قراءة في كتاب

خليل الحمداني: الكتابة ضدّ الطمأنينة

قراءة في كتاب «الإنسان الرقمي والحضارة القادمة» لدانيال كوهين

مدخل: من ثورة الآلة إلى ثورة الخوارزم

- يكتب دانيال كوهين وكأنه يلتقط نبض حضارةٍ تغيّر جلدها: من الصناعة الثقيلة إلى الخفّة الرقميّة؛ من الآلة الصاخبة إلى الخوارزم الصامت. الجديد هنا ليس أداة الإنتاج فحسب، بل صورة الإنسان نفسه: كيف يتعرّف إلى ذاته، وكيف تُعاد صياغة رغباته وعلاقاته ومعرفته بالعالم. لهذا، نقد الذكاء الاصطناعي عند كوهين ليس «تقنياً» ضيّقاً؛ إنّه نقدٌ أنثروبولوجي–أخلاقي–اقتصادي لبراديغم كامل يستبدل الفهم بالتنبّؤ، والتجربة بالبيانات، والمعنى بالإحصاء.

- الكتاب، بهذا المعنى، جرس إنذار حضاري: إذا كانت الثورة الصناعية قد صاغت الإنسان العامل–المواطن، فإن الثورة الرقميّة تَعد بصياغة «الإنسان العيّنة»؛ فرد يُقاس، يُتنبّأ بسلوكه، ويُوجَّه بخوارزميات لا تدّعي السياسة بل «الحياد العلمي». هنا تبدأ خطورة اللحظة: سلطة بلا سيادة، وضبطٌ بلا صراخ، وأدلجةٌ تقنعنا أنها ليست أيديولوجيا.

أولاً: أطروحة كوهين – الإنسان الرقمي بين منصةٍ وسوق

- يرى كوهين أن انتقال القيمة من عالم السلع إلى عالم الخدمات والبيانات أعاد تعريف العمل والملكيّة والفائض:

‌أ) العمل يتشظّى: مهام صغيرة، اقتصاد «جيغ»، عمل غير مدفوع الأجر يؤديه المستخدم وهو «يتصفّح».

‌ب) الملكيّة تتمركز: منصّات قليلة تملك البنية التحتيّة للمجال العام الرقمي (شبكات، سحابة، متاجر تطبيقات).

‌ج) الفائض يصبح خوارزميّاً: قيمة تُستخرج من أنماط سلوكيّة ضخمة، تُحوَّل إلى قوّة تنبّؤ وتسويق وتوجيه.

- في هذا الاقتصاد، لا تعود المنافسة الكلاسيكيّة كافية لتفسير التمكين؛ بل تأثيرات الشبكة، والاحتكار الطبيعي للهياكل المنصّاتيّة، وشبكات الملكيّة الفكريّة والبيانات. وهكذا يتولّد نوعٌ جديد من التفاوت: تفاوت الوصول إلى البنية التحتيّة المعلوماتيّة وإلى ملكيّة المصفوفات التي “تقرأ” المجتمع.

ثانياً: نقد الذكاء الاصطناعي – من العقل التفسيري إلى عقل التنبّؤ

- أذكى أبواب الكتاب وأكثرها استفزازاً هو كشفه التحوّل من «عقلٍ يفسّر» إلى «عقلٍ يتنبّأ». الذكاء الاصطناعي كما يشتغل اليوم لا «يفهم» العالم؛ إنّه يرصّ صوراً إحصائية عن العالم. هذا التحوّل يغيّر أخلاق المعرفة:

‌أ) المعنى يتراجع لمصلحة الدقة التنبؤية.

‌ب) الخبرة الحيّة تتراجع أمام البيانات الضخمة.

‌ج) الحُكم الأخلاقي يتوارى خلف «حياد» الخوارزم، الذي سرعان ما يتبيّن أنه مغمور بتحيّزات البيانات ومنطق السوق.

- كوهين لا يشيطن التقنية؛ إنّه يشيطن التسليم لها باعتبارها قدراً. الذكاء الاصطناعي، إذن، مرآةٌ لخياراتنا المؤسّسية: هل نريده أداة تمكينٍ عام، أم ذراعاً لريعٍ معلوماتي مركّز؟

ثالثاً: مقارنات ومقاربات – حوارٌ مع أدبيات «الرأسمالية الرقمية»

1. شوشانا زوبوف: «رأسمالية المراقبة»

- تلتقي أطروحة كوهين مع زوبوف في توصيف نوع الفائض الجديد: فائض سلوكي يُحوّل التجربة الإنسانية إلى مادة خام. زوبوف تذهب أبعد في تفكيك منطق الهيمنة:

‌أ) استخراج الخبرة الحياتية إلى بيانات،

‌ب) تحويلها إلى منتجاتٍ تنبؤية،

‌ج) بيعها كقوة ضبط في أسواقٍ جديدة للسلوك.

- كوهين يشاطرها التحذير، لكنه يضيف بُعداً اقتصادياً–كلّياً: أثر ذلك على العمل والتفاوت والنموذج المدني برمّته.

2. بيونغ-تشول هان: «مجتمع الأداء»

- هان يصف «الذات المنبسطة» التي أذابت الحدود بين العمل والذات: أنت مشروع دائم لتحسين نفسك. هنا يضيء كوهين نقطةً مكمّلة: الذات المنبسطة ليست فقط خطاباً ثقافياً؛ إنها ضرورة بنيوية لاقتصاد المنصّات الذي يحتاجك متصلاً دائماً، مُنتجاً للبيانات، متاحاً للتسليع 24/7.

3. إيفان إيليش: «أدوات للاعتماد المتبادل»

- إيليش سَبق الجميع بالسؤال الأخلاقي: متى تتحوّل الأداة إلى بنية تسلبنا القدرة؟ كوهين يثبت أن البنية الرقميّة بلغت هذا الحدّ: أدواتنا تصوغنا، لا العكس. الخوارزم ليس «اختياراً فردياً» محضاً؛ إنه بيئةٌ شاملة تتسلّل إلى التعليم، الصحة، العمل، السياسة.

4. يورغن هابرماس/فوكو (لمس سريع)

‌أ) عند هابرماس، يتآكل المجال العمومي حين تحتلّه أنظمة وظيفيّة (كالمال والإدارة). يضيف كوهين طبقةً ثالثة: الخوارزميات كمنطق وظيفي جديد يستعمر التواصل.

‌ب) فوكو يذكّرنا بـ السلطة الحيويّة والضبط اللطيف: هنا تبدو المنصات كأرقى تجسيدٍ للانضباط بلا عصا.

رابعاً: وهل يدقّ كوهين جرس إنذار للرأسمالية؟

- نعم؛ لكن الإنذار عنده ليس نبوءة سقوطٍ قريب، بل تحذير من «نجاحٍ مفرط» يمكن أن يختنق تحت وطأة ذاته. الرأسمالية، تاريخياً، لا تسقط من تلقاء نفسها؛ تتكيّف. الجديد أن تكيفها اليوم يمرّ عبر:

‌أ) تركّز غير مسبوق في السيطرة على البيانات والبنى السحابية.

‌ب) ريع معلوماتي يقتطع من كل تفاعل اجتماعي.

‌ج) تحلل عقود العمل وامتداد العمل إلى مجمل الحياة.

- جرس الإنذار إذن مزدوج:

1. اقتصادي–اجتماعي: انقسام جديد بين من يملك المنصّة ومن يعمل داخلها/عليها، بين من يكتب الخوارزم ومن تُكتب حياته به.

2. أخلاقي–سياسي: خطر تحويل السياسة إلى «إدارة سلوك»، والديمقراطية إلى «هندسة رضا».

خامساً: أين تذهب تنبؤات الماديّة التاريخيّة وفلاسفة الحتميّات؟

1. ماركس وما بعده: علاقات إنتاج البيانات

- لو قرأنا اللحظة بمنظار المادية التاريخية، سنجد:

‌أ) قوى الإنتاج قفزت إلى فضاء البيانات والخوارزميات،

‌ب) علاقات الإنتاج تعيد توزيع السيطرة: مالكو المنصّات/السحابة/الموديلات في كفّة، ومستخدمون–عمّال مشتّتون في أخرى.

‌ج) الطبقة العاملة» لا تختفي؛ تتبدّل: من عمّال المصنع إلى عمّال البيانات (مطوّرون، معلّمو بيانات، موسومون، سائقو منصّات، صانعو محتوى…)، ومن العمل المأجور إلى مزيجٍ من المأجور والمجّاني (الوقت/الاهتمام/التتبّع).

‌د) فائض القيمة الخوارزمي: ليس ما ينتجه العامل في الساعة فقط، بل ما ينتجه المجتمع ككلّ عبر مساراته اليوميّة حين تُستخرج إلى نماذج مربِحة. هنا تكتسب «الملكيّة الاجتماعية للمعرفة» معنىً مادياً جديداً: لمن تعود البيانات؟ ومن يقرّر استخدامها؟

2. غرامشي والهيمنة: من المصنع إلى الخوارزم

- هيمنة المنصّات ليست قسراً مباشراً؛ هي رضى مُهندس: واجهات لامعة، خدمات مجّانية، ولوجٌ إلى عالمٍ بلا احتكاك. الماديّة التاريخية الغرامشيّة تساعدنا في رؤية الحرب على الحسّ المشترك: من يعرّف «الطبيعي» في الحياة اليومية؟ اليوم، الخوارزم يقترح علينا ما نقرأ ونرى ونحبّ، ثم يقنعنا أن اقتراحه «اختيارنا».

3. حتميّات الاقتصاد/التقنية – هل هي قدَر؟

- فلاسفة الحتميّات قد يقولون: التقنية تُحدّد المجتمع (حتميّة تقنيّة)، أو الاقتصاد يحكم الباقي (حتميّة اقتصاديّة). كوهين يرفض السذاجة في الطرفين: صحيحٌ أن التقنية ليست محايدة، لكن المؤسّسة السياسيّة قادرة على توجيه مساراتها عبر اللوائح والملكيّة والمنفعة العامّة. وصحيحٌ أن الربح محرّكٌ مركزيّ، لكن المجال الأخلاقي والقانوني ليس أثاثاً زائداً؛ إنّه ما يقرّر إن كنا في «رأسماليّة رقابيّة» أو «اقتصاد معرفة ديمقراطي».

4. التنبؤ الماركسي بسقوط الرأسمالية… مؤجّل أم متحوّل؟

- الاختناق الداخلي الذي تَنبّأ به ماركس يتجلّى اليوم بصيغٍ جديدة: احتكارات منصّاتيّة، أزمات شرعيّة للديمقراطية، تفاوت صارخ. لكن الرأسماليّة، كما علّمتنا قراءاتها النقديّة اللاحقة، بارعة في الارتكاس: تُعمِّم الخسائر وتخصخص الأرباح، وتحوّل الأزمات إلى فرص تنظيمية لها. لذلك، السؤال الأجدر ليس: هل تسقط؟ بل: كيف نكبحها سياسيّاً وأخلاقيّاً كي لا تسقط بنا؟

سادساً: ما العمل؟ (مداخل سياساتية وأخلاقية عملية)

- إذا أخذنا تحذيرات كوهين بجدّية، تبدو بعض المداخل مطلوبةٌ الآن–الآن:

1. سيادة البيانات والحقّ فيها: اعتبار البيانات الشخصية موردًا ذا طبيعة مشتركة؛ تمكين الأفراد والمجتمعات من حقوق النفاذ، النقل، الحذف، والربح العادل من استثمارها.

2. شفافية النماذج وقابليّة التدقيق: إلزام المنصّات وآليّات اتخاذ القرار الخوارزمي بمعايير الشرح، التدقيق المستقل، وآثار المخاطر.

3. تنظيم الاحتكارات المنصّاتية: مكافحة الاندماجات المولّدة للهيمنة؛ فصل البنية التحتيّة عن الخدمات، ووضع معايير قابليّة التشغيل البيني (interoperability).

4. حقوق عمّال البيانات: نقابات رقمية، حدّ أدنى للأجور في أعمال التسميات/المحتوى، شفافية خوارزميّات التخصيص والتقييم.

5. دخل أساسي/ضريبة على الريع المعلوماتي: إعادة تدوير جزء من القيمة الخوارزمية إلى عموم المجتمع.

6. تعليم نقدي للذكاء الاصطناعي: من «التربية الإعلامية» إلى التربية الخوارزمية: كيف تعمل النماذج؟ أين تتحيّز؟ كيف نُفاوضها ولا نسلّم لها؟

7. حماية المجال العام الرقمي: توسيع دعم المنصّات المفتوحة، والبنى السحابية العمومية/الهجينة، وتشجيع بدائل لا–ربحية في قطاعات حسّاسة (تعليم، صحّة).

- هذه ليست وصفة مثاليّة؛ إنها درعٌ أخلاقي–مؤسّسي يسمح للتقنية أن تُثمر دون أن تلتهم المجتمع.

سابعاً: مساهمات الكتاب وحدوده

- قوّته: الجمع بين الاقتصاد الكلّي وقلق الفيلسوف الأخلاقي. كوهين يُمسك بالخيط الذي يربط «السوق» بـ«النفس»، ويذكّرنا أن معارك القرن الحادي والعشرين لن تكون فقط على الأجور والضرائب، بل على تعريف الإنسان نفسه.

- حدوده: ميلٌ إلى «صورة كلّية» قد تُفرط في التشاؤم الثقافي؛ الحاجة إلى تفصيل أكبر في سيناريوهات السياسة الصناعيّة للذكاء الاصطناعي خارج هيمنة المنصّات (مختبرات مفتوحة، نماذج مجتمعية، سياسات بيانات سياديّة في الجنوب العالمي).

خاتمة: أنسنةُ الذكاء… قبل «تذكيك» الإنسان

- أجل، كوهين يدقّ جرس الإنذار للرأسمالية المنصّاتية—لكن ليس كي نجزع، بل كي ننظّم. والماديّة التاريخية، التي طالما بدت للبعض «حتميّةً» صمّاء، تستعيد هنا أفضل ما فيها: قدرةٌ على تسمية علاقات الإنتاج الجديدة (البيانات/الخوارزميات) ودعوةٌ لتغييرها سياسيّاً.

- الذكاء الاصطناعي ليس نبوءة نهاية؛ هو اختبار لقدرتنا على صوغ عقد اجتماعي جديد:

‌أ) يَعتبر المعرفة والبيانات ثروةً مشتركة لا غنيمة احتكار،

‌ب) يضمن ألا يتحوّل «الإنسان الرقمي» إلى ظلٍّ خوارزمي لذاته،

‌ج) ويصون أن يكون المعنى فوق المعادلة، والحرّية فوق التنبّؤ.

- في النهاية، ليست المسألة: «هل سنُهزَم أمام الخوارزميات؟» بل: هل نملك الخيال المؤسّسي والأخلاقي لنجعلها تعمل لصالح الإنسان؟

هذا هو رهان كوهين الحقيقي. وهذا هو الواجب الذي يضعه بين أيدينا: أن نُنسّن الذكاء قبل أن نُحوِّل الإنسان إلى «ذكاءٍ» بلا قلب.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

في المثقف اليوم