قراءة في كتاب
أحمد يعقوب: ثناء على الجيل الجديد.. كتابٌ للتربية

لاشكّ في أنّ القارئ لمتن نصوص وكتابات د. عبد الجبار الرفاعي يسترعي انتباهه رأساً الطّابع التّعليمي، أو إن شئنا الدّقة البُعد التربوي الذي يسم محاوراته، ويمكن إعتبار كتاب " ثناء على الجيل الجديد" من أهم الكتب التي تناولت قضايا جيل الآباء والأبناء في الخمسين سنة الماضية، بالاضافة لمناقشتها قضايا التربية والتعليم ، وهي قضايا تهم مجتمعاتنا أكثر من غيرها بمقتضى ما حصل من تطورات وتحولات في العالم الذي نعيشه اليوم.
يقوم د. عبدالجبار، غير هيّابٍ بتفكيك نُظم التربية في عصر الآباء، الذي إنهمك في نظام أحادي لرؤيته للعالم والقيم والمعايير، فاذا به يصطدم بتطورات ضخمة ومتسارعة في عصر الأبناء؛ حيث تبدلت الموضوعات نفسها، واتخذت المفاهيم أشكالاً جديدة تتمظهر وتتجلى من خلالها، مما يعني أن جيل الأبناء تحكمه نظم متعددة محايثة لواقعه وتشبه أفقه العقلي (أفق العصر)، وقد تجاوز النظرة الأحادية التي سادت في عصر الآباء وأحدث قطيعة كبرى معها؛ مما أحدث فجوة وهوة عميقة بين الآباء والأبناء، وهو معطى القطيعة بمعناها الفلسفي.
يدافع الرفاعي عن جيل الأبناء ضد أؤلئك (الآباء)، الذين يرون في هذا الجيل أنه بلا مسؤولية، ونبع ذلك من عدم قدرة الكثيرين من جيل الآباء لرؤية التوسعات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وايقاع التغيير الذي طال كل شيء، وبالتالي اتساع الفجوة في كل شئ تقريباً من حيث نمط الحياة والرؤية للعالم، والتّعاطي مع التعقيدات ونُظم تلقي المعرفة بالنسبة لجيل الأبناء؛ ولا نفهم من هذه السياقات أن عبدالجبار الرفاعي يمارس التحريض، بل هو يمارس التفكير المواكب لمتطلبات هذا العصر ومتطلبات الأبناء. إذ لا ينسى المؤلف عرض كيفية تلقي المعرفة ونُظمها عند جيل الآباء، وما شكلته هذه النّظم والتي أحياناً شبه أحادية أو أحادية في نظرتها وتعاطيعها مع العالم وموضوعاته.
يشير د. الرفاعي الى عنصر مهم وفاعل في حياة جيل الأبناء، وهو تخلّصهم من الاستعباد لشخصية الأب وشخصية العالم، والتي هي رؤية الأب بالتحديد؛ وربّما تخلّصهم من القيود التي تعيق تواصلهم أو اكتسابهم لنظم جديدة تواكب التحولات التي يعيشونها؛ وهو ما أدى الى بروز ظاهرة الاغتراب في العلاقة ما بين الآباء والأبناء؛ حيث نعيش اليوم وفق نظام لا يمكن مواكبته دون التعامل مع تسارعه التقني، وقدرة الشخص على الانتقال شبه الدائم لمعالجة موضوعات شتى في فترات زمنية قصيرة؛ ضمن هذا الاطار يفكك د. الرفاعي أشكال العلاقة بين الآباء والأبناء؛ حيث يطلب جيل الآباء الطاعة والانقياد وأحياناً الرضوخ الكامل؛ وهو مايواجه بتمرد عنيف من الأبناء، ولحل الاشكال هذا يطالب المؤلف جيل الآباء بالسماح للأبناء بالانخراط في مواقع السلطة السياسية والحياة الاجتماعية والثقافية، باعتبار أن جيل الأبناء هو أثمن رأسمال للحاضر والمستقبل.
ينحاز د. عبدالجبار الرفاعي بشكل لا مواربة فيه لجيل الأبناء، ويقول أنه تعلم منهم أكثر مما تعلم من جيل الآباء؛ وهذه روح توضح حجم التحولات والتغيرات التي حدثت في عالمنا المعاصر، وخاصة في العشرين عاماً الماضية، وتبيّن ضرورة المواكبة، والا عاش الانسان في كهف ذاكرته أو كما يقول جيل الأياء في السودان: "زمننا أفضل ونتمنى أن يعود ذاك الزمان"، وقد خبرنا نحن جيل الأبناء بالاخص هذه البكائيات من جيل الآباء.
