟ لا شك أنها عادت بعد السابع من أكتوبر 2023 فيما يسمّى بطوفان الأقصى، هذا الطوفان الذي انشرت نيرانه في الساحات العالمية وفي دول مثل باكستان، وإيران وسوريا، ذلك من خلال الفواتير التي دفعتها الشعوب العربية والانقسام الطائفي الذي تعيشه اليمن والخسارة التي لحقت بالمعارضة الإسلامية في مصر (الإخوان المسلمين) والحروب الأهلية التي عاشتها تونس وليبيا، إلا أنه يلاحظ أن الناقد مهنا الحبيل وهو يؤرخ للثورات العربية ويوثق أحداثها استثنى الجزائر التي عاشت عشرية سوداء وحراكها الشعبي في فبراير 2019، ويلاحظ أن مهنا الحبيل يأخذ بالنموذج الفرنسي الذي أسقط الملكية وهيمنة الكنيسة، حيث يرجع الباحث مهنا الحبيل تاريخ الأزمة الفكري إلى تاريخ الحكم الإسلامي الذي أدخل الإسلاميين في صراع من أجل قضية التوريث وطريقة الحكم وإخضاعه إلى الشريعة الإسلامية لا بالقوانين الوضعية.

الحبيل ومعركة المفاهيم

يرى مهنا الحبيل أن الإشكالية لا تتعلق بالمصطلح أو المفهوم بل في التأهيل الاجتماعي للوصول إلى العدالة السياسية وتنظيم الرقابة على الحاكم، ومن خلال قراءتنا لكتابه بعنوان" أزمة المستقبل الإسلامي (أرسله إلينا بصيغة PDF)، يبدو أن مهنا الحبيل انتهج منهج الشيخ النورسي الذي تحدث في رسائله عن "المشروطية" (أي البرلمان) الذي له حق الرقابة على الحكومة، حيث يرسم الحبيل صورة الخلافة أيام عمر الفاروق وهي كما تسمّى بالحكومة الراشدة، قبل أن تُغَيَّبَ بسبب التراكمات التي وقعت في الساحة السياسية في موقع السقيفة، كما يربط مهنا الحبيل واقع التشريع الإسلامي بمدرسة الحداثة التي يطالب دعاتها بتطليق الماضي، معتمدا في ذلك برأي وائل حلاق في الدولة المستحيلة، والسؤال: ماذا يراد الحبيل بالدولة المستحيلة؟ فهل يريد الحديث عن الدولة الإسلامية أم الدولة الأممية التي نادى بها حزب التحرير أو القاعدة؟ أم أن الحبيل يريد بالدولة المستحيلة تيار إسلامي جديد؟ يتمثل في شخصية "المهدي المنتظر"، فلكل تيار إسلامي إيديولوجيتة، هي رسالة وجهها مهنا الحبيل إلى الإسلاميين ليطوروا فكرتهم في الدولة الحديثة وأن يضعوا أرضية فكر وعمل لتحقيق الشراكة المجتمعية أي تأسيس أممية إسلامية؟ وهذا يعني أن يتخلى الإسلاميون عن مشروعهم الإسلامي.

 والسؤال: ما هو المصطلح أو المفهوم الذي يناسب التيار الإسلامي في العالم الإسلامي في بناء المستقبل الإسلامي؟ فنحن دوما نصطدم أمام المفاهيم والمصطلحات مثلما أشار إليه الباحث في الصفحة 24 عندما وضع عنوانا فرعيا بصيغة سؤال: قضية مصطلح أو مفهوم؟ وكما جاء في الفقرة الأولى من نفس الصفحة وحديثه عن الديمقراطية يقول أن الثوب الديمقراطي متعددٌ، فالديمقراطية في المفهوم الغربي تختلف عن الديمقراطية في المنظور الإسلامي، يلاحظ أن مهنا الحبيل يتلاعب بالكلمات والألفاظ وبطريقة احترافية جدا وهذه عادة الباحث المتمكن من اللغة العربية، محاولا التأكيد أن القضية ليست في المصطلح، حيث نجده يفرق بين الدولة القطرية والدولة الأممية ونجده في الصفحة 27 يذكر مفاهيم عديدة للدولة (الدولة الفدرالية في الفقه الإسلامي، دون أن يستثني الدولة المدنية في أفق الشريعة رغم أن جذور الدولة المدنية علمانية، وهذه الأخيرة ( العلمانية) تحتاج إلى تفكيك، لأن الدولة العلمانية لها نزعة "وجودية" وهنا يدخل عنصر " الإلحاد"، الذي طبقته شيوعية ماوتسي في الصين وستالين في الإتحاد السوفياتي، والإسلام والعلمانية خطان لا يلتقيان في نقطة واحدة وما ظهور الحركات الإسلامية إلا لمواجهة الأنظمة العلمانية القائمة على النزعة المادية.

فالدين هو العدوّ الأوّل للماديين من البراغماتيين والوجوديين، إذ يرون أن الدين ما هو إلا اختراع وهو مجرد نظريات بدائية من الطبيعة والإله عندهم خرافة، وبالتالي فقد تمثلت دعوتهم في القضاء على كل المرجعيات الدينية التي تقف ضد أيّ تطور وتقدّم ( ومنهم سارتر)، ويذهب الدكتور مهنا الحبيل إلى هيكل الدولة المعاصرة كدولة منفصلة في إطار الدولة الكونفدرالية أمام ما تشهده هذه الدول من تمزق، وهذا يعني أن الأممية الإسلامية وحدها القادرة على أن تحفظ أمن وسلامة المسلمين من المعتدين عن طريق عقد "ميثاق"، أو جمعها في مرجعية واحدة، وهذا صعبٌ لأننا نقرأ عن إسلام الوهابية ( السعودية) وإسلام الشيعة (إيران) وإسلام الإخوان المسلمين في مصر ( السنّة) وإسلام الجزائر الذي لم نعثر على صفة له ولا اسم، إن كان إسلام محمد عبد الوهاب؟ أم إسلام ابن تيمية؟ أو إسلام محمد عبده؟، أو إسلام الشيخ محمد الغزالي؟ أو إسلام الشيخ فركوس؟، وأصبحنا نقرأ عن "إسلامات" وليس إسلام واحد كدين وعقيدة، فنقرأ عن الإسلام الحضاري ( الحداثي) والإسلام الوراثي (التقليدي/الأصولي)، كان على الحبيل أن يبسط فكرته أو وجهة نظره من "المسألة الدينية" التي تطرق إليها كثير من المفكرين ومنهم مالك بن نبي، خاصة وأن الباحث تطرق في الصفحة 38 للحديث عن الطوائف الدينية والمذهبية، في هذه الصفحة يطرح مهنا الحبيل سؤالا: ماذا عن القناعات الشخصية في الحياة العلمانية؟ ويضيف أنه صعبٌ الإجابة على هذا السؤال، لأننا سوف نصطدم مع حالة الحكم الإسلامي أيام الحسن بن علي بن ابي طالب ومعاوية.

سبب انهيار العالم الإسلامي يرجع إلى لاعقلانية الدين الإسلامي

هذا ما تعلق بالباب الأوّل، أما الباب الثاني ينتقل مهنا الحبيل إلى مواقف العلماء المسلمين والجدل القائم بينهم حول كثير من القضايا، مقدما الغزالي وابن رشد نموذجا في المسائل المتعلقة بالتصوّف وما يرافقها من طقوس وقِدَم العالَم وتناسخ الأرواح، وكانت النتيجة أن الاثنان ( الغزالي وابن رشد) اتفقا على أن الخوض في هذه المسألة كمن دخل دهليزا شديد الظلمة ولن يستطيع الخروج منه، كما شمل الباب الثاني الحديث عن آراء فلاسفة أخرين ومنهم الفيلسوف طه عبد الرحمان ورؤيته للأخلاق في جانبها الفلسفي، إذ يشير بالقول أن سبب انهيار العالم الإسلامي أو الحضارة الإسلامية يرجع إلى لاعقلانية الدين الإسلامي ولا " تسامحيته"، يقارن الحبيل هنا بين النص القرآني والنص الإنجيلي الذي تعرض للتحريف، موضحا موقف اليمين المتطرف من النص القرآني، ليشير أن هناك رسالة فكرية معطلة في إعادة بعث الفكرة الإسلامية في منابر ومنصات وإيصالها للنخبة والجمهور معًا ومنها يتلقى اليمين الضربة، وهنا نلاحظ أن مهنا الحبيل يُرْجِعُ الفراغ الكبير الذي يعاني منه العالم الإسلامي والمسلمين إلى "الظاهرة القرآنية"، بوصفها خطابا روحانيا وعقلانيا، وهي تحتاج إلى منصات يجب الوصول إليها والسعي لتحقيقها، وإن كانت الأمة الإسلامية لا تملك المنابر، فوجب نقلها إلى مسار الحوار الأكاديمي بين الشرق والغرب، نقف مع الحبيل في هذه النقطة، لأن حوارنا الديني هشٌّ وضعيفٌ ويفتقد أحيانا إلى المصداقية بسبب الغلوّ والتشدد.

ملحمة غزة هل هي صراع حضاري..؟

ليس من السهل الإشارة إلى كل ما جاء في كتاب الحبيل، ولذا ارتكزت القراءة على جملة من الأفكار الهامة التي تتزامن مع ما يحدث في الساحة العربية لاسيما الحصار الذي يعانيه الغزاويون، والذي وصفه هو بـ: " الملحمة"، حيث نقرأ في الفصل الرابع موقف الحبيل من الحصار، حيث اختار له عنوانا يجلب انتباه القارئ العربي " ملحمة غزة في صراع الحضارات"، وهذا من باب التوثيق لهذه الأحداث طارحا بذلك السؤال التالي: هل ما يحدث هو صراع حضارات؟، لقد شكلت ملحمة غزة لحظة مواجهة للتاريخ الحداثي الذي أطبق على العالم، في الواقع ( مجرد وجهة نظر) لم يعد السؤال عن صراع الحضارات أو صراع الأديان أو صراع الثقافات، ولم يعد السؤال عن ما بعد الموحدين الذي طرحه مالك بن نبي في كتاباته وفي أطروحاته الفكرية، ولم يعد السؤال كذلك حول ما بعد الحداثة الذي طرحه الحداثيون أنفسهم، بل يحق لنا أن نطرح سؤال عن ما بعد الإنسانية وفشل الفكر الإسلامي في أنسنة الإنسان، في ظل الذكاء الصناعي وظهور الإنسان الآلي ( الروبوت)، فقد وقف الإنسان البشري أمام هذا الإنسان الآلي العملاق تائها مذهولا وفي حالة دهشة وحيرة وتعجب شديد، حيث تحوّل من سيّد إلى عبد لآلة هو صانعها، وهذا يعني سقوط "النهضة" أو انتحار الحضارة الإنسانية إن صحّ التعبير.

 فخروج الأمة العربية والإسلامية من المستويات الدامية (العنف والتطرف) إلى الصراع السياسي التدافعي مرهون بخلق بيئة نهضوية بعد أن تتقدم فكريا، وقد اهتم الدكتور مهنا الحبيل في المسألة النهضوية برؤية مالك بن نبي لكثير من المشكلات وهو يعالج المشكلة الحضارية وظاهرة التخلف وشروط النهضة، نقرأ ذلك عندما تطرق مهنا الحبيل إلى مذكرات مالك بن نبي وسؤاله المثير: هل اغتيل مالك بن نبي؟ طبعا لا أحد يعلم إن كان مالك بن نبي اغتيل حقا أم موته كان طبيعيا؟، ولكنني أرى أن تعبير مهنا الحبيل كان مجازيا، فمالك بن نبي كان يعيش الموت البطيء وقد قال عن نفسه في مذكراته أنه كان منبوذا وهو ما نسميه بـ: "الاغتيال المعنوي"، فمالك بن نبي عاش ظروفا قاسية جدا أولها الاستعمار الفرنسي، ووفاة أمه، ثم البيئة الفكرية التي عاش فيها بن نبي في باريس واشتباكه الفكري مع المفكر الفرنكفوني ماسينيون، وقد شهد شاهد من خارج الجزائر بأن مالك بن نبي كان محاصرا حصارا علميا وظيفيا، وفي هذا يحيل مهنا الحبيل القارئ العربي إلى إعادة قراءة فكر مالك بن نبي وشروط تأسيسه نهضة شاملة، وهذا النهوض لا يتحقق إلا بمحاربة التصوف الوثني والتجاذبات بين السلفية والصوفية التي دأبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة ابن باديس على محاربتها، نقف مع الطرح الذي قدمه الحبيل، إلا أننا نختلف معه في ما جاء في الصفحة 160 ( الفقرة الثانية وكأن المؤلف يب ريد إحداث شقاق بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورجال المقاومات الشعبية ( الأمير عبد القادر والشيخ السنوسي..) وهذا قد يشعل الحرب بين الجزائر وليبيا كون هؤلاء لهم قدم راسخة في التصوف، كما نراه يقيم الشيخ النورسي في أفكار مالك بن نبي ( الصفحة 164) الفقرة الأولى بأن مالك بن نبي كان يسترسل في نقد العلماء بحجة أنهم يمثلون المدرسة الزيتونية والأزهرية ووصفهم بالعجزة، فمعظم العلماء الجزائريين تخرجوا من الزيتونة، كما أن بن نبي لم نقرأ أنه كان له مشروع وهابي بالمعنى الدقيق، فقد تناوله بن نبي بالنقد وكان له موقف من قضية " السبلة".

***

قراءة وتعليق: علجية عيش

في المثقف اليوم