قراءة في كتاب

قراءة في كتاب

في الذكرى الرابعة لرحيله

فائز الزبيدي: "كي لا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!"

قد يتصور بعضُهم العنوانَ غريباً، لكنه يذكّرنا بنبش القبور والتمثيل ببقايا رفات الموتى وإعدامهم في الصراع بين الأمويين والعباسيين!

فنحن إذن أمام عمل يحاكي التاريخ ويقدم أليغوريا الصراع بين الخير والشر وسيمفونيا انتقام يعاني منها بالذات المتعصبون حتى وقتنا الحاضر، لا سيما وأنه كُتبَ في زمن سقوط الأيديولوجيا وصعود الانقسامات الطائفية والسجالات الدينية والاتهامات بين الماضويين من ذوي الولاءات المذهبية.

تكمن أهمية كتاب "حادثة إعدام الموتى" للكاتب العراقي الراحل فائز الزبيدي1935-2019 في كونه يحمل وجهة نظر أدبية جديدة حول تناول واقعة الطف من عدة زوايا. ولأن مؤلفه معروف كفنان تشكيلي نظّمَ معرضه الشخصي الأول في الخمسينات، وساهم في تطوير الصحافة العراقية من خلال اتحاد الشعب وطريق الشعب، وحصل على الدكتوراه وأصدر نتاجات في الرواية والقصة والشعر، وهو إضافة إلى كل هذا وذاك، معروف كشخصية اجتماعية بين العراقيين في الخارج.

هذا الكتاب مكرسٌ لأسرار قَتْلِ الإمام الحسين ابن علي ابن أبي طالب سبط الرسول محمد هو وأسرته. ومن المعلوم أنه كُتب عنه العديد من الإبداعات لمبدعين من مختلف الخلفيات الثقافية و"الدينية"، ففي الشعر يكفي أن نذكر قصيدة "آمنتُ بالحسين" للجواهري في العهد الملكي 1947.  مطلعها:

فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَع

*

بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ

وقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد التي كتبها ونشرها في زمن الحصار على العراق إبّان حكم صدام حسين 1995. لم تكن مثل هذه الأفكار محرمة رغم خطر انتشار الأحزاب المذهبية والطائفية على الدكتاتوريات "القومية والوطنية".

وقال عنه عبد الرزاق عبد الواحد في قصيدته (في رحاب الحسين)

قَدِمتُ .. وَعَفْوَكَ عن مَقدَمي

حَسيراً، أسيراً ، كسيراً، ظَمي

*

قدِمتُ لأ ُحرِمَ في رَحْبَتَيْ

سَلامٌ لِمَثواكَ من مَحرَم ِ

*

فَمُذْ كنتُ طفلاً رأيتُ الحسين

مَناراً إلى ضوئِهِ أنتَمي

ونقتبس هنا بعض النماذج الشعرية عن الحسين من مقال: "الحسين في الأدب العربي" الرائع للأستاذ محمد فايز جاد:

قال الشاعر الراحل أمل دنقل عن الحسين:

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ إن الحسين

مات من أجل شربة ماء

وكذلك الراحل نزار قباني، حيث قال في "آخر جندي يخرج من غرناطة":

ظلي معي فلربما يأتي الحسين

وفي عباءته الحمائم والمباخر والطيوب

ووراءه تمشي المآذن والربا

وجميع ثوار الجنوب

وقال السياب في قصيدته "انتصر الحسين" التي يخاطب فيها يزيدًا بن معاوية:

وأسدر بغيك يا يزيد فقد ثوى

عنك الحسين ممزق الأشلاء

ولكنه، مع هذه الظلمة يرى أن الحسين انتصر، فيخاطب يزيدًا:

قم فاسمع اسمك وهو يغدو سبة

وانظر لمجدك وهو محض هباء

*

وانظر إلى الأجيال يأخذ مقبل

عن ذاهب ذكرى أبي الشهداء

*

كالمشعل الوهاج إلا أنها

نور الإله يجل عن إطفاء

وفي العامية المصرية  كرّست قصائد عن الحسين، بالذات بعد ارتداد ثورة يوليو، ففي "إني رأيت اليوم"، من ديوان "المانيفيستو" للشاعر المصري مصطفى إبراهيم، بعد أحداث شارع "محمد محمود"، يقول إبراهيم:

إني رأيت اليوم.. الصورة من برّة

وقلت الحسين لسة.. حيموت كمان مرة

*

إني رأيت اليوم.. فيما يرى الثائر

إن الحسين ملموم.. فوق جثته عساكر1

وصدرت أربعة أعمال مهمة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب أصبحت من كلاسيكيات الأدب الحديث والمعاصر، مثل: "أبو الشهداء الحسين بن علي" 1945 لعباس محمود العقاد (توفي 1964)، و(ثأر الله): (الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا)، 1969 –1970 لعبدالرحمن الشرقاوي (توفي 1987)، و"أبناء الرسول في كربلاء" لخالد محمد خالد (توفي 1996) أما كتاب الفتنة الكبرى لطه حسين فيختلف عن الأعمال المذكورة.

انتشرت هذه الكتب في فترة صعود التيارين اليساري والقومي في البلدان العربية، ولم يفكر أحد من جيل الشباب المتنور من غير الأوساط الدينية آنذاك بالولاءات المذهبية والطائفية على عكس الواقع الحالي حيث ظهرت حركات دينية طائفية متشدّدة ومتطرفة وتكفيرية. قد تكون هي السبب في إصدار هذا الكتاب للمؤلف فائز الزبيدي، الذي نحن بصدده في هذا المقال.

عناوين هذه النتاجات تفصح عن موضوعاتها وطريقة تناولها، حيث تعبّر عن قدسية سبط النبي محمد والإقرار بثورته والتعاطف معه ومحبته، لكن دون تكفير الآخر وشتمه. الشرقاوي مثلاً تحدثَ عن حبه الكبير للحسين في إهدائه لكتابه، وذكر الكاتب اللبناني اليساري حسين مروه هذه الميزة. أما خالد محمد خالد فوصفَ واقعة الطف بقدسية يؤمن بها ملايين الناس من كل العالم: اليوم الفريد والمجيد والرهيب عالمياً كما أشار الدكتور زكي الميلاد.

وميّز محمود عباس العقاد بين الحسين الهاشمي المثالي "المبدأي" ويزيد سليل الأمويين الأصلاء العبدشمسيين (من عبد شمس). وعندما أشيرُ إلى هذه النتاجات عن الحسين فأتذكر أن بعض أفراد جيل الشباب من مختلف الانتماءات الفكرية والمذهبية في السبعينات أقبل على قرائتها، وتأثر بها وترسخت صورة الحسين "الثورية" والميثولوجية الشعبية  في القلوب قبل العقول.

ويشير الباحث السعودي زكي الميلاد (ولد عام 1965) الحائز على جائزة الثقافة والإعلام للكِتابْ السعودية عام 2017 إلى انبهاره بمسرحيتي: "الحسين ثائراً" و"الحسين شهيداً" لمؤلفهما عبدالرحمن الشرقاوي صاحب رواية "الأرض" الواقعية المشهورة حيث يقول: "هذا هو الشرقاوي الذي حفر في وجدانه حبًّا عميقًا للحسين، فحفر في وجدان الآخرين حبًّا له"2.

ويكرر الأستاذ زكي الميلاد نفس الإعجاب  في مقاله الآخر: العقّاد وأبو الشهداء3.

أضحى الحسين شخصيةً "ثوريةً شعبيةً" يجسد استمرارَ التقاليد الشعبية الاسطورية والميثولوجيه كما يتضح في إحياء ذكرى مقتله بطريقة "التشابيه" الحية في الشوارع والساحات العراقية منذ الستينات، التي لا تختلف عن مسرح الطقوس.

ولهذا ليس من الغريب أن يكرس الفنان التشكيلي الكبير كاظم حيدر1932-1985 عدة لوحات لتمثلات الطف مثل "ملحمة الحسين" و"مصرع إنسان" التي غيّر اسمها إلى:"ثورة الحسين" وهي موجودة في قاعة الفن الحديث والتي حلّلها د. فائز الزبيدي في مقدمته لكتابه الحالي الذي نحن بصدده، ولوحته الثانية: "ملحمة الحسين. وكرّس أغلب الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار لوحاتِهم لواقعة الطف.

ومن المفيد القول هنا إن عدداً من كتّاب القصة العراقيين تناولوا في قصصهم هذه الموضوعة في بداية التسعينات، وقد أشار أيضاً بعضهم إليها في حوارات لي معهم عن أعمالهم والمسرح كطقس.

فكريًّا انحاز العقّاد إلى موقفَ الحسين واعتبره شجاعاً، بينما يزيد مناقض له ولايقارنهما بينما لم يقحم فائز الزبيدي نفسه بهذه المهمة ظاهريا مفضلاً تناولها في العمق ومابين السطور.

والاختلاف الجوهري بين تلك الأعمال أنها تناولت شخصية الحسين بقدسية لكن ليس بعيداً عن الأدبية والتاريخانية ايضاً على عكس كتاب فائز الزبيدي، إذ إنه يحمل وجهة نظر أخرى مختلفة بعيدة عن التقديس.

وهو ليس بغريب على كاتب مثل فائز الزبيدي، حيث يمكن بحسب رأيي الشخصي أن يُقال عنه، إنه لا يريد أن يكرر الآخرين، وإنما يمحّص كل ظاهرة قبل أن يكتب عنها، وبالذات إذا ما انتشرت وأثّرت على الحياة العامة.

بالنسبة لكتابه "حادثة إعدام الموتى"، فإن فائز الزبيدي لا يريد أن يكتب عنها بالأسود والأبيض ولا يصنف أبطالها بهذه الطريقة، ولا يأبلس الملائكة ولا يجعل من الشياطين ملائكة، بل أراد الغوص في أعماق شخصيتَي "الأمير" الشاعر الإنسان ثم الخليفة يزيد بن معاوية، ويسبر عالمه الداخلي ويقدّم سرديتَه من عدة جوانب.

ولا يعني ذلك أن فائز الزبيدي يبرر جريمة القتل، لكنه يريد أن يقف عند حيثياتها وأسبابها ويميز بين مغزاها التاريخي واللاتاريخي الميثيولوجي والديني والشعبي، وهذا طرح جديد جريء في تناول موضوعة الحسين، له دور كبير في الفكر العربي المعاصر.

وفائز الزبيدي لا يحب المسلمات، أو لا يقبل الأمورَ على عواهنها، ولهذا اخذ هذه الموضوعات بجدية ودراستها عن كثب، لا سيما وأنها سُيّستْ واستهلَكتْ المجتمع العربي في الوقت الحاضر، وهو كاتب اجتماعي يؤمن بدور  المسرح التوعوي فاختار نصاً مسرحياً لهذه الموضوعة، لكن ليس بدون عناصر الأنواع الأدبية الأخرى.

وأنا شخصيا أعتبرها مساهمةً كبيرةً ليتبين بأن المسلمين عموماً في الوقت الحاضر ليسوا معادين لأهل البيت كما يحاول بعضهم تصوير ذلك "للتجييش" السياسي.

‏الأمر الآخر الذي أودُّ أن اتوقف عنده وبالذات بسبب معرفتي بأسلوب الكاتب الراحل فائز الزبيدي هو اللغة فإنه أولى أهمية خاصة لفنيّتها. وأنا أتذكر أحاديثَنا الشخصية حولها منذ التقينا أول مرة في السبعينات حيث كنت في مقتبل العمر حيث ميّزنا اللغة المباشرة والتقليدية والأدبية، وكان يؤكد اهتمامَه بمستواها. لكني طبعاً لا أقصد هنا ضرورة أن تصل اللغة إلى مستويات تدخلها في متاهات قد تؤدي أحياناً إلى التعقيد والغموض كما هو الحال عند فوكنر وجويس.

قدم الشاعر الدكتور صلاح نيازي لمسرحية "حادثة إعدام الموتى" بمقدمة رائعة جداً، وهو الذي عرف فائز الزبيدي في عنفوان شبابة حيث كان يدرس معه في دار المعلمين، وحددَ نوع هذه المسرحية.

لكني أريد أن أشير أيضا إلى مقدمة يمام فائز الزبيدي الرائعة جداً المختصرة المكثفة ذات الدلالات العديدة كونها  حقّاً تصوّرُ حالةَ المؤلف الحساس والده في فترة التسعينات حتى يوم رحيله، وكان يمارس لعبة التعليق بالصمت.

وأنا أعرف فائز الزبيدي معرفة جيدة، وأدركُ ماذا يعني الصمت بالنسبة له فكان يلوذ ويجيب به على الأسئلة، إنها معاناة المثقف الملتزم الثائر الحائر.

يشرح يمام الزبيدي خلفية هذه النصوص، فهي تعود إلى أعوام 92 93 97 98 حتى 2000، وفهمتُ ان فائز الزبيدي أيضا كان مشغولاً أو يفكر في البحث عن القالب الأدبي المناسب لعمله: "حادثة إعدام الموتى"، هو يقول: ما بين النثر والشعر والمسرح والفصحى والعامية4.

هذا العمل  بالنسبة لي، خلطة هجينه جميلة من التخيّل التاريخي والسرد المسرحي والقصصي والتخيل التاريخي، تتميز بحوار بالمحكية أحيانا والفصحى، فضلاً عن الشعر الحر والعامي الشعبي والزهيريات، التي أعرف شخصيا شغفه بها، فهي تعبر عن حالة الكاتب وسارده وأبطاله وموضوعته.

وأشير إلى أنه نفسه قدم كتابه بمقدمة قد تكون في بعض المقاطع عصيّة الفهم على القارىء، لكنها أيضا قد تعبر عن حالة الكاتب في عدم وضوح بعض المواقف أو وجهات النظر ومنطلقاته لتفسير الحادثة.

‏ومن الأمور المهمة التي أشار إليها يمام الزبيدي انه يشرح او يصور حالة والده الكاتب أو عزلته عن العالم فيقول: "رحل أبي بعد مرضه روحياً وجسدياً" ...  إن ما في الملفات هذه النصوص قد يكون يحصل بها اختلافات"، وقال إن والده "كان ما بعد الحرب الثانية كأنه يستعد لها بالتمارين المستمرة على لعبة التعليق بالصمت، ابتعدَ عن الناس وامتنع عن الرد على الهاتف عن البشر".

‏أود أن أشير إلى تخطيطات (وجوه) فائز الزبيدي، إنه يعشقها، وأنا اتذكر جيداً من لقاءاتنا الأولى كان مولعاً بها يمارسها حتى اثناء جلساتنا، وأتذكر أني أعجبتُ جداً بها، وتألمَ في ذلك الوقت لأني لم أكن أعرف اسمَه كفنان.