ويعتبر حقل أو علم التربية من الحقول الرئيسة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إذ إنه يقدم إسهامات منهجية وعلمية وتطبيقية كبيرة، خلال مسيرة طويلة من العمل الرصين والإنجازات اللافتة. ومن ذلك كون كليات التربية في العالَم مصدر التموين الأساسي لوزارات التعليم والتربية، عبر الإسهام في تطوير سياسات التعليم وفلسفته، وتأمين خطوط كافية لإنتاج: المعلمين الأكفاء، وصنّاع المناهج والمقررات، وخبراء التعليم والتعلم والتقويم، وهذا ما يفسر سر الاهتمام الكبير بكليات التربية في مختلف دول العالم[1]. وتشكل نُظم التربية والتعليم وطرق اكتساب وتلقي المعرفة والتي بنيت على أساسها تاريخاً طويلاً من سلطة الآباء في بلداننا وسيطرتهم على كل شئ؛ أحد الموضوعات المهمة في فكر الرفاعي؛ وفي عالمٍ يشهد تحولات كبيرة في فضاءاته لاتزال هذه النظم تمسك بتلابيب مجتمعاتنا المتخلفة وتمنعها من الاستفادة من النظم الحديثة، لأن العقل التربوي لا يزال ماضوياً.
وحيث إن المشهد التربوي ضمن سياق التحديات والتشوهات التي يعيشها، بحاجة ماسة لمراجعة نقدية صارمة عامة للحقل التربوي ذاته. ولكي تكون هذه المراجعة مثمرة، فإنه يتوجب أن يقوم بها مفكرو التربية أنفسُهم، والذين هم بحاجة ماسة في مجتمعاتنا على وجه الخصوص بمواكبة التطورات التقنية والتحديثات التكنولوجية، وعلى أن يكون أس هذه المراجعة النقدية إبستمولوجياً، وذلك راجع إلى أن النقد الإبستمولوجي قادر على تشخيص أصل الداء في حقل التربية.
يمكن للمرء أن يلاحظ حالة الخطاب التربوي المدرسي في شعوبنا؛ والذي يكاد يبدو للناظر من الخارج أنه خطاب يجتر التاريخ ولا يبدع الحديث، بل هو بعيد من الابداع لدرجة انه غير مواكب للتطورات التي يشهدها عالمنا اليوم؛ وحيث إن نُظمنا التّعليمية تعمّق حتى الفوارق ( الطّبقية)* في المجتمع، صانعة بذلك هوة عميقة سوسيولوجياً يعاني منها غالبية الذي تعرضوا لهذا الخطاب؛ أمّا أؤلئك الذين تلقّوا تعليمهم في الخارج فأول ما يدركونه هو النظام المعرفي الذي من خلاله يتلقون تعليمهم؛ حيث يتبدى النظام المعرفي في جملة مفاهيم وقضايا معاصرة، وتحديث مستمر للمناهج وطرق التدريس نفسها، وكيفية استهلاك المعرفة...الخ. ولتوضيح هذه النقطة المتعلقة بتحديث النظم المعرفية لتواكب متطلبات العصر الراهن كتب مارك تايلور مقالا في Nature عنونه "Reform the PhD System or Close It Down” يقول فيه: " تتبع معظم برامج الدكتوراه هيكلاً يعود تاريخه إلى جامعات العصور الوسطى في أوروبا. الهدف؛ إنتاج نسخ مكررة من الأساتذة المختصين عبر استنساخهم. ولا يزال هذا النموذج الصارم قائماً حتى اليوم، رغم تغيّر سوق العمل الأكاديمي تغيّراً جذرياً. " ويواصل بالقول: " نظام الدكتوراه عند مفترق طرق حاسم: إما أن يتجدد لمواكبة متطلبات العصر الحديث، أو يُصبح بلا قيمة. بتبني التعلم متعدد التخصصات، وشراكات الصناعة، والتطورات التكنولوجية، يمكن لبرامج الدكتوراه استعادة قيمتها. أما إذا رفضت الجامعات التكيف، فستستمر في تخريج طلاب غير مؤهلين لسوق العمل الحالي" . ولنا أن نتخيّل ان هذا ما يتداوله الغرب حالياً في قضايا تحديث النظم المعرفية؛ ونتساءل في اي طريق نحن؟
في مناظرة شهيرة حول موضوعات شتى بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو في العام 1971 يطرح فوكة خطر مؤسسة ( الجامعة) بقوله: " أعتقد ان ممارسة السلطة السياسية تتم كذلك عبر عدد آخر من المؤسسات التي تتظاهر بأنها لا تملك شيئا مشتركا مع السلطة السياسية وباستقلاليتها عن الدولة, غير انها ليست كذلك.. يعلم المرء بأن الجامعة – وبصورة عامة كل الانظمة التعليمية التي تبدو وكانها ببساطة تنشر المعرفة فقط. صُنعت للمحافظة على طبقة اجتماعية معينة في موضع القوة، ولحصر امتلاكها لأدوات القوة دون الطبقات الاجتماعية الأخرى" وهي صورة أخرى لكيفية سيطرة النظم التربوية والتعليمية على حيوات الناس، عبر تدجينهم واكسابهم صفة الاستنساخ للتجارب القديمة ( جيل الآباء)، أو كما يريد ذاك الجيل ان تبقي الامور كما هي .
هل نحن في حاجة لاعادة تعريف مفهوم التربية؟
من أهم الموضوعات التي تتفرد بها التربيةُ دون غيرها؛ ما يتعلق بـ المناهج والمقررات تصميماً وتعليماً وتطبيقاً وتقويماً وتطويراً، باستخدام كافة الأساليب التربوية التقليدية والحديثة في التخصصات المختلفة. إذن، هذا حقل أصيل، بل لعله من أكثرها أصالة، بحيث لا تُنازَعُ فيه التربيُة، إذ هي الحقل الذي يمتلك “حق التشريع” إزاء هذا الموضوع المبحوث منهجياً وبحثياً وتطبيقياً، ويعد هذا أسمى أنواع الملكية للموضوعات المبحوثة.
تحتاج المؤسسات التربوية عندنا لاعادة تعريف هذا المفهوم ؛ ولوضع أسس سوسيولوجية جديدة لمهامها وأهدافها. ويشير د. الرفاعي بطريقة ما في خطاطته عن الفروقات بين جيل الآباء وجيل الأبناء إلى ما يسميه بيار بورديو بالعنف الرمزي، الذي يمارس من خلال المؤسسات التعليمية وبالاخص المدرسة، والتي تسعى بطريقة أو أخرى للمحافظة على الوضعية القائمة، (يفهم في سياق جيل الآباء) الذين يودون أن تبقى الأمور على ماهي عليه؛ وحيث يتميز العنف الرمزي في المدرسة بقدرته الكبيرة على المخادعة الأيديولوجية وبناء الأوهام التربوية على نحو طبقي، وضمن هذه الممارسة الرمزية تبدو المدرسة على أنها مؤسسة محايدة طبقيا.(2) لكن المدرسة في جوهرها ليست محايدة أبدا، وهي تمارس التطبيع الفكري والأيديولوجي للطلاب، وتقوم في الوقت نفسه بإضفاء الشرعية على الأوضاع الاجتماعية السائدة في المجتمع في اتجاه المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي القائم. وهي بفعالياتها الرمزية تقوم بتمتين وترسيخ العلاقات الطبقية القائمة في المجتمع، تحت ستار استقلال نظام التعليم وحياديته الظاهرة. ومن الطبيعي أن يعزز المجتمع هذه الاستقلالية النسبية للمدرسة، حيث يتم إنشاء هيئة من المتخصصين والمهنيين في مجال العمل التربوي والمدرسي لتقوم بتسيير النظام المدرسي وفقا للاعتبارات الوظيفية والأيديولوجية المحددة في المجتمع.
حوى الكتاب مجموعة من المفاهيم القيمية والاخلاقية ضمن تربية الانسان؛ كالحب، والصمت، وقضايا الدين، ومفهوم التراث والتجديد، وهي في صلب عملية بناء الانسان . هذا كتاب للمؤسسات التعليمية والسياسية، ويمثل رؤية لأفق العصر وما ينبغي أن يكون عليه الانسان وكيف تتم تربيته؛ آمل أن يقرأ هذا الكتاب، وان يكون ضمن مناهجنا، وقبله يجب ان يتم تدريسه للتربويين والمهتمين بمسائلها والمسائل التعليمية.
***
د. احمد يعقوب
كاتب من جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان
......................
هوامش:
1-عبد الله البريدي - نداء ابستمولوجي إلى مفكري التربية: تفحصوا حقلكم – مجلة حكمة 17-10-. .2021.
2- بيداغوجيا الرمز والعنف الرمزي في منظور بيير بورديو – علي أسعد وطفة – مدونته الشخصية على الانترنت
* لا نستخدم الطبقة هنا بمفهومها الماركسي وانما في سياقها الاجتماعي المرتبط بالتفاوتات الطبيعية بين البشر.