طبعاً هو فنان تشكيلي أقامَ معرضه الشخصي في الخمسينات، لكنه مع ذلك لم يستمر في هذا المجال لظروفه الخاصة. فأصبح الفن التشكيلي بالنسبة له هوايةً وانشغَلَ في الدراسة والحياة وانكساراتها ومطبّاتها والبحث والنقاش الفكريين والكتابة، وانصرف عن عرض تخطيطاته، أو احتفظَ بها لنفسه بعيداً عن المعارِض.

لا يحب فائز الزبيدي التكرار أو الكتابة عن موضوعة بطرقٍ تقليدية:

اكد الكاتب الفاضل الصديق د. صلاح نيازي على أنه وطيلة الفترة الأولى التي تعرّف فيها إلى فائز الزبيدي لم يطلع على مذهبه، وأنا احترم جداً انطباعَه، أغلب العراقيين لم يكونوا مذهبيين (طائفيين) بالذات جيل الشباب الجامعي في الستينات والسبعينات، لكن مع ذلك أقول هنا إني عندما تعرفت إلى فائز الزبيدي، وهو كان بالنسبة لنا مثل المدرس ونحن في العشرينات من العمر بينما هو في الاربعينات كنا نستمع له، وكنا نتطرق إلى التاريخ بخاصة عن العلاقة بين الإمام علي والسيدة عائشة، وكان يقف إلى جانب الإمام علي بحماس، وينتقد السيدة عائشة وعمر بن العاص ومعاوية والخ، وكان "متحزباً" للإمام علي ، ليس بالمفهوم الديني طبعًا بل التاريخي و(الشعبي الميثولوجي بشيء من الرومانسية فيما يخص التشابيه الحسينية كطقوس).

ومقدمة الراحل فائز الزبيدي لكتابه "حادثة إعدام الموتى" مهمةٌ، للغاية، ينبغي على القارئ أن يقرأها إذا كان يهتم بفنيّة تناول الحدث ويحب أن يجد قالباً خاصاً لهذا النتاج، لكني فضلت قراءة النص قبل الاطلاع عليها، لأستمتع به وأرى طريقة تناوله لهذه الموضوعة.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌ ممتع، ولا بدّ لي هنا من الإشارة إلى بعض أفكار مقدمة الكاتب مثل فكرة التماهى مع الحسين، كما يؤكد عليها الكاتب ليست لدى الشيعة فحسب، بل السنّة أيضاً. ص 26

وأنا أرى تعلق الناس بالحسين أكثر "طقوسية" وشعبية وتراثية بالذات في مصر مثلاً، لكنه أقلّ حدة وخالية من الكاثارسيس (جلد الذات) مما هو لدى بعض أوساط الشيعة، من الذين ورثوها كتقاليد وطقوس منذ طفولتهم.

الأمر الآخر هو الدعاء والبكاء كطقوس مثلاً، فهذه كلها بعد مقتل الحسين اختلطت بالتاريخي واللاتاريخي وأصبحت اليوم من الميثولوجيا وهو سماء التعليق الجماعي على الموقف بالبكاء الطقسي فالزبيدي يعود بجذور المقاطع الحسينية إلى الذاكرة الشعبية من سهوب سومر القديمة. وهذه طبعاً تحتاج إلى إيضاح وتوثيق ودراسةٍ خاصةٍ. ص 19

يُعد المقتل الحسيني جزءًا من طقوسٍ مسرحيةٍ وأشار إلى ذلك  د. سليمان قطايه، كما يذكر فائز الزبيدي.

كذلك طغيان الخيال يجعل الراوي أقرب للشاعر الملحمي الشفاهي الجوال. ص 20

يقارن فائز الزبيدي المقتل بالميثولوجيا الدينية  البطولية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد. ص 22

وأودُّ أن أذكر أن كاثارسيس تعنى التطهير والتنقية والتنفيس و"جلد الذات" هي كلمة يونانية، وكانت تُمارس كطقوس إلى وقت متأخر في بعض مناطق أوروبا. وهذا أمرٌ يحتاج إلى دراسة عن كثب وتدقيق ومقارنة.

ويحلل فائز الزبيدي عمل الفنان الكبير كاظم حيدر لوحته "مصرع إنسان" بطريقة ناقد تشكيلي، ويشيد دكتور صلاح نيازي به، ثم تحدث بالتفصيل عن عمله الثاني (لوحته): "ملحمة الحسين" الموجودة في قاعة متحف الفن الحديث. تتميز باللا تاريخية وخلودها. ص 23-25

لا يصور فائز الزبيدي في مسرحيتة الطقوسَ والميثولوجيا التاريخية بل يكرس النص الى اعادة فلسفة الحدث التاريخي بطريقةٍ أدبيةٍ، وهنا إذا قارنّا بين طرحه وما كُتب عن الإمام الحسين سابقاً، فإننا لا نقول إنه يقف على الضد، بل على الأقل يختلف من حيث تحليل الشخصيات الأدبية بمن فيهم الإمام الحسين المجاهد في حياته والثابت في إيمانه وموقفه كما يصوّره  من خلال حوارات المسرحية.

نجد في هذا النص المسرحي التحليلَ وإعادةَ فلسفةِ الأحداث والغوصَ في أعماق النفس البشرية، بالذات الخليفة والشاعر "الإبيقوري" يزيد، كما يصفه الكاتب لكن بدون إصدار الأحكام الجاهزة عليه، والحسين وعائلته، والحادث كله ليس جريمة اغتيال وإنما يصوره كما لو أنها نتيجة عمل فرقة عسكرية تابعة لسلطة الخليفة قامت به، للقضاء على تمرد أو لنقل: "ثورة أو انقلاب".

الملاحظ أن فائز الزبيدي يتدخل بنفسه اثناء السرد المسرحي وضمن المتن، يُسلّحُ القارىء بتفسيراتِ الأحداث، من ذلك مثلاً يقدم لشخصية يزيد: "دفعت حادثة قتل الحسين بيزيد إلى الطرف الآخر النقيض من منطوقه "السلبي والإيجابي"، ... فاسق ... وبحثَ ناس في جذور هذا الجانب من شخصية يزيد، كما فعل الاستاذ الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه "الإمام الحسين"". ويقول أيضا: "لقد أصبح يزيد شخصية سلبية مغلقة،... لقد بدا لي يزيد في صورته شخصيةً بلا جذور، بلا ما ضٍ، أي كأنه وجد هكذا، جاهزاً: نذلاً بلا دوافع. وهذا ما استوقفني وأنا اكتب السطور الأولى من حادثة إعدام الموتى. فسعيت إلى إعادة النظر في هذه الشخصية. لاحظ هذا مهم جداً في السعي إلى إعادة النظر في هذه الشخصية: ترى من كان حقاً ذلك ال "يزيد" المنزوي في الطرف النقيض للإيجابي في منطوقة الخير والشر؟" ص 58

فإننا، إذن هنا أمام عمل فني مسرحي "أليغوري" عميق أو "منطوقة" كما يسمّيه الكاتب، يصوّر الصراع بين الخير والشر، رمزي  وليس سرديةً تاريخيةً وعظية عن مسلّماتٍ مقدّسةٍ.

ويبرر عاشق المسرح فائز الزبيدي هنا أسلوبَه وعمله وطريقته، فهو لا يأخذ الأمور على عواهنها كما قلت سابقًاً، يقول: "وجدت أنّ الدراما الجادة يجب أن تنظر في شخصية يزيد من حيث هو شأن جيله ...  شديد التعقيد. فتراث العرب كله، الذي ظل مستقراً منذ زمن لا تُعرف بداياته تعرض وجيل الحسين ويزيد في صباه، للزلزال الذي أحدثه الإسلام، فكل شيء هو ذاته وليس هو،... الحديث عن  يزيد: إرثه العبشمي. إنه وريث عبد شمس... الثرية، المتبطرة، التاجرة، حتى في تعاملها الذرائعي البارع مع الحركة الجديدة (الإسلام)، الحسية إذا ما قورنت بهاشم. وهو لم يتغذَّ بإرث عبد شمس المكية، بل في البيت الفريد من بيوت عبد شمس المقبل على سيادة العالم: بيت معاوية بن أبي سفيان. لقد رأى يزيد بعينيه الذرائعيةَ وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار على "القيم" الجديدة باعتبارها صوراً ذهنية.

كان يزيد شاعراً أكثر منه خليفة، كان حسيّاً، أبيقورياً دونما فلسفة، لايعبأ بالصور الذهنية عن الوجود، ويستغرب أن يفتدي الناس بأرواحهم قيمة ما مجردة. باختصار كان له موقفه الخاص من العالم، وحين يلجأ الأدب إلى اختصاره الى مجرد رجل تافه، فإنه يختصر المشكلة ذاتها: قتل رجل بسبب فكرة، ... بهذا السعي إلى فهم الشخصيات التزمتُ معالجة موقف المشتركين الآخرين في حادثة القتل تلك مثل عبيد الله بن زياد والشمر بن الجوشن، أي أنهم هنا شخصيات أدبية وليست تاريخية". أنظر مقدمة المؤلف لكتابه.

لا بدّ من القول إنه من الصعب هنا التمييز بين التاريخي والأدبي في مثل هذه الواقعة التي هزت الإسلام وقسمته، وهنا تكمن الصعوبة بالذات عندما يدور الحديث عن شخصية مهمة ومقدسة لدى أغلب المسلمين.

الكاتب يتحدث هنا بنفسه عن الحدث، يحلل نصه كناقد وليس كشخص من شخصيات السرد، ليس كراوٍ هنا يمكن أن يتحدث عن نفسه ويعلق على الآخرين والأحداث، وممكن أن نجد آراءَ المؤلف في حديث الراوي.

صحيح أن المؤلف ليس شخصيةً هنا في هذا النص، ولاسارداً عليماً أو راوياً لكنه بالتأكيد يقف خلف شخصياته الأخرى. أنظر ص 59- 58

وبشكل عام، يمكن القول إن جوهرَ فكرةِ "حادثة إعدام الموتى" لا يختلف كثيراً عن محمود عباس العقاد وبعض الكتّاب الآخرين في محاولتهم لتصوير الواقعة تاريخياً وأدبياً، ليست مقدسةً دائمًا رغم ميلهم للحسين، بل كأنها "ثأرية" بين أبناء عمومه أو قبيله واحدة، بين الهاشميين "المبدأيين، المثاليين" والعبدشمسيين "الأريحيين"، لإنصاف يزيد فهو في النهاية بنظر المذاهب غير الشيعية ليس كافراً، ويظل خليفةً وشاعراً يختلف عن جنودِه الذين نفّذوا جريمةَ قتلِ الحسين، ويُشهد له بحسب رواياتٍ، غير مُتفق عليها، بأنه (يزيد العبدشمسي) "أحسن" معاملة "أبناء عمومته" أسرة الحسين وأكرمهم. تختلف الروايات هنا حول هذا الموضوع لكن المؤكد أنه سليل العبدشمسيين الذين وصلت حضارتهم الى بلاد الأندلس.

"حادثة إعدام الموتى" نصٌّ مسرحيٌ يتميز بلغةٍ غنيةٍ تحتاج إلى التأمل والتفكير، يهتم بتحليل الشخصيات نفسياً قبل تصنيفها حسب مواقفها، يتضمن إيحاءات تجسدُّ استمرارَ سمفونيةِ الكراهيةِ والقتلِ وإعدامِ الموتى حتى في الزمن المعاصر، لهذا يستحق القراءة والتمعن في أفكار شخصياته المثيرة للجدل والخلافات المستمره!

إنه نتاج أدبي مهم كتبه مؤلفه الراحل فائز الزبيدي "كيلا يجد الأنذال المعاصرون أداةً لتبرير القتل!" على حد تعبيره.

 ***

د. زهيرياسين شليبه

..................

المصادر:

1- أنظر بالتفصيل: محمد فايز جاد. الحسين في الأدب العربي.. رمز الثورة في وجه "يزيد"، جريدة الأهرام

10-10-2016

2- أنظر: زكي الميلاد. الحسين في الأدب المصري الحديث. شبكة النبأ 17 تشرين الأول 2019

3- زكي الميلاد. ملحق المدى. 15/09/20122

4- فائز الزبيدي. حادثة إعدام الموتى. 2022 لندن أنظر في الكتاب مقدمة يمام فائز الزبيدي، والشاعر الدكتور صلاح نيازي ومقال فائز الزبيدي عن أعمال الفنان كاظم حيدر، وشروحه ضمن متن النص المسرحي عن أحداثها.

وأشير هنا إلى أني اكتفيت بكتابة رقم الصفحة بعد كل اقتباس من كتاب "حادثة إعدام الموتى" موضوع مقالنا الحالي.2063 الفنان كاظم حيدر

ملحمة الشهيد للفنان العراقي الكبير كاظم حيدر 1932-19852064 كاظم حيدر

لوحات اخرى للفنان كاظم حيدر المكرسة لتمثلات واقعة الطف

2065 الفنان كاظم حيدر

كتاب من تأليف طه حسين (1889- 1973)، الأديب والناقد المصري الذي يعد من أبرز رموز التيار الفكري الحداثي إبان عصر اليقظة العربية. صدرت النسخة الأصلية من الكتاب في سنة 1925، لتعيد مؤسسة هنداوي نشره خلال العام 2018 في طبعة جديدة. يجول بنا الكاتب في مؤلفه الشيق هذا لنتعرف أهم المحطات الفارقة في تاريخ العقل الإنساني، انتهاء برصد المآل الذي انتهى إليه الفكر حديثًا، متوسلا في ذلك بأسلوب لغوي سلس وماتع، خال من أي حشو أو إطناب.

 في البدء ينبه صاحب "الأيام" إلى أن اليونان كان لهم قصب السبق في ريادة الفكر الإنساني، ولعل مكمن الشبه بينهم وبين العرب هو أن الحياة اليونانية كانت تقوم في بداوتها وأول عهدها بالحضارة على الشعر، ولا سيما في جنسه القصصي (يروي قصص وملاحم الأبطال)، والذي شكل النواة الأولى لألوان لاحقة من الشعر (الشعر الغنائي، الشعر التمثيلي... الخ). على أن تأثير الشعر اليوناني قد جاوز حدود اليونان ليُمسي إرثا مشتركا للإنسانية تاركًا بذلك بصمته على الشعر الحديث، مثلما يذهب إلى ذلك المؤلف.

إلا أن قيادة الفكر قد انتقلت فيما بعد من الشعر إلى الفلسفة من جراء تطور وتعقد الحياة الاجتماعية والاقتصادية لليونان، ليبزغ نجم طائفة من الفلاسفة الأفذاذ، وفي جملتهم سقراط (399 ق.م – 470 ق.م)، والذي امتاز عن الفلاسفة المعاصرين له بكونه لم يلهث وراء مال أو شهرة، فضلا عن كَلَفه بالحقيقة خلافا للسوفسطائيين الذين أزروا بقيمتها. كما خلب صاحبنا ألباب شباب عصره، واعتمد الحوار منهجا لاستكناه الحقائق.

إن فرادة سقراط تكمن في كونه جعل من الإنسان موضوعا للفلسفة بدل الكون، إذ شدد على أن معرفة النفس البشرية والإحاطة بدواخلها هي أسمى أنواع المعرفة، كما رأى بأن السعادة الفعلية إنما مردها إلى الخير والعدل، ومن هنا الطابع الأخلاقي لفلسفته المناقض للمنزع المادي والنفعي المحض لمعاصريه من السوفسطائيين. على أن الفيلسوف اليوناني قد أثار نقمة وحنق الطبقة الأرستقراطية بطعنه في الأخلاق والعادات المتوارثة، والتي في جملتها الدين الوثني القديم. كما ألب عليه، في الوقت عينه، أنصار الديمقراطية المتطرفة، بحيث لم يُخف بغضه لذلك النظام من حيث هو وسيلة لتثبيت سيطرة الدهماء والجهلة دون اعتبار للكفاءة أو الفضيلة، الأمر الذي يفسر إلى حد بعيد المحنة القاسية التي انتهى إليها.

مرورا بأفلاطون (347 ق.م – 427 ق.م) الذي عاش في سياق مطبوع بالاضطرابات والحروب الدامية، مما حدا به إلى البحث عن النظام الملائم للحياة الإنسانية بعد التآكل الذي طاول النظم والعقائد الاجتماعية القديمة (الديمقراطية، الأرستقراطية... الخ). كما تعاطى صاحبنا الميتافيزيقا، فاعتبر أن العالَم المحسوس أو الظاهر إنما هو صادر عن عالم الحقائق الخالدة أو الإله من حيث هو العلة الأولى للموجودات كلها، فاتخذ بذلك كلا من الإنسان والكون موضوعا لفلسفته.

أما بالنسبة للنظرية الأخلاقية الأفلاطونية، فهي تنصرف إلى أن السبيل الأقوم إلى الفضيلة والعدل والسعادة هو التوازن بين القوى الثلاث المؤلفة للنفس البشرية: العقل، القوة الغضبية / الشجاعة، ثم اللذة والشهوة. على أن مذهبه الأخلاقي هو أس وقوام فلسفته السياسية، إذ شدد على أن النظام السياسي والاجتماعي الملائم للحياة الإنسانية هو الذي يتحقق فيه ذلك التوازن المومَأ إليه آنفا، بحيث تجسد كل طبقة من الطبقات المشكلة للجمهورية جانبا معينا من جوانب النفس البشرية. فطبقة الفلاسفة الرؤساء التي يؤول إليها الحكم تمتاز بفضيلة العقل، وطبقة الجنود المحاربين تتصف بالشجاعة والبسالة الحربية. وصولا إلى الطبقة الثالثة، طبقة المزارعين والتجار والصناعيين، والتي تُعنى أساسا بسد حاجات الجيش والحكومة. بيد أن أفلاطون نفسه قد عدل عن جوانب كثيرة من نظريته هاته بعدما استبين شططها ولاواقعيتها، وذلك في كتابه الأخير "القوانين les lois".

وصولا إلى أرسطو (322 ق.م – 384 ق.م) الذي اعتمد منهجا مختلفا عن أسلافه ينبني على البحث العلمي والدقة اللغوية، فقد كان عالما قبل كل شيء، حيث عُني بتنظيم وتقعيد العلم الإنساني وقوانين التفكير والتعبير، إذ استكشف قوانين القياس والاستقراء وغير ذلك من الآثار العلمية. كما كانت نظرته للأخلاق نسبية، فليس ثمة خير مطلق أو شر مطلق، إذ ما أراه أنا خيرًا قد يلوح للآخر شرا، ومن هنا تتغير نظرتنا للأخلاق تبعا لتغير الظروف والأفكار السائدة في المجتمع.

وفي طور لاحق، انتقلت قيادة الفكر إلى السياسة بعد خفوت بريق الفلسفة، مثلما يرى طه حسين، وذلك بفضل شخصية تاريخية استثنائية، نريد بذلك الإسكندر المقدوني، الذي أسهم في نشر حضارة اليونان على نطاق واسع بعد إخضاعه للشرق. فقد كان، بحسب الكاتب، ذا منزع كوسموبوليتي يتشوف إلى تبديد الفوارق بين الشعوب المفتوحة، ومن ثم تحقيق هدف كثيرًا ما سعى إليه الفلاسفة وهو توحيد العقل الإنساني وطرق الحكم والغايات، ناهيك بإسهامه الأكبر لجهة حفز التلاقح الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب.

ثم لم تلبث أن انتقلت قيادة الفكر من الفلسفة، فالسياسة إلى الدين طوال حقبة القرون الوسطى (المسيحية في الغرب، الإسلام في الشرق). أما السمة المميزة لعصرنا الحديث، في نظر طه حسين، تكمن في تَوَزع قيادة الفكر بين جميع تلك العناصر (الأدب، الفلسفة، العلم، السياسة، الدين) بفضل ما يعرفه العصر الحديث من ذيوع غير مسبوق لوسائل الطباعة والنشر الحديثة (منذ اختراع المطبعة)، الشيء الذي أفضى بالتبعة إلى تَعَدد الآراء والمذاهب، ومشاطرتها التأثير في نفوس وعقول الناس. كما أن قيادة الفكر كفت عن أن تكون وقفا على أمة أو حضارة بعينها، بقدر ما باتت مشتركة بين الأمم المتحضرة جميعا، فلكل منها فنونها وآدابها ونظمها الخاصة. 

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

كتاب من تأليف الباحث الاقتصادي المصري محمود عبد الفضيل، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في العام 2000، إذ انصرف موضوعه إلى تناول جملة من التجارب الآسيوية الناجحة في النهوض الاقتصادي، وتحديدا في دول سنغافورة، ماليزيا، كوريا الجنوبية، تايلاند، الصين، وذلك بغرض الوقوف على محددات النجاح التي يمكن الاسترشاد بها عربيا، فضلا عن بعض مواطن القصور في تلك التجارب، والتي يجدر بنا تلافيها عند الحديث عن أي أفق نهضوي عربي. 

أولا: مقومات نجاح تجربة التنمية الآسيوية

يذهب المؤلف إلى أن تلك التجارب الآسيوية في الإقلاع الاقتصادي استندت إلى مجموعة من المقومات والدعامات في وسعنا تحديدها كما يلي:

* الدور المحوري الذي اضطلعت به الدولة في رسم التوجهات التنموية وتحديد الأولويات الاقتصادية، من خلال سياسات التخطيط المركزي الحكومي، بالموازاة مع إعطاء حوافز للقطاع الخاص من أجل الإسهام في العملية التنموية، الأمر الذي يتنافى مع الطرح النيوليبرالي المتوحش الذاهب إلى إلغاء أي دور تدخلي للحكومة والقطاع العام باعتباره عائقا أمام التنمية، بحيث لعب التخطيط الاستراتيجي طويل الأمد دورا أساسيا في إنجاح تلك التجارب الناهضة، وآية ذلك استمرار السياسات التنموية رغم تبدل القيادات والنظم السياسية.

* البعد الثقافي والقيمي من حيث هو محرك للتجارب التنموية في دول شرق آسيا، إذ ليس يخفى إسهام قيم معينة مثل الإخلاص والمثابرة في العمل (قوة عمل منضبطة ومؤهلة)، وشيوع ثقافة الادخار لدى الحكومات والأسر، في النهوض التنموي لتلك التجارب، وهنا تلعب الأخلاق الكونفوشيوسية وظيفة حيوية في هذا المضمار.

* نجاح استراتيجية التصنيع كمدخل للطفرة التنموية بالدول الآسيوية، إذ يشدد الكاتب على التحول الذي عرفه الهيكل الصناعي لجهة التحول من صناعات خفيفة إلى صناعات ثقيلة، ومن صناعات تقليدية (كالنسيج) إلى صناعات حديثة ذات قيمة مضافة عالية (كالصناعات الإلكترونية). وهنا وجب التشديد على أهمية قطاع التصدير من خلال الاستثمار في الصناعات التصديرية، إذ نجحت منتجات تلك الدول في اختراق أسواق استهلاكية متقدمة (كالسوق الأمريكية) بفضل سلعها الرخيصة من حيث التكلفة، وجودتها القريبة من السلع الأصلية المقلدة.

* دور المأسسة والتنظيم، بالإضافة إلى اعتماد طرق الإدارة الحديثة في النجاح التنموي لتجارب النمور الآسيوية، فضلا عن الالتقائية والتكامل بين مختلف فروع وقطاعات ومؤسسات الاقتصاد الوطني.

* استراتيجيات التطوير التقاني (العدد الكبير من براءات الاختراع)، فقد اتسم النموذج التنموي في تلك الدول، مثلما يلحظ المؤلف، بسلوك "مسار مختلط"، إذ تميز في مراحله الأولى (1970- 1985) ب "تعبئة الموارد" (التوسع في التوظيف، الاستثمارات الكبيرة... إلخ)، ثم طفق ينحو شيئا فشيئا منذ نهاية الثمانينيات إلى الاعتماد على التراكم التقاني والمعرفي.

* نموذج اجتماعي ناجح إلى حد ما، يتصف بتحقيق حد أدنى من العدالة التوزيعية، مقارنة بتجارب أخرى فاشلة في هذا الباب كتجارب أمريكا اللاتينية.

* تراكم وتطور الرأسمال البشري بفضل نظام تعليمي متقدم، أمسى يتفوق في بعض الجوانب على النظم التعليمية في الدول الغربية.

ثانيا: الدروس المستفادة عربيا من التجربة الآسيوية

يرى صاحب الكتاب أن مسببات الفشل العربي لا تعزى إلى نقص في المدخرات المالية بل إلى "تبديدها"، ولا إلى قلة الاستثمارات بل ل "سوء توزيعها"، وليس إلى قلة رأس المال البشري وإنما إلى هجرة الكفاءات وعدم استثمارها، فضلا عن ضعف المأسسة وعدم إيلاء البحث العلمي المكانة التي يستحقها. ومن بين الدروس المستخلصة من التجربة الآسيوية أن المال لوحده لا يكفي لتحريك عجلة التنمية إذا لم يقترن بالكفاءة التنظيمية والتقدم التكنولوجي والرؤى الاستراتيجية، وذلك في معرض حديث المؤلف عن السر الكامن وراء الإسهام الفعلي للاستثمارات اليابانية في نجاح تجارب دول جنوب شرق آسيا، مقارنة بالأثر التنموي المحدود للاستثمارات الخليجية في الأقطار العربية.  

كما يبسط الباحث عوامل أخرى تقف حائلا أمام تنمية الوطن العربي، وفي جملتها النزعة الاستهلاكية الجامحة التي ترجع إلى ضعف ثقافة الادخار لدى الأسر، علاوة على دور الحروب والصراعات الكثيرة بالمنطقة في استنزاف الموارد، وصولا إلى معطى مهم يتمثل في دور "العقلية الريعية" (من بين مظاهرها الاستهلاك المفرط واللهاث وراء الربح السريع) التي فاقم منها تراكم الثروة النفطية، مقارنة بالعقلية التنموية الإنتاجية في دول آسيا الناهضة، والاعتماد على "النفس الطويل" بدل استعجال الربح والمكسب.

على أن الكاتب لا يجنح إلى العدمية والتمادي في جلد الذات، إذ يشير إلى أن مجموعة من التجارب التنموية الآسيوية (بما في ذلك اليابان) استفادت من ظروف الحرب الباردة والدعم المالي الغربي السخي، بحيث كان لدول الغرب – وفي مقدمتها – أمريكا مصلحة في قيام تجارب رأسمالية جذابة في آسيا، في ظل التهديد الشيوعي الزاحف إلى آسيا وقتئذ، والصادر من الاتحاد السوفييتي وشيوعية ماو قبل تحول الصين إلى اقتصاد السوق وفق منظورها الخاص. وبالمقابل لم تتوفر ظروف موضوعية مشجعة للنهوض التنموي بالوطن العربي، الذي طالما ظل مطمعا للقوى الإمبريالية الدولية. 

كما كرس الباحث محورا للحديث عن الأزمة المالية التي طالت بلدان جنوب شرق آسيا منذ صيف 1997 بفعل هشاشة قطاعها المالي، ومن بين مسببات تلك الأزمة: انتشار المضاربات العقارية والمالية، ارتفاع مديونية المصارف بالعملات الأجنبية، مظاهر فساد مالي من قبيل قروض المجاملة لأفراد من النخبة السياسية دون ضمانات فعلية... إلخ، مع الإشارة إلى أن تلك الأزمة لم تؤثر على القطاع العيني (الإنتاج، التصدير) الذي يشكل عضد الاقتصاد القومي لتلك البلدان، والذي يقوم على أسس وطيدة، ولذا سرعان ما استعادت اقتصادات تلك الدول توازنها تدريجيا مع حلول عام 2000 بعد التداعيات التي ألمت بها من جراء الأزمة المالية (انكماش اقتصادي، بطالة... إلخ). وعليه، فإن الدرس المستخلص هنا بالنسبة للعرب والدول النامية عموما هو وجوب ضبط حركة "الأموال الساخنة"، والتي ترمز إلى رؤوس الأموال قصيرة الأجل الباحثة عن الربح السريع، وبالتالي ضرورة الانفتاح الحذر والمحسوب على السوق العالمية، وتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية، التي يجب أن تتركز على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية التصديرية.

وفيما يخص السؤال المتعلق بمدى إمكانية استنبات تلك التجارب في التربة العربية، يرى الكاتب أن تجربة "النمور الأربعة الأوائل" (كوريا الجنوبية، سنغافورة، تايوان، هونغ كونغ) يصعب استنساخها، بالنظر إلى استفادتها من ظروف الحرب الباردة كما سبق الذكر، وصغر حجمها (باستثناء كوريا) الذي ييسر لها إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، بالإضافة إلى أن تلك التجارب التنموية لم تكن نابعة من دينامية تصنيع وتطوير داخلية، إذ استفادت من إقامة الشركات دولية النشاط منصات تصدير في بلدانها، ومن ثم عمدت مباشرة إلى التصدير دون المرور بمرحلة "الإحلال محل الواردات". وبالمقابل يعتقد الباحث بأن التجارب التي في وسعنا الاقتداء بها تتمثل في: كوريا الجنوبية في طبعتها الثانية من مسار تطورها التنموي، ماليزيا، الصين، الهند، وهي التي شرعت أولا في بناء قاعدة صناعية قوية قبل أن تفلح في اختراق الأسواق العالمية.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

كان العلوي قد أصدر، عبر دار الطليعة اللبنانية سنة 1973، كتابا بعنوان "في الدين والتراث" وقد عثرت مصادفة قبل أيام على نسخة رقمية منه. هذه قراءة سريعة فيه نركز فيها على موضوع مهم هو كيف كان الراحل العلوي يتعامل نقدياً وبإنصاف مع الأبحاث والمؤلفات التي يقدمها مستشرقون وباحثون غربيون. إذْ لم يكن العلوي مسكوناً بهاجس تقديس وتصنيم المستشرقين والباحثين الغربيين، هذا الهاجس الذي يحمله كثيرون من الباحثين العراقيين والعرب، وخصوصا أولئك المؤلفين الذين يفبركون عشرات الكتب والأبحاث بطريقة الخمط (النسخ واللصق) من دون التَقَيُّد بطرق التوثيق والاقتباس الأكاديمية المعروفة، ليخرجوا في النهاية بكشاكيل سمينة لا يجد فيها القارئ شيئا غير ما قرأه المؤلفُ لكُتاب آخرين. أو كما يصف الباحث والمنقب الآثاري العراقي وعالم اللغات القديمة السومرية والأكدية نائل حنون هذا النوع من المؤلفين بأنهم (يكتبون ما يقرأون لكتاب آخرين) وفضيلتهم الوحيدة أنهم يجيدون لغة أجنبية أو أكثر فيترجمون عنها ما يعثرون عليه ويجترونه بشكل لا نقدي ودون تمحيص وتدقيق. لنعد إلى العلوي وكيف قرأ نقديا أحد مؤلفات المستشرق البريطاني هاملتون جِب:

يذكر العلوي أن جِب هو من كبار المستشرقين وقد ألف كتابه (المدخل إلى الأدب العربي) لتعريف القارئ الغربي بهذا الأدب. وقد ترجمه إلى العربية كاظم سعد الدين في بغداد في السبعينات. ولم أعثر على نسخة من طبعته البغدادية الأولى، ولكن هناك ترجمة أخرى للكتاب مصحوبة بقراءة نقدية قدمها د. إبراهيم عوض سنة 2008.

ويتوقف العلوي عند ما كتبه المستشرق جب عن الشاعر المتنبي فيقول: "يصف جب المتنبي بالقول إنه ليس له مَن يضاهيه لمهارته في النظم وسلامته في التعبير وتمكنه من العبارة المنمقة". وهذا الوصف - يضيف العلوي - يصح على شعراء الغزل والخمريات والوصفيات، أولئك الشعراء المولعين بالبديع. وليس المتنبي من هذه الطبقة لأن أخص ما يمتاز به شعره هو المتانة وقوة السبك. وأن تفوق المتنبي لا يرجع إلى الخصائص الأسلوبية بل إلى خصائص مضمونية. وقد أنصف العلوي هاملتون جب بقوله (أسلوب المستشرقين الغربيين يتسم عادة بالتعالي والأحكام الفوقية المتسرعة التي تصدر على شكل قرارات حاسمة مع كثير من سوء الفهم المرتبط بالعجز عن الفهم عن تشخيص المساهمات الفعلية في حياة الفكر الإنساني، مع أن جب أظهر في هذا الحديث شيئاً من الموضوعية يحمد عليها). ثم يعود العلوي لنقد بعض آراء وتعبيرات جب في كتابه سالف الذكر ومنها مقابلته بين فهم المسلمين للقرآن باعتباره كلام الله الموحى به الى النبي ورأي الغربيين المعتبر أنه من كلام النبي؛ فيقول العلوي إن هذه المقابلة بين العقلية الإسلامية والأخرى العلمانية للمؤلف فيها الكثير من الافتعال، فأن يكون المؤلف غربياً لا يعني بالضرورة أنه يفكر تفكيراً علمانياً. ثم أن هناك شطب وعدم تفريق بين المسلم المؤمن والمسلم الزنديق أو الفاسق ...إلخ، وهذا ما يجهله الغربيون لأنهم يعتبرون المسلمين والإسلام كلا وكيانا واحدا مندمجا ومنسجما وموحَّدا وحدة صماء، لأنهم يجهلون التفريق القرآني الذي نصت عليه الآية (قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). ويضيف العلوي أن اللاهوت، عدا عن السحر والشعوذة والكهانة، قد لقي ويلقى في الفكر الغربي القديم والحديث عناية إنْ لم تزد على ما عند الشرقيين فهي تضاهيه. وقد أنتج الغرب من الخرافة قدر ما أنتج من العلم. ثم يقترح العلوي تصحيح عبارة جِب على النحو التالي (إن المسلمين المتمسكين بعقيدتهم الدينية يعتقدون المسألة الفلانية ولكن الباحث العلمي يرى خلاف ذلك).

وردا على ما كتبه جب عن ابن طفيل وفيه قال إن شهرة هذا الأخير تستند إلى تهذيب الرواية الفلسفية لابن سينا الموسومة "حي بن يقظان"، يكتب العلوي "ليس بين رواية ابن طفيل ورواية ابن سينا أي وجه شبه إذا استثنينا اسم البطل. ورواية ابن سينا تقع في 11 صفحة أما رواية ابن طفيل فتقع في 75 صفحة ومن المعروف أن حجم التهذيب يكون أصغر من الحجم الأصلي أو على الأقل أن يكون مساويا له. أضف إلى ذلك أن رواية ابن سينا ليست رواية لأنها لا تعدو ان تكون حديثا يديره المؤلف مع شيخ طاعن في السن يدعى حي بن يقظان. أما مؤلف ابن طفيل فهو قصة تجمع أكثر العناصر الضرورية للبناء القصصي ... ولعل المستشرق الفاضل لم يقرأ الكتابين بإمعان وإنما اعتمد على التشابه اسميهما.

وفي رده على ما كتبه هاملتون جب عن الجاحظ وقال فيه إنه درس الفقه على يد إبراهيم النظّام وإنه كان عبدا زنجيا، وإن الحيوان يشغل مكانا ثانويا في كتابه المعنون "الحيوان". يقول العلوي مدللا على جهل المستشرق البريطاني إن النظَّام لم يكن فقيها بل كان متكلما (عالِم في الكلام. والكلام في التراث العربي هو علم المنطق والنظر والاستدلال وهو بهذا فرع من الفلسفة وبعض الباحثين يعتبرونه الفلسفة ذات المنزع العقيدي ذاتها). والجاحظ لم يكن عبدا أسود بل كان عربيا من قبيلة كنانة وجده الأعلى فزارة ولكن بشرته كانت سمراء فقال عنه الرواة إنه أسود ولكن كلمة "أسود" لدى الغربيين تعني تلقائيا وبالضرورة العبد الزنجي نتيجة ثقافتهم العنصرية الموروثة من الرومان في حين أن هناك الكثير من العرب الأحرار ذوو بشرة سمراء أو سوداء.

وأخيرا، فكلام جب عن كتاب "الحيوان" غير صحيح كما يقول العلوي، فقد كتب الجاحظ في الكتاب عن 365 نوعاً من الحيوانات، وصف شكلها الخارجي وطرق عيشها وتكاثرها ومواطن عيشها وكل ما يتصل بها إلا تشريح أجسامها فلم يفصل فيه لأن علم التشريح لم يكن قد تطور كثيرا في عصره. وبهذا فكتاب الحيوان للجاحظ كما يصفه العلوي يبقى مصدرا ثميناً غنياً بالمعلومات يعكس الجهد الذي بذله مؤلفه فيه كما يعبر عن دقة ملاحظته وأمانته العلمية. ص 89 وما بعدها.

***

علاء اللامي

..........................

*يمكنكم تحميل نسخة رقمية مجانية من كتاب العلوي عن طريق هذا الرابط:

https://www.ktobati-pdf.com/download/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-pdf

أضحى اِسم سونيا عبد اللطيف اِسمًا حاضرا في مختلف المناسبات ضمن المشهد الأدبي بتونس فقد أطلّ منذ سنوات قليلة بمجموعة شعرية بعنوان ـ اِمرأة اِستثنائية ـ تضمنّت باكورة قصائدها المتوهّجة بصدق المعاناة في أشكال شعرية تنتمي إلى حركة الشعر الجديد بما فيها من بحث عن الطرافة والاِبتكار مستفيدة من منجزات السابقين ومطوّرةً في بعض قصائدها من أسلوب الومضة ومستعملةً أحيانا فنون السرد والمسرح بما فيها من حبكة وحوار وتشويق ثم عزّزت هذه المجموعة بمجموعة ثانية ـ بجناح واحد أطير ـ جاءت على غير نسق قصائدها الأولى ممّا يؤكّد أنها أخذت المسألة الشعرية مأخذ الجدّ لتمضي في دربها إلى الأبعاد وتتجاوز عتبات البداية وولَع الهواية

ــ 2 ــ

اِنتظرنا إذن ديوانها الثالث لكنها فاجأتنا بكتاب ـ ميتروهات وهدرات ـ وهو نصوص تسجيلات يومية تتحدث فيها عن وقائع الحياة في عديد مواقفها وتفاعلاتها مبدية ملاحظاتها إذ أنها تتنقل كل يوم تقريبا على متن الميترُو فجاء كتابا طريفا يعايش الواقع في تونس ولم يَخْلُ من نقد اِجتماعي واضح وبرغم بعض الشّجون من خلال ظلال من السيرة الذاتية فإنه يُعتبر كتابَ شهادة عن واقع بما فيه من معاناة وصدق.

وإضافة إلى هذا النشر المتواصل على مدى سنوات متوالية كانت تُشرف الشاعرة والأديبة سونيا عبد اللطيف على نادي الشعر وعلى نادي الأدب بعده في جمعية اِبن عرفة وقد أشرفت كذلك على بعض الأندية في اِتحاد الكتّاب التونسيين وفي دار الثقافة السليمانية وفي مدينتها قليية حيث أسّست فيها ـ مجاس همس الموج ـ واِستقبلت في رحابه عديد الأدباء والأديبات ومختلف المبدعين من تونس ومن المغرب العربي والمشرق العربي وجعلته ينتقل أحيانا من فضاء إلى آخر فاِكتسبت الأديبة والشاعرة سونيا عبد اللطيف يفضل هذا الدأب في النشاط والنشر والمشاركات العديد في الأمسيات الأدبية والمهرجانات مصداقية أدبية جعلتها تحظى بالإشعاع والتقدير والدعوات سواء داخل تونس أو خارجها في كثير من البلدان مثل الجزائر والمغرب ومصر والأردن والعراق وفرنسا وإنقلترا وغيرها فلا عجب إذن أن تُرجمت نصوصها الشعرية إلى اللغة الإنقليزية في أكثر من مناسبة وفي أكثر من كتاب خاصّ ومُشترَك أيضا.

ــ 3 ــ

ما كادت سنة 2023 تدخل في شهرها الأخير حتى أطل الديوان الثالث بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ ويضمّ نحو خمسين نصّا شعريّا متنوعة المعاني والمباني التي لا يمكن إجمال القول فيها إلا بعد قراءتها واحدًا واحدا فكل نص هو حالة بذاتها وقد نجد تشابها بين نص ونص آخر وتختلف كثير من النصوص في أسلوبها عن بعضها البعض لذلك لا يُجدي التعميم لأنه يفضي إلى التعتيم فلأجل إيلاء هذه المجموعة الشعرية ما هي جديرة به من الاِهتمام نقترح قراءة كل نص بتمعّن وتدبّر حتى نتجنب النظرة السطحية البانورامية لذلك سنقف في هذه المناسبة عند بعض العلامات الدّالة باِعتبارها شواهدَ وعيّنات فحسب فقد قيل قديما ـ يكفي القلادةَ ما أحاط بالعنق وقيل أيضا ـ ما لا يُدرك كلُّه يُؤخذ جُلّه.

ــ 4 ــ

تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من حامل القصائد وهو كتاب في طبعة جيّدة وفي نحو مائة وخمسين صفحة من القطاع المتوسط بعنوان ـ وجهي... والرّياح ـ

تبدأ قراءة هذه المجموعة الشعرية من أوّل ما يبدو من الكتاب أي ـ الغلاف ـ وفيه وجه اِمرأة قد حَجبت ملامحَه أو تكاد خصلاتُ شَعرها المتطاير فلم يظهر منه إلا بعض من الجبين والوجنتين والشفتين.

ونرى خلف الوجه والخصلات فضاءً مفتوحًا على أرض وسماء وفي هذا الفضاء الذي يبدو مدًى فوق مدًى نقرأ العنوان وتحته بيان النوع الأدبي بين قوسين كلمة ـ شعر ـ وهذا التنصيص على كلمة ـ شِعر ـ هو بمثابة العتبة الأولى التي يدخل القارئ منها إلى هذه النصوص لكأنه ـ عقدُ اِتفاق قراءة ـ حول نوع المقرُوء يُهيّء إلى كَوْنٍ شعري دون سواه من عوالم القراءة الأخرى.

العنوان ورد في كلمتين على سطرين متوازيين والكلمتان يفصل بينهما فراغ وثلاث نقط وكذلك واو

النّقط الثّلاثُ لها معنى ولا شكّ

وهذه الواو ماذا تُفيد ؟

وجهي…والرّياح

يمكن للواو أن تَتْبع ما سبق من معاني النّقط المخفية

يمكن أيضا أن تعود إلى وجهي فتكون واو عطف؟

ويمكن أن لا تكون بينها وبين كلمة وجهي أية صلة باِعتبار أن فصلا بينهما وأنها مكتوبة في سطر وحدها

ــ 5 ــ

للواو في العربية أسماء عديدة وتختلف بِاِختلاف معانيها وإشاراتها في سياق الكلام من بينها نذكر خاصة ـ واو العطف ـ واو الحال ـ واو المعيّة ـ واو الاِستئناف ـ واو رُبّ ـ واو الجماعة ـ واو الأسماء الخمسة ـ واو القسم ـ واو الثمانية ـ

أمّا هذه الواو في عنوان ـ وجهي...والرّياح ـ فهي غير الواوات السابقة لأننا نستشف منها غير معنى الحال ولا معنى العطف أو المعيّة ناهيك عن معنى القسم وغيره وإنّما تفيد معنى المقابلة والمواجهة كقول المتنبي ـ ذَراني والفلاةَ ـ وكذلك ـ ووجهي والهجيرَ ـ في بيته

ذَراني والفلاةَ بلا دليل * ووجهي والهجيرَ بلا لثام

هذه المقابلة والمواجهة وحتى التحدّي نجدها في غضون بعض القصائد وخاصة في القصيدة التي تحمل عنوان ـ لك أيّتها الرّيح ـ حيث تخاطبها في نبرة التحدّي وحتى اللامبالاة قائلة لك أن تمزّقي أشرعتي وأوردتي ـ وأن تفتّتي شراييني ـ وأن تسلّط عليها الأمواج فتعلو وتُزبد ـ وأن تكسّر أضلعها ـ وأن تلقي بها في اليابان والصّين ـ وحتى في أحد القطبين. رغم كل هذه التحدّيات العديدة والمهولة فإن الشاعرة ظلت ثابة متماسكة في شموخ وكبرياء وأنفة بل تقابل بالمحبة والصفاء والعطاء قائلة

أنا سنبلة المواسم في كل المراسيم

حبوبي منثورة

بآلاف الملايين

لي زهرات الآس

والقرنفل

والفل

والياسمين لك أيتها الريح

الفصل والقضاء

وأنا الصبر

والحب والعطاء ـ ص و120

ــ 6 ــ

للشاعرة سونيا عبد اللطيف مع الريح حكايات شجون وأسرار خفيّة لا يمكن كشفها لكنّها رشحت في هذا الديوان من بعض القصائد مثل قولها في ـ قصيدة الأسرار ـ.

أنا لا أثق في الرّياح

ولا أستهوي نسيج النواحي

....لكنما الرياح

منذ الخلق تصفعني...تتقاذفني

كانت عن الغواصة أسراري

وزدت في الإصرار

إذ رشقتني من كل الجوانب

حجارة الصوان

وحدي أناجيني مع أسراي

والشّمس أذرو أشعاري

أنشودة الرياح

أنشودة الرياح ـ ص60

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

كتاب من تأليف المفكر النهضوي المصري سلامة موسى (1887 – 1958)، صدر هذا المؤلف خلال القرن الماضي، لتعيد مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة بالقاهرة نشره في طبعة عصرية. وفيما يهم موضوع الكتاب، يتناول الأخير أحد أهم اكتشافات علم النفس الحديث، ونريد بذلك العقل الباطن لما له من مفعول كبير في سلوك الإنسان ونشاطه الذهني:

ما المقصود بالعقل الباطن؟

يعرف المؤلف العقل الباطن بكونه "العقل الذي يعمل على غير وعي منا. فهذا العقل يعمل كأنه مستقل عنا، وهو يقرر ميولنا وأمزجتنا". ويعتقد سيغموند فرويد (1856 – 1939) الذي دشن البحث في هذا المجال أن الغريزة الجنسية هي أهم محددات العقل الباطن، أما ألفرد أدلر (1870 – 1937) فيقلل من تأثير الغريزة الجنسية، ويركز على دوافع أخرى مثل الرغبة في امتلاك القوة والسلطة. وصولا إلى كارل يونغ (1875 – 1961) الذي ألف بين الرأيين (فرويد وأدلر) وأكد على أن "اللبيد (يُقصد به الرغبات والعواطف المكبوتة في العقل الباطن) هو تلك الغريزة الجنسية قد امتزجت بالنزوع إلى الرقي". فالإنسان بطبعه ميال إلى الرقي والتطور، إذ كثيرا ما ننساق لخواطر لذيذة كأن نحلم بأننا أصبحنا أغنياء أو قادة.

وعليه، فإن العقل الباطن هو "عقل الثقافة القديمة" وما تحيل إليه من غرائز بدائية (حب الشهوة واللذة والانتقام والعنف)، أما العقل الواعي فهو "عقل الثقافة الحديثة"، عقل الحضارة والعلم والمعرفة. بيد أن نوازع العقل الباطن ليست كلها شريرة، لأن الإنسان القديم لم يكن شريرا على نحو مطلق، كما أن العقل الباطن والعقل الواعي كثيرا ما يتعاونان لتحقيق مصلحة الإنسان، كالعالم الذي يتوصل إلى اختراع أو كشف علمي بواسطة الحلم.

الكبت

إن الرغبة أيا تكن طبيعتها (طعام، جنس... إلخ) إذا ما كُبتت من لدن العقل الواعي فذلك لا يعني زوالها، بل هي تندس في العقل الباطن وتتحين الفرصة لتخرج من مخبئها، فالعقل الباطن في هذه الحالة ينفس عن رغباتنا المكبوتة بواسطة الخواطر (أحلام اليقظة) والأحلام. وإذا ما بلغت الرغبة المكبوتة حدا بعيدا من الجموح قد تؤدي إلى الإصابة بالأمراض العصابية كما يعتقد فرويد فيما يخص الغريزة الجنسية، لكن الرغبة المكبوتة قد تفضي إلى سبيل إيجابي وهو التسامي بحيث "نتسامى بالعاطفة إلى فن من الفنون العليا، فأرغب الناس في وصف الجمال ولذات العشق هو المحروم من الحب (كالشاعر)". وتأسيسا على ذلك "إذا كانت العواطف المكبوتة تُحدث الجنون أحيانا فإنها أحيانا أخرى تُحدث النبوغ".

الأحلام والخواطر

إن مهمة النوم من منظور علم النفس الحديث تكمن في إراحة العقل الواعي الذي سرعان ما يتعب لأنه أحدث وأقل رسوخا من العقل الباطن. والحلم الذي يتخلل النوم هو وسيلة لإشباع رغبة كبتها العقل الواعي وقت اليقظة كالجائع الذي يحلم بأنه يأكل طعاما لذيذا، لكن لا تنسج كل الأحلام على المنوال عينه، إذ قد تعكس صراعا يعيشه الشخص بين السعي لإشباع الرغبة من جهة، والامتناع عن تحقيقها، وذلك في حالة النوم الخفيف حين ينشط العقل الواعي الذي يكبت العواطف جزئيا. 

أما الخواطر أو أحلام اليقظة فيمكن اعتبارها أداة لتفسير الأحلام مثلما يرى فرويد ورفرز، ما دام أنهما معا (الخواطر والأحلام) ينحدران من أصل واحد، ألا وهو العقل الباطن. وتعد الخواطر أقل جموحا من الأحلام على نحو يجعلها لا تتجاوز حدا معينا من الإسراف، لأن العقل الواعي لا يكون نائما بالمطلق وهو لذلك يلجمها.

هل من سبيل إلى ترويض العقل الباطن؟

يذهب سلامة موسى إلى أنه في وسعنا ترويض العقل الباطن وتسخيره لصالحنا عن طريق الإيحاء بخواطر إيجابية كمن يتخيل النجاح فينجح، أو الشفاء فيشفى من المرض، ذلك أن العقل الباطن يؤثر في الجسم كما تقر بذلك الأبحاث الحديثة. ولذلك فإن طريقة إقناع العقل الباطن ليست "المنطق" بل "الإيحاء"، فالعقل الباطن لا يدرك المعاني المجردة للكلمات (الموت، الشهامة... إلخ) إذا لم تقترن برموز ملموسة كما في الأحلام.

وبالإضافة إلى الإيحاء الذي يحضر بكثافة في التنويم المغناطيسي، نجد أيضا أسلوب التحليل النفسي الذي يعتمد على سؤال الطبيب وجواب المريض الذي يفصح عن الخواطر التي تنتابه حول كابوس مزعج تعرض له مثلا، وذلك بغية الوقوف على أصل ومصدر ذلك الكابوس أو العلة النفسية على وجه العموم (حادثة قديمة وقعت أثناء الطفولة، مشاغل راهنة)، ومن ثم فالتحليل أنجع من التنويم لأنه ينفذ إلى أصل العلة. 

مرض الهستيريا

تصنف الهستيريا إلى نوعين: نوع يصيب النساء والرجال معا، وهو الذي ينتج عن الإصابة بالرعب والذعر، فيؤدي إلى عوارض مثل الخرس أو جمود أحد أعضاء الجسم، وهذا النوع عادة ما يصيب النساء ولا سيما في أوقات السلم لأنهن أكثر تعرضا للخطر (الولادة، الاعتداء... إلخ)، فيما ينتشر في وسط الرجال خلال أوقات الحرب. أما النوع الثاني فهو يصيب النساء حصرا لصلته بحياتهن الجنسية، لأن الفتاة تجد مشقة كبيرة في كبت غريزتها الجنسية على نحو يفوق ما يجده الشاب من عنت باعتبار القيود الاجتماعية المفروضة عليها، فلا تجد سبيلا للتنفيس عنها: "لذلك فإن عقلها الباطن يطغى أحيانا على عقلها الواعي ويُحدث لها في يقظتها تلك الحركات أو التشنجات"، والهستيريا مرض نفسي في الجوهر ولا تخفى علاقته بالعقل الباطن.

أصل الأخلاق والعقائد

إن العقل الباطن لا ينس حوادث الطفولة وما يلقاه الطفل والصبي من العقائد، لذا تلعب الطفولة دورا أساسيا في تحديد أخلاق المرء المستقبلية ومنهجه في الحياة. ولما كان الطفل في سنواته الأولى لا يملك القدرة على التمييز وينزع إلى المحاكاة والتقليد، فإن أنجع طريق لتربيته هو الإيحاء وإعطاء القدوة له بنهج السلوك الحسن، أما الأوامر والنواهي فهي لا تولد إلا الكبت الذي لا يدوم مفعوله طويلا: "والأخلاق والأذواق تحدث من العقائد، وهذه العقائد تتسرب إلى العقل الباطن أيام الطفولة الأولى، ولذلك فإن مكان التربية الحقيقي هو البيت لا المدرسة، فشأن المدرسة أن تعلم، أي تغرس في العقل الواعي مجموعة من المعارف لا العقائد".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

مفهوم الإيديولوجيا كتاب من تأليف المفكر المغربي عبد الله العروي، صدرت طبعته الثامنة عن المركز الثقافي العربي في العام 2012. يتناول الكاتب بالدرس والتحليل مفهوم الأيديولوجيا، وقد توسل العروي بالمنهج التاريخي في هذه الدراسة، إذ ذهب إلى أن مفهوم الأيديولوجيا نشأ في عصر الحداثة (القرن 19)، وبالتالي لا يسعنا فصله عن الفكر النقدي المتصف بالنسبية. كما تحيل الأيديولوجيا في معناها اللغوي الأصلي (الفرنسي) إلى علم الأفكار، الذي يدرس آلية تكوين الأفكار في الذهن الإنساني، إلا أن الألمان ما لبثوا أن استعاروا المفهوم وضمنوه معنى آخر، لذا يعتبر الكاتب أن الأيديولوجيا هي كلمة دخيلة على مختلف اللغات الحية، الشيء الذي يفسر صعوبة ترجمتها إلى اللسان العربي، ولهذا اقترح تعريبها مستخدما لفظ "أدلوجة".  

أولا: تعريف الأيديولوجيا كقناع

يضيء صاحب الكتاب على التحول الذي طرأ على استعمال المفهوم في مراحل نشأته الأولى، عبر الانتقال من التحديد الأصلي (علم الأفكار) إلى نظرة قدحية للأيديولوجيا بحسبانها جملة الأوهام التي تمنع العقل من إدراك الحقيقة. ولعل الفيلسوف الألماني كارل ماركس (1818- 1883) هو النموذج الصارخ لهذا التمثل الفكري، إذ نظر إلى الأيديولوجيا من حيث هي وعي زائف ومضلل، مركزا نقده على الأيديولوجيا الليبرالية باعتبارها محض ستار يُخفي بين طياته مصالح الطبقة المهيمنة (الطبقة البرجوازية).

كما يذهب فريدريك نيتشه (1844 – 1900) إلى أن الأفكار تعبر في جوهرها عن مصالح لا عن حقائق، فالغريزة هي التي تسوس الفكر لا العقل المجرد، وأن الأيديولوجيا بمثابة قناع يخفي وراءه حقد وغل المستضعفين على السادة المتفوقين. وصولا إلى الاجتماعيين الألمان الذين استعاروا طرح ماركس مع توسيع نطاقه ليشمل نقد الماركسية ذاتها، إذ اعتبروا أن جميع الأيديولوجيات تعبر عن مصالح طبقة أو فئة اجتماعية معينة.

ثانيا: الأيديولوجيا كذهنية أو نظرة كونية

يرمز مفهوم الأيديولوجيا وفقا لهذا التصور إلى مجموعة من التصورات والأفكار التي تؤلف النظرة إلى الكون. ويشرح العروي هذا الطرح قائلا: ""الفرد الذي يرث أدلوجة كعضو في طبقة (بعد تفسخها وانهيار منظومة المصالح الموحدة بين أعضائها) أو كإنسان مثقف يكون أول ضحية من ضحاياها... ليست الأدلوجة بالنسبة للفرد قناعا (يخفي مصالح) بقدر ما هي أفقه الذهني... الأدلوجة قناع لمصالح فئوية إذا نظرنا إليها في إطار مجتمع آني، وهي نظرة إلى العالم والكون إذا نظرنا إليها في إطار التسلسل التاريخي".

ومن نفس المنطلق، يرى هيغل (1770 – 1831) أنه لا يمكن فهم الآثار المادية لحقبة تاريخية ما (قوانين، دساتير، كتب، عمران... إلخ) دون استحضار روح العصر الذي يمثل الذهنية والثقافة السائدة حينئذ. كما يعتبر ماكس فيبر (1864- 1920) أن لكل مفكر وباحث نظرته الخاصة إلى الكون تبعا لنموذجه الذهني، فالقيمة أو الحقيقة لا تنجلي بوضوح في الواقع، بل هي كامنة في الأحداث المتلاحقة غير المرتبة، ومن ثم فهي في حاجة إلى عملية تنظيم وتركيب، وبالتالي لا وجود لقيمة أو حقيقة مطلقة، بل هي نسبية واحتمالية. أما بالنسبة لكارل مانهايم (1893 – 1947) ليست النظرة إلى الكون قاصرة على فرد محدد مثلما يظن فيبر، بل تشير إلى تصور جماعي يسم حقبة زمنية أو مجتمعا بأكمله أو فئة اجتماعية، إنها الأفق الذي يحدد المفكر فيه واللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه إذا ما استعرنا تعبير محمد أركون.

ثالثا: الأيديولوجيا بحسبانها علم الظواهر

يعتقد كارل ماركس أن الأيديولوجيا تكتفي بوصف سطحي لظواهر المجتمع، ومن ثم فهي لا تنفذ إلى باطن وكنه الأشياء: "إن المفاهيم الاقتصادية (العمل، القيمة، الإنتاج، الاستهلاك...) إذا أخذناها كحقائق دائمة (أي أدرجناها في خانة المطلق والأزلي، ولم نربطها بظروف نشأتها التاريخية المرتبطة بظهور النظام الرأسمالي) نقيس عليها الأنظمة الإنتاجية اللارأسمالية، كانت أدلوجة، وإذا حللناها كنتائج تطور تاريخي، قادتنا إلى إدراك واقع التاريخ، إلى العلم".

وهكذا، تبنى ماركس المادية التاريخية كمنهج للتحليل الواقعي للاقتصاد، أما العلوم الاجتماعية الأخرى (بما في ذلك علم الاقتصاد)، فهو (= ماركس) بالقدر الذي لا يخلع عنها صفة العلم ولا يقرر عدم نفعها، فإنها لا تتعدى – في تقديره - نطاق العلم بالظواهر، وبالتالي تقدم لنا معرفة جزئية فقط. فالعلم الصحيح هو علم التاريخ، الذي يخول لنا الوصول إلى معرفة باطنية يقينية موثوقة. 

رابعا: الاستعمال المعاصر للأيديولوجيا: تحليل مقارن

أضاء العروي في الفصل الختامي من الكتاب على الاستخدامات المعاصرة لمفهوم الأيديولوجيا في الغرب استنادا إلى النماذج الفكرية المحددة أعلاه: "مفهوم الأدلوجة/قناع يوظف في المناظرة السياسية (كالسجالات بين الأحزاب السياسية ذات المشارب الفكرية المتباينة)، ومفهوم الأدلوجة/ رؤية كونية في اجتماعيات الثقافة، ومفهوم الأدلوجة/ علم الظاهر في نظرية المعرفة ونظرية الكائن". وفي المقابل، ينتهي العروي إلى أن معظم الكتاب العرب المعاصرين يستعملون المفهوم كعقيدة دوغمائية مطلقة، فيما يوجد قلة من المفكرين في الوطن العربي ممن يستخدمونه كأداة تحليلية نقدية.

وعليه، عرف الكاتب الأيديولوجيا في مؤلفه السابق الأيديولوجية العربية المعاصرة بأنها "الفكر غير المطابق للواقع"، فالأيديولوجيا العربية السائدة، إذ هي تستوحي مادتها من الغرب، لا تمت بصلة إلى الواقع العربي، كما أن سبب فشل سياسات النخب الإصلاحية في الوطن العربي هو تجزئتها للتراث الغربي وتعاملها الانتقائي معه، ومن هنا حكمه على "السلفية والليبرالية والتقنوقراطية بالسطحية وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه". وفي الختام يدعو المؤلف إلى التعاطي الحذر مع مفهوم الأيديولوجيا وتجنب استخدامه دون قيد أو شرط بالنظر إلى طابعه الإشكالي، ولأنه يخفي في جعبته مصالح واختيارات فكرية معينة.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

قراءة في كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي / د.عبد الجبار الرفاعي

لكي نقبل هذا العالم يجب أن نرفض هذا العالم، فالوجود أستُهلك إلى درجة الأضمحلال، وهناك تناقض فعلي بين تأمل العالم وبين تحويل العالم، ومن هنا تبرز ضرورة توظيف فهماً حقيقيا ً للدين لمواجهة الظمأ الأنطولوجي ..

من منظور اجتماعي، تتضمن أنطولوجيا الدين دراسة طبيعة الكيانات والتجارب والظواهر الدينية في إطار الهياكل والمؤسسات والتفاعلات الاجتماعية. يدرس علماء الاجتماع كيف يشكل الدين المجتمع ويهكله، وينظرون إلى البناء الاجتماعي للواقع الديني، ومن أهم القراءات السوسيولوجية للدين قراءة  إميل دوركهايم، عالم اجتماع رائد، تناول دراسة الدين من منظور وجودي، لا سيما في عمله الأساسي "الأشكال الأولية للحياة الدينية" الذي نشر عام 1912، كان دوركهايم مهتمًا بفهم الطبيعة الأساسية وجوهر الدين داخل المجتمعات البشرية.

كما قدم ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، مساهمات كبيرة في الفهم الاجتماعي للدين من خلال كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية "، بينما ركز إميل دوركهايم على التكامل الاجتماعي والجوانب الجماعية للدين، كان نهج فيبر أكثر دقة وشمل استكشاف تجربة الفرد الذاتية وتأثير الأفكار الدينية على التغيير الاقتصادي والاجتماعي، حيث وظف مفهوم (الفهم)، كان نهج فيبر في فهم الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الدين، يرتكز على مفهوم "Verstehen"، وهو ما يعني الفهم باللغة الألمانية،  وشدد على أهمية فهم المعاني الذاتية التي يعلقها الأفراد على أفعالهم ومعتقداتهم وتجاربهم، وفي دراسة الدين كان هذا يعني الاهتمام بالتجارب الحياتية للأفراد والمعاني التي ينسبونها إلى الممارسات الدينية.

وبغض النظر عن السياقات التاريخية التي ميزت بداية وجهات النظر الحداثية وتأثيرها الدائم، فضلاً عن الظهور اللاحق لأتجاهات ما بعد الحداثة التي كشفت عن نقاط الضعف في العديد من الأيديولوجيات الحداثية، أو من زاوية مختلفة، النظر في إعادة تشكيل المشهد الفكري عالميًا إن الحاجة ملحة إلى فهم جديد، خاصة في العصر الحالي بعد تراجع الهيمنة الأيديولوجية للفكر الغربي، أصبح من الضروري بالنسبة لنا أن نفهم فهمًا جديدًا لواقعنا.

وهذا الفهم يبدأ من تشخيص دقيق لأزمة التدين حيث يبين د.عبد الجبار الرفاعي " ان ماوضع الدين اليوم في مأزق تأريخي، هو ترحيله من مجاله الأنطولوجي الى المجال الأيديولوجي هذا من جهة، ومن جهة أخرى أزدراء بعض النخب للدين وأحتقارهم للتدين، أثر الفهم الساذج المبتذل لحقيقة الدين في فهمهم، والصور في أحكامهم من نمط التدين الأيديولوجي الشائع "

وفي رحلة عميقة من الذات ينتقل بنا د. الرفاعي الى الوجود الأنساني، حيث يعتبر "الأيمان  تجربة ذاتية خلافاً للفهم والمعرفة لايتحقق بالنيابة "، تنبعث من الداخل فهي صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجودي يرتوي به الظمأ الأنطولوجي للكائن البشري .

من يقرأ الفصول الأولى للكتاب ومابعدها يفهم  هذا النص بتجلياته، يبدأ بنسيان الذات  ومن ثم نسيان الأنسان ليصل الى التجربة الدينية وأزمة الظمأ الأنطولوجي وبعدها يقف على الأحتكار الأيديلوجي لأنتاج المعنى الديني ويخرجنا من هذه الأزمات الى تجديد الفكر الديني من  (أنا قارئ قبل كل شيء) .....  مما يؤدي في النهاية إلى استكشاف التجارب الدينية والتعطش الوجودي للمعنى، فهو يدقق في أزمة الشوق الوجودي، ويواجه احتكار الأيديولوجيات لإنتاج المعنى الديني، ترشدنا هذه الرحلة إلى الخروج من هذه التحديات الوجودية، وتسهل تجديد الفكر الديني.

وفي تنمية هذا الفهم والانغماس في الأعماق الروحية لهذه المعاني، هناك تجنب متعمد للابتعاد والازدراء تجاه الذات أو نقيضها وبدلا من ذلك، يبدأ الاستكشاف من الذات، ويمتد نحو الوجود، ويرسم صورة متكاملة للوجود الإنساني.

***

د. فاطمة الثابت

العصبية والدولة – معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي" لمؤلفه محمد عابد الجابري

كتاب صدرت طبعته السادسة في العام 1994 عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، من تأليف محمد عابد الجابري (1935 – 2010)، الفيلسوف والمفكر المغربي، صاحب مشروع "نقد العقل العربي"، والذي تناول في مؤلفه هذا النتاج الفكري لأحد أهم أعلام الفكر في التاريخ العربي الإسلامي، ألا وهو ابن خلدون (1332 – 1406)، المؤرخ ومؤسس "علم العمران".ويضيء الجابري في الصفحات الأولى من مؤلفه على الحقبة التاريخية التي عايشها صاحب كتاب "المقدمة" في القرن الرابع عشر (م)، والموسوم ببداية أفول شمس الحضارة الإسلامية (من مظاهر ذلك الانحطاط يمكن أن نشير إلى الاضطرابات السياسية، والجمود الفكري، فضلا عن انتشار التفكير الخرافي... إلخ)، حيث انكب ابن خلدون على سبر أغوار وخلفيات ذلك التقهقر الحضاري انطلاقًا من منهجه التاريخي المميز، والذي لا يقتصر على رصد ظاهر الأحداث، بمقدار ما ينصرف إلى التنقيب في بواطنها، ومن ثم الكشف عن العوامل المستترة والخفية التي تؤثر في تعاقب الدول وأحوال العمران، طبقا لنظريته الشهيرة حول "العصبية". فما الذي يعنيه ابن خلدون بمفهوم العصبية؟ وكيف يفسر تعاقب الدول وتطورها استنادا إلى تصوره لذلك المفهوم؟

مفهوم العصبية من منظور ابن خلدون

إن العصبية كلفظ كان شائعا ومتداولا قبل أن يبدع ابن خلدون نظريته الشهيرة، لا سيما في أعقاب مجيء الإسلام، والذي أضفى عليها معنى خاصا، إذ أضحت تحيل إلى "الفرقة والتنازع والاعتداد المفرط بالأنساب" (وهو ما تجسمه أقوال مأثورة في الثقافة الشعبية، مثل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، أو "أنا وأخي على ابن عمي...").                         

وفي رأي صاحب "المقدمة"، فإن العصبية تتعرف أساسًا في كونها "رابطة دفاع"، إذ لا يَبرز دورها إلا حين يتعرض أهل البدو خصوصًا لعدوان خارجي، فتنتصب كمحرك أساسي لرد ومدافعة ذلك الهجوم، على عكس العدوان الذي يتعرض له أهل المدن والحواضر، بحيث تتكفل الدولة بصده بما تحوزه من قوة عسكرية (أسوار، حامية... إلخ)، مما جعل ابن خلدون يخلص إلى أن العصبية ظاهرة بدوية قَبَلية بامتياز، وأن العمران البدوي هو أساس العمران الحضري.

وفي تقدير مكتشف علم العمران، تقوم العصبية على جملة من الأسس والمرتكزات الضرورية، والتي لا تشمل النسب فحسب، نظرًا إلى ما قد يشوبه من مخالطة لاستحالة وجود نسب نقي وخالص، بقدر ما تنهض على مقومات أخرى من أبرزها الملازَمة وطول الصحبة والعشرة. غير أن الأساس الحقيقي لأي عصبية، وفقا لنظرية ابن خلدون، يظل هو المصلحة الدائمة المشتركة التي تؤلف بين أعضائها، ذلك أن العصبية هي بمنزلة رابطة معنوية يغلب فيها الأنا العصبي للجماعة على الأنا الشخصي للأعضاء المنتسبين إليها.

أما فيما يخص العوامل التي تفسر سعي العصبيات للحصول على السلطة السياسية عن طريق الثورة على العصبية الحاكمة والإطاحة بها، فيبرز العامل الاقتصادي كمعطى ضروري في التفسير، ولا سيما العصبيات البدوية، التي تعتمد على الزراعة من حيث هي مصدر أساسي لعيشها، الشيء الذي يملي نوعا من التكاتف والتعاون بين أعضائها، كنتيجة طبيعية لنمط الإنتاج الجماعي، الذي تنعدم فيه الملكية الخاصة. وهكذا فإن الباعث الأساسي على السعي وراء السلطة عند هذا الصنف الأول، هو ما قد تواجهه من قساوة الطبيعة (موجات قحط وجفاف... إلخ)، بخاصة إذا تَرافق ذلك مع فرض الضرائب والمغارم الثقيلة من لدن السلطة المركزية، مما يضطرها، بالتالي، إلى الطمع في الحكم وما يستتبعه من رخاء وسَعة في العيش. 

غير أن العامل الاقتصادي لا يكفي وحده لتفسير سعي العصبيات إلى السلطة، إذ نصادف اعتبارات موضوعية أخرى لعل أهمها الدعوة الدينية، لا سيما إذا تعلق الأمر بأهل البدو الرحل من "العرب وما شابههم"، فهم قوم، بحسب ابن خلدون، لا تستهويهم رفاهية المدن وحياة الترف، لفرط ما ألفوا قساوة الطبيعة وشظف العيش. وعليه فإن ظهور دعوة دينية هو العامل القمين بتوحيد عصبياتهم ولم شملهم، الأمر الذي يستحثهم على طلب السلطة السياسية. ومثلما تتغذى العصبية من الدين، فإن الدعوة الدينية من دون عصبية قوية تسندها لا تجد سبيلها إلى النجاح.

الدولة وتطورها في علاقة بالعصبية

إن الدولة، وفقا لنظرية ابن خلدون، تحيل إلى "الفترة الزمنية التي يمتد فيها حكم عصبية ما". فهو يعتبر بأن الدولة، كما الأشخاص، تمر بمرحلة الطفولة (طور التأسيس)، ثم الشباب (طور القوة والعظمة)، فالكهولة والشيخوخة (طور الهرم). وتبعا لذلك، فإن العصبية هي سر نشأة وقوة وضَعف الدول، والمقصود هنا بقوة العصبية ليس كثرتها من حيث العدد، بل مدى تلاحمها وانسجام العناصر المكونة لها.

وفيما يخص الطور الأول للدولة، أي مرحلة النشأة والتأسيس، وبالنظر إلى قرب عهد العصبية الحاكمة من حياة البداوة، فهو يتسم بتغليب المصلحة العامة للعصبة الحاكمة على المصالح الخاصة، إذ لا تفرط العصبية في وحدتها وتماسكها، ويَعد الحاكم نفسه مجرد خادم لها. كما تتميز السياسة المالية للدولة - في هذا الطور - بالاقتصاد في النفقات وعدم مجاوزة الحد المعقول في فرض الضرائب والتكاليف المالية على الرعية، مما ينجم عنه كسب رضى الرعية وتوافر المال في خزينة الدولة بفعل عدم الإسراف في النفقات.

وكنتيجة لذلك، تدخل الدولة في طورها الثاني، طور القوة والعظمة، بحيث تلوح بوادر حياة الرفاهية لدى مختلف الفئات الحاكمة والمحكومة، فتسود رقة الحضارة ونعيمها بدلا من خشونة البداوة وبساطتها، والاستبداد بالحكم والمجد من لدن الحاكم وبطانته عوضا عن مشاركة مجموع العصبية، إذ يلجأ الحاكم إلى الاستعانة بالموالي والمرتزقة لتثبيت سلطته، فتعظم بذلك الحاجة إلى الإنفاق نتيجة للإكثار من الاعتماد على الجند، ناهيك بحياة البذخ والترف لدى الخاصة، بما يفضي إلى الزيادة في المغارم والتكاليف المالية على الرعية من عامة الناس وفلاحين وتجار (ضرائب، مكوس...)، مما يولد لديهم الشعور بالنقمة على حكامهم، فتدخل الدولة طورها الثالث، طور الهرم والشيخوخة، والذي يؤذن بزوال وتفسخ العصبية الحاكمة.

وبما أن العصبية والمال هما قوام الدولة (بالمفهوم الخلدوني)، فإن الأخيرة تهرم وتتداعى حين تفسد إحدى تينك الدعامتين، وهنا يبرز تأثير العامل الاقتصادي في بلوغ الدولة طورها الأخير، حين تقع في ضائقة اقتصادية خانقة ناتجة عن زيادة النفقات مقارنة بالمداخيل، فتعجز الدولة ماليًا عن تغطية الحاجات المتعاظمة المتولدة عن حياة الترف والرفاهية، كما تَفسد العصبية الحاكمة بفقدانها لتلاحمها بما هو سر قوتها. وهنا ينتهي ابن خلدون إلى أن الحضارة مفسدة للعمران (يعني بذلك عمران العصبية الحاكمة على وجه الخصوص)، في حين يَقصد بلفظ "حضارة" ذلك النمط من العيش والاستهلاك، القائم على البذخ والترف لدى الفئة الأرستقراطية الحاكمة ومن يدور في فلكها من الموالي والموظفين.

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

قراءة في كتاب "آخر المشوار..65عاما صحافةً"

التنقيب والإنتاج والتسويق عمليات كلاسيكية نمطها الإعلام لأبرز نشاطات وزارة النفط  ورسخها في الأذهان، لكن في مشهد تكسرت فيه قيود هذا التنميط بالحضور اللافت لإعلام الصحافة والثقافة العراقية في جناح وزارة النفط في معرض بغداد الدولي للكتاب في دورته الثانية في كانون الأول 2021، في حفل توقيع كتاب "آخر المشوار.. 65 عاماً صحافة" لرائد الصحافة العراقية الأستاذ محسن حسين، أثر تبني  وزارة النفط العراقية نفقات طبع وإصدار الكتاب في دار آنيا للفنون المرئية والطباعية والنشر في لبنان بواقع 208 صفحة من القطع المتوسط .

قبل تقديم قراءتنا وعرضنا للكتاب لابد من الإشارة إلى الدوافع الموضوعية التي دفعتنا لهذا الاستهلال لما أشرنا من نشاط لافت لوزارة النفط في معارض الكتاب الدولية على مستوى الدعم والمشاركة الفعالة دعماً منها للحركة الثقافية والكتاب العراقي. وما هذا الكتاب" آخر المشوار" إلا واحدة من سلسلة المبادرات التي اطلقتها الوزارة بعد عام 2003، والتي شملت رعاية القامات الوطنية (ثروة العراق) في فروع الأدب والتشكيل والموسيقى والسينما والإعلام، وغيرها من مجالات المعرفة ولن يكون كتاب آخر المشوار آخر العهد من الدعم والرعاية، بل سيكون بداية المشوار من أجل غد افضل، هذا ما قد ورد بقلم مدير الإعلام في الوزارة الأستاذ عاصم جهاد في غلاف الكتاب الداخلي.

وبالإضافة غلى تبني الوزارة إصدار الكتاب الذي تزامن مع ذكرى مرور نصف قرن على تأسيس منظمة الأقطار العربية  المصدرة للنفط "أوبك" وجهت الوزارة الدعوة الرسمية للمؤلف بحضور الاحتفال الرسمي على اعتبار أنه الصحفي الشاهد على جميع الاجتماعات التي سبقت تأسيس المنظمة عام 1960.

قدمت أولى العتبات النصية للكتاب (الغلاف الأمامي) إشارات انطباعية تحاكي مضمونه، أذ يسيطر العنوان الأيقوني  البصري بورتريه كاريكاتيرية لصورة المؤلف بريشة الرسام علي الصميخ، وقد ضخمت مكونات الوجه وبدت عليها ملامح الشيخوخة والهدوء والتركيز في إشارة إلى أنها شخصية جادة شاخت في مشوارها الصحفي ومازالت مراقبة وتنصت باهتمام، وقد تربع فوق الصورة اسم المؤلف والعنوان الرئيسي "آخر المشوار" ودناها من الأسفل العنوان الفرعي "65 عاماً صحافة".

ساح المؤلف في رفوف ذاكرته الصحفية فاستحضر بانتقائية ما استودعت بها من أحداث تركت بصمتها التاريخية على مدار الخمسة وستون عاماً من العمل الصحفي، تفاعل معها ونضدها في كتاب ضم مقالات متنوعة تتسم بالسلاسة اللغوية وجمال الأسلوب الذي يقترب من الوقائع والأحداث والشخصيات بموضوعية تامة.

 يستهل الكتاب بمقال "أحببتها ولو عاد بي الزمن لما اخترت غيرها" يستحضر الكاتب فيها ذاكرته منتشياً من النجاح الذي حققه بعد نيله أول تذكرة ركوب قطار الصحافة الذي انطلق في 14 تشرين الثاني 1956 من محطة صحيفة الشعب إحدى أهم الصحف في العهد الملكي، وعمل فيها إلى جانب الشاعر بدر شاكر السياب كما تعرف إلى كتاب بارزين أمثال الدكتور علي الوردي، ثم انضم إلى أسرة تحرير صحيفة الجمهورية بعد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالعهد الملكي وأسست النظام الجمهوري، قبل تكليف الزعيم عبدالكريم  قاسم له ولزميله حميد رشيد تشكيل النواة الأولى لوكالة الأنباء العراقية( واع) التي قضى فيها 17 عاماً مديراً للأخبار ومعاوناً لمديرها العام، ومديراً لمكتب القاهرة، وبعد إحالة نفسه إلى التقاعد ألتحق بالعمل في أسرة تحرير المجلة العريقة ألف باء لمدة ربع قرن(25 عاماً) حتى أغلاقها بقرار أمريكي بعد احتلال العراق عام 2003. وبعد هذا الاستهلال ينقلنا الكاتب إلى "100 عام على تأسيس الدولة العراقية" منطلقاً من يوم 23 آب 1921 يوم تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ليوثق بها معلومات عن لحظة تحول العراق إلى النظام الملكي، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، بالإضافة إلى ما رافقها من أحداث تشكيل المجلس التأسيسي من زعماء العراق أمثال نوري سعيد ورشيد عالي الكيلاني، وانتخاب السيد عبدالرحمن النقيب أول رئيس وزراء في العهد الملكي.

رغم خلو الكتاب من مقدمة توضح طبيعته، لكن بإمكاننا القول أن هذا المنجز لم يكن مجرد استعراض عابر لثمة أحداث ووقائع، إنما مقالات ستكتسب أهميتها التاريخية مستقبلاً في محتواها الوثائقي لجملة من الوقائع السياسية والثقافية، وشهادات حية على أحداث وشخصيات كانت لها صداها في تاريخ العراق والوطن العربي، وهي أشبه بالمذكرات الصحفية كتوصيف تجنيسي لها، سردت بضمير المتكلم وبضمير الغائب أحياناً لأحداث خاضها خلال مشواره الصحفي، وقد حدد بها تاريخ ومكان الحدث وشحنها بشيء من العاطفة والحوارات ومعززاً سرده بالصور التي غالباً ما وثقت الحدث.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مقاله الموسوم "14 أيلول يوم تاريخي يفخر به العراقيون" والذي وثق فيه دور العراق في تأسيس منظمة أوبك (في يوم 14 أيلول 1960 كان اليوم الختامي لاجتماعات عقدتها خمس دول دامت خمسة أيام في بهو الأمانة في باب المعظم قرب مبنى وزارة الدفاع وقد حضرت جميع تلك الاجتماعات كصحفي في وكالة الأنباء العراقية.. ويعود الفضل في تأسيس أوبك إلى رئيس وزراء العراق في ذلك الوقت الزعيم عبد الكريم قاسم الذي خاض مفاوضات صعبة ومعقدة مع شركات النفط ..ص31). ويروي محسن حسين في ص43 على شكل حكايات ذكرياته الصحفية عن الرئيس عبدالسلام عارف خلال مرافقته إياه في معظم جولاته الداخلية والخارجية، قبل أن ينتقل في مقاله الموسوم " عبدالرحمن عارف أيام النزاهة والشرف" ليوثق وضع العراق المتمثل بنزاهة الحاكم، والهدوء والأمن مقارنة مع عهود من الاضطرابات التي تلت ذلك الزمان حتى يومنا هذا (عرفت بحكم عملي الصحفي  عبدالرحمن عارف منذ الأيام الأولى لثورة 1958 وكنت أقف جواره لحظة انتخابه رئيساً للجهورية في 16 نيسان 1966 ورافقته خلال فترة رئاسته.. واستطيع القول أنه مثال للإنسان النزيه لم يستغل منصبه ولم يسمح لأفراد عائلته بالحصول على ما لا يحق لهم ..ص52)، كما لم يغفل الكاتب في مذكراته توثيق أحداث 17 تموز 1968 يوم ألقي القبض على رئيس الوزراء عبدالرزاق النايف وسيطرة حزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر على السلطة وأقصاء الرئيس عبدالرحمن عارف.

وتتسربل اغلب مقالات الكتاب بسربال المقالات السردية والوصفية التي حاول فيها الكاتب تزويد القارئ بتفاصيل أشخاص أو مواقف أو أحداث تاريخية دونها بأسلوب واضح وموجز ومكتنز بالوصف قريب إلى الأسلوب القصصي حتى في الحبكة أحياناً، وقد تجلى ذلك بوضوح في مقال "العشاء الملكي الأخير- بغداد ليلة 14 تموز" الذي سرد فيه ما حدث في القصر الملكي ليلة ثورة 14 تموز 1958(كان الملك فيصل وعائلته مجتمعين في قصر الرحاب وهم يضعون الترتيبات الأخيرة لسفره إلى إسطنبول ثم لندن.. ودخل جناحه الخاص للأشراف  على إعداد حقائب السفر، وبرغم جو الدعابة الذي ساد اجتماع أفراد الأسرة وهم يتناولون الشاي فإن شيئاً من القلق والتوجس كان يسيطر على مشاعر بعض الأميرات، وبخاصة الأميرتان عابدية  وبديعة.. وعند الساعة التي سبقت الغروب وصلت سيارة شاهدها أفراد العائلة وهم جالسون في شرفات القصر توقفت وترجل منها ضابط يحمل رسالة سلمها للملك إليها تطلع إليها ملياً وقد اكتسى وجهه بالوجوم وحاول إخفاء ارتباكه أمام الأميرات..ص21).

ويعرج الكاتب بذاكرته بعيداً عن المحلية إلى لقاءاته المتعددة مع الرئيس اليمني عبدالله السلال ويوثق فيها لقاءه به يوم 14 أيار 1964 في افتتاح السد العالي بحضور الرئيس السوفيتي " نيكيتا خروشوف" والرئيس الجزائري أحمد بن بلا، بالإضافة إلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي أخذ هو الآخر نصيباً من ذاكراته الصحفية  عنما شغل منصب مدير مكتب القاهرة في وكالة الأنباء العراقية، ويكشف الكاتب في مذكراته للقارئ عن محاولاته التي اصطدمت بالمنع في التعرف كصحفي على تحية محمد كاظم زوجة الزعيم جمال عبدالناصر.

وتنعرج مسارات المقالات عن سياقها بعد أن شدت إلى مسارات التوثيق إلى سياق الطرافة والغرابة في الأيام الدولية العجيبة والغريبة التي يحتفل بها العالم فيما يسمونه باليوم العالمي للـ ( للشاي، والنوم، والمرحاض، الحمار، والعُسر)، بالإضافة إلى مقالاته المبوبة بـ (سؤال بريء) التي تناول بها وضع العراق المعاصر في ظل شبهات  الفساد التي يشهدها في مختلف  مرافق الدولة ويثير فيها الكاتب ما يسميها أسئلة بريئة لكنها تندرج ضمن سياقات التهكم السقراطي القائم على السخرية مع التظاهر بالجهل بطرح أسئلة من شأنها دفع الآخرين في البحث عن الحقيقة.

ثم ما تلبث أن تعود عجلة المقالات إلى مسارات التوثيق عبر توثيق ذاكرته الفنية والثقافية منطلقة من محطة فنانة الشعب فخرية كريم الذي ذكر فيها اللقاء الأول الذي جمعهم ، ويكشف للقارئ بها عن رسالتها إلى الفنان يوسف العاني والتي عبرت فيها عن رغبتها في التمثيل والانضمام إلى فرقة المسرح الحديث وموضحة العقبات التي تواجهها . وفي المحطة الثانية توقف عند الفنانة السينمائية والمسرحية ناهدة الرماحي ووثق فيها  لحظة فقدانها البصر على خشبة المسرح في 10 كانون الثاني 1976 في مسرحية القربان الذي أعدها الناقد الكبير ياسين النصير، ثم يعرج  بذاكرته بلقاءات جمعته بيوسف العاني وسليم البصري قبل أن يختم مقالاته في لقاءه بالفنان جواد سليم قبل عامين من بدء العمل في نصب الحرية موثقاً  شيئاً من سيرته، وإجابته عن المدرسة الفنية التي ينتمي إليها ولحظة وفاته قبل إتمام مشروع النصب.

والى يومنا هذا لم يشيخ رائد الصحافة العراقية  الأستاذ محسن حسين فما زال يواصل مشواره ويمارس الكتابة ويمتع القراء في صحيفة الزمان العراقية والدولية أو عبر صفحته الخاصة  على الفيس بوك، وقد أضاف بكتابه هذا منجزاً إبداعياً رابعاً إلى جانب (ذكريات صحفية، من أوراق صحفي عراقي، صورمن الماضي البعيد) وثق فيها شذرات من تجربته الصحفية الطويلة وما رافقها من مواقف وأحداث على مدار 65عاماً بأسوب وئيد، ونبرة متواضعة ممتزجة  بسماته الشخصية من غير استطرادات طويلة ومملة غالباً ما يقع بها كتاب السيرة الذاتية عند الحديث عن الذات. 

***

صفاء الصالحي

 

كتاب عبارة عن دراسة علمية رصينة من إنجاز الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2011، يتضمن ثمانية فصول موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية (222 صفحة). يذهب الكاتب إلى أن قلة من الباحثين – سواء العرب أو الغربيين – من ركز على البعد السياسي من المشروع النبوي، إذ استأثر الجانب الديني والدعوي بالقسط الأوفر من اهتمامهم، ذلك أن النبي (ص) كان أيضا قائدا سياسيا (ما يميزه عن مجموعة من الرسل) تَوَسل بوسائل السياسة والقوة المادية للتمكين لرسالة الإسلام، وكانت تصدر منه تقديرات واجتهادات سياسية لا تخلو من فطنة وبعد نظر. وهكذا يتحدد موضوع البحث في "تكوين المجال السياسي الإسلامي والموقع التأسيسي للمشروع النبوي فيه". وفي هذا الصدد، لا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بالمشروع السياسي النبوي وعظمة قائده محمد (ص).

وعليه، فقد شغلت المسألة السياسية مكانة مركزية في الإسلام منذ صدره الأول لحاجة الرسالة الدينية إلى سلطان سياسي يرسخ دعائمها، ويوسع من رقعة انتشارها، ويضمن بذلك استمراراها ومنعتها. فما هي مظاهر وتجليات حضور مشروع سياسي نبوي؟

أولا: الوظيفة السياسية للحرب

رغم تشديد البعض على المضمون الديني الصرف للحرب، فإنها تنطوي أيضا على وظيفة سياسية تكتيكية ضرورية لخدمة الهدف الاستراتيجي الديني، مثل إضعاف شوكة العدو (قريش) اقتصاديا وتجاريا لحمله على الدخول في الإسلام، إذ ليس يخفى وجود اعتبارات "سياسية" و"اقتصادية" تفسر تعنت قريش ورفضهم لدعوة الإسلام، تتمثل في الخوف من تضرر مصالحها المادية والتجارية التي تدرها عليها الأصنام والأوثان (القوافل التجارية الكي كانت تفد إلى موسم الحج بمكة... إلخ)، فضلا عن حاجة المسلمين الماسة إلى خوض الحروب من أجل توفير الموارد الاقتصادية الضرورية عن طريق تحصيل الغنائم، باعتبار ضعف اقتصاد المدينة الفقير حينئذ مقارنة بمكة التي كانت تعد قوة تجارية كبرى. ولما كانت "الحرب خدعة" بتعبير النبي (ص)، جرى الحرص على نسف تحالفات العدو إبان الحرب عبر نشر الأخبار الكاذبة المضللة.

ثانيا: التحالفات والمعاهدات

من بين الأمثلة على المعاهدات التي عقدها النبي (ص) التحالف مع القبائل اليهودية بيثرب بعيد الهجرة والتعهد بالذود عن حمى المدينة في مواجهة العدو المشترك، وذلك قبل أن يحدث الصدام المسلح بينهما. هذا بالإضافة إلى ما عُرف ب "صلح الحديبية" مع قريش في السنة السادسة للهجرة. فبرغم معارضة فريق من الصحابة والتابعين لذلك الصلح، إذ رأوا فيه تنازلا دينيا غير مبرر، فإنه حقق مصلحة استراتيجية للمسلمين، الذين كانوا في حاجة إلى هدنة لإعادة تنظيم صفوفهم، وتجهيز جيشهم لتحقيق الغاية الكبرى (النصر النهائي ضد قريش)، بدليل أن النبي (ص) نقضه بعد حوالي سنتين من إبرامه بعد تغير ميزان القوى لصالح الجماعة الإسلامية على نحو لا يخلو من دهاء سياسي وبعد نظر.

ثالثا: وسائل بناء الجماعة السياسية الموحدة

وفي جملتها توحيد القبائل العربية في إطار رابطة دينية جامعة (الإسلام)، دون أن يعني ذلك إلغاء روابط الاجتماع الأهلي التقليدية بشكل مطلق، فقد وظفت الدعوة المحمدية البنى القبلية التقليدية في خدمة الرسالة الدينية (طمأنة سادة قريش على مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم المادية في حال دخولهم الإسلام، المصاهرة كزواج النبي من بنت أبي سفيان رغم أنه كان مشركا قبل إسلامه... إلخ)، لأن دخول قريش الإسلام هو شرط ضروري لإسلام باقي قبائل العرب لما تملكه من نفوذ عليها، الشيء الذي تَأَكد بعد فتح مكة (السنة الثامنة للهجرة).

رابعا: التنظيم السياسي والإداري لدولة المدينة

انبثق نوع من التنظيم السياسي – الإداري "أتى يمثل مشهدا جديدا على عرب لم يألفوا معنى الدولة أو الانقياد لسلطة مركزية في تاريخهم"، بحيث اضطلع بجملة من الوظائف الحيوية للدولة بقيادة النبي (ص) تُسنده طبقة سياسية مثلها كبار الصحابة:

"إن قيادة الرسول لحروب المسلمين، وتكوين جيش مدرب، وإبرام الاتفاقات والمعاهدات، وإحداث المسؤوليات المدنية (قضاة، عمال على الأقاليم... إلخ)، والأمنية (جهاز تجسس غير نظامي)، والسياسية (مجلس الصحابة "المستشارين")... إلخ، مما يقطع بأن نواة نظام سياسي كانت تنشأ في تجربة الإسلام الأول بقيادة النبي"، بالإضافة إلى مظاهر سياسة خارجية مارسها الرسول محمد (ص)، ويستدل الكاتب على ذلك بمراسلات النبي للملوك والأباطرة النصارى والقبائل غير المسلمة.

خامسا: استنتاجات

لعل الكاتب - في تقديري الشخصي - من خلال بحثه المتميز هذا، الذي عززه بدراسة أخرى مكملة له (جزء ثان) سنخصص مراجعة لها لاحقا، يلتمس – ضمنيا – الشرعية للدولة المدنية، فيما يرفض، بالمقابل، نموذج الحكم القائم على الدولة الثيوقراطية التي تدعو إليها تيارات الإسلام السياسي. فالمؤلف ينطلق من حقيقة مفادها غياب تشريع قرآني ملزم بشأن المسألة السياسية، بحيث تُرك المجال للنبي (ص) وخلفائه من بعده للاجتهاد في المسائل السياسية التي تعرض لهم طبقا لما تمليه مصالح الأمة وأحوال العمران. وهكذا ينتهي الكاتب إلى طرح مؤداه أن "مجال السياسة في الإسلام نشأ بعيدا عن أية قداسة دينية مفترضة، لأنه بُني على اجتهاد"، كما يستدل الباحث على موقفه بما ذهب إليه الفقه السني حول الدولة: "الدولة التي أنتجها الإسلام ليست دولة دينية (ثيوقراطية) لأنها – عند أهل السنة "على الأقل" – تقوم على مواضعات مدنية. فالدولة من الفروع لا من الأصول، أي أنها ليست ركنا من أركان الدين".

***

بقلم: صلاح الدين ياسين

 

عنوان الكتاب: فوكو في السينما بالنسخة الإنجليزية -  Foucault at the movies .. وميشيل فوكو يذهب إلى السينما -  Michel Foucault va au Cinéma في النسخة الفرنسية.

أما أنا فسأعطيه عنوان فوكو والسينما:  Foucault et le cinéma - Michel Foucault va au Cinéma

باتريس مانيجلير - Patrice Maniglier

دورك زبونيان - Dork Zabunyan

مقدمة المترجم

   ميشيل فوكو وجيل دولوز يذهبان إلى السينما

دراستان حول علاقة مفكري القرن العشرين بالفن السابع. النظرية النقدية للحدث التاريخي لأحدهما، فك التشفير المفاهيمي للصور للآخر. يذهب فوكو إلى السينما، بقلم باتريس مانيلييه ودورك زابونيان، إصدار بايارد، 2011، 170 صفحة، دولوز في السينما لسيرج كاردينال. مطابع جامعة لافال في كيبيك، 2011، 236 صفحة.

الفلسفة، بحسب جورج كانغويلهم، هي نشاط العقل الذي يتغذى على كل ما هو غريب عنه. نريد أن نضيف: بشرط ألا تفقد المعنى بالمفهوم أبدًا. كيف إذن لا نشك في الموضة الحديثة التي، تحت عنوان ضبابي إلى حد ما "الفلسفة السينمائية"، تدعي توضيح القضايا النظرية بمساعدة الصور التي ترقى لهذه المناسبة إلى مرتبة الفلاسفة الجاهزين؟ للعمل؟ من المؤكد أن الفن السينمائي، في المرتبة السابعة على اسمه، يستحق مصيرًا أفضل من مخزون الأفكار المفعمة بالحيوية للمستمعين والمتفرجين المتلهفين للقراءة.

في هذه اللعبة الصغيرة في الوقت الحاضر، لم نكن لنقتصر على فلاسفة مثل ميشيل فوكو وجيل دولوز. تحليل دراستان حديثتان عن فيلسوفين معاصرين وعلاقتهما الفريدة بالسينما. الأول ليس بالمعنى الدقيق للكلمة معروفًا بارتباطه بفن لم يكرس له أي عمل. على الأكثر، لدينا بعض النصوص والمقابلات التي أجراها فوكو حول أفلام تتعلق بعمله كفيلسوف ومؤرخ. يقدم باتريس مانيلييه ودورك زابونيان عينة تتراوح من بيير ريفيير إلى مارغريت دوراس، بما في ذلك آلان رينيه. من خلال السينما، اكتشف فوكو طريقة أخرى لصنع تاريخ المعرفة والتصور المفاهيمي، ومنهجًا للأحداث يفتح باب النقد لبعده الميتافيزيقي التقليدي. رحب فوكو بالسينما على أنها ما يغير مفهومنا عن الجسد البشري والقصص التي يمكن إنتاجها عنه.

مع جيل دولوز، الأمور مختلفة للغاية. يعتبر دولوز متحمسًا للفيلم ومنظراً أكاديميًا وانتقائيًا، وهو مؤلف واحد من أعظم الكلاسيكيات في الأدب الفلسفي عن السينما. نعم، ولكن إليكم الأمر: هذا العمل، الذي يُستشهد به على نطاق واسع ومسهب في كثير من الأحيان، كثيف، مثل كل أعمال مؤلفه. لا يدخل هذه الغابة المفاهيمية من يريد. يجب أن يكون مستعدًا لذلك، وليس فقط من خلال معرفة السينما. لابد أنك قرأت برجسون واستوعبت نصف قرن من النقد السينمائي. للتخفيف من قسوة هذه القراءة الأساسية، يسعدنا أن يكون لدينا الآن أداة من الدرجة الأولى مع عمل سيرج كاردينال. باستعادة أدنى دقة لطريقة دولوز ومقاربته، وفك رموز أذواقه وهواجسه، يجعل الكاردينال في متناول القارئ النقطة المركزية في مقاربة أو نهج دولوز: النقطة التي يكشف فيها الفكر إلى أي مدى يمكن أن تنحرف الصورة، الخيط الإرشادي لكل هذه الدراسة. في المفهوم وحتى تطارده في حركته غير المتوقعة في كل مرة. بعد ذلك تصبح السينما تتحدث حقًا.

أما ميشال فوكو والسينما: فلهذا قصة كاملة:

بين ميشيل فوكو والسينما، كان هناك تاريخ منقط. وكتاب يجمع هذه الأجزاء المتناثرة.

تعتبر الفلسفة السينمائية من المواضيع المألوفة وموضة هذه الحقبة، حتى لو كنا نبحث في كثير من الأحيان عن التوضيح البسيط للأفكار التي تم إنشاؤها بالفعل. إذا كان لقاء ميشيل فوكو مع السينما قد أسيء فهمه، فربما يكون ذلك لأنه لا يسمح بمثل هذا الموقف. لم يؤلف فوكو كتابًا عن السينما أبدًا. لكنه ترك عشرات النصوص والمقابلات مبعثرة في Dits et Ecrits. تم جمع مقتطفات واسعة النطاق هنا لتقدم فكرة أفضل عن لقاء هذا الفيلسوف بالفن السابع. لا يظهر الفيلسوف هناك على أنه صاحب حقيقة متداولة؛ لكنه وجد، في أفلام معينة، طريقة للتعامل مع المشكلات التي يعمل عليها كفيلسوف ومؤرخ. هذا الكتاب هو المحاولة الأولى لتقييم هذه المواجهة غير المعروفة. نرى هناك أن السينما تجعل من الممكن بلورة مفهوم جديد للحدث؛ لاستكشاف جسم خالٍ من عضويته؛ لالتقاط قصة بدون ضحايا أو أبطال، بناءً على الإجراءات الدقيقة التي لا ندركها بالضرورة والتي مع ذلك تقرر إجراء تغييرات عميقة في الفهم الذي قد يكون لدينا عن أنفسنا. التفكير على نحو مختلف لنرى بشكل مختلف، وننظر بشكل مختلف لنفكر بشكل مختلف.

على عكس دولوز Deleuze أو رانسيير Rancière أو مؤخرًا آلان باديو Alain Badiou، لم ينشر ميشيل فوكو Michel Foucault كتابًا عن السينما. ومع ذلك، فقد عبرت حياته المهنية، بطريقة دقيقة ولكن حاسمة، تاريخ الفن السابع، حيث تتعقبه العديد من النصوص والمقابلات، المنشورة والمبعثرة " أقوال وكتابات Dits et écrits"

من مقابلة أساسية مع مجلة كراسات السينما – كاييه دي سينما Cahiers du Cinema حول "الموضة الرجعية mode rétro» إلى حوار مع هيلين سيكسيوس Hélène Cixous حول مارغريت دوراس Marguerite Duras، مروراً بتحليل مفصل للغاية لفيلم من إخراج Pasolini  بازوليني، تحقيق حول الجنس Enquête sur la sexualité، لم ينقطع فكر فوكو، في الواقع، عن الانغماس في الصالات المظلمة .

مقاربة شاملة لعلاقة الفيلسوف بالسينما:

كان لدى كل من دورك زابونيان Dork Zabunyan وباتريس مانغليه Patrice Maniglier فكرة حكيمة تتمثل في جمع بعض هذه الأجزاء معًا في مجلد واحد. وحتى لو شعر المرء بالأسف لأن يجد في عملهم مجموعة مختارة فقط من النصوص والمقابلات التي كرسها الفيلسوف للسينما، فإن مقالاتهم التمهيدية المفيدة للغاية تجعل من الممكن، لأول مرة، الحصول على مقاربة لعلاقات فوكو مع الصور المتحركة.

وبالتالي، فإن هذه النظرة العامة تكتسح الفكرة التي تم تلقيها والتي بموجبها يمكن تلخيص تاريخ فوكو والسينما في مفترق طرق فريد: إعداد المخرج رينيه أليو René Allio، للسينما في عام 1976، للشهادة التي نشرها المؤلف، قبل ثلاث سنوات، أنا، بيير. ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي. Moi, Pierre Rivière, ayant égorgé ma mère, ma soeur et mon frère.. أو، بشكل أكثر تحديدًا، يوفر إمكانية فهم ما كان من الممكن، في فكر فوكو، أن يولد مثل هذا التقاطع والتلاقي: بين انتباه الفيلسوف إلى "الحبوب الصغيرة" من التاريخ grain minuscule de l’histoire  "(الذي وصفه بنفسه بأنه متأثر بطريقة فيلم أنطونيوني " الانفجار Blow up  ") والفن السابع، وكان لا بد من عقد لقاء.

هذا العنوان المبهج والجذاب مضلل. في الواقع، يتساءل اثنان من الفلاسفة على التوالي عن مفهوم "التاريخ العام" فيما يتعلق بالحدث كما ذكر فوكو والطريقة التي يمكن للسينما أن تستخدمه، "تأثير السينما على ميتافيزيقيا" الحدث ". يبدو فيلم رينيه أليو، "أنا، بيير ريفيير ...»، الذي يتناول خبرًا مؤرشفاً حلله فوكو، نموذجيًا تمامًا. استطاع أليو صانع الأفلام الذي يتسم بالرصانة والحنكة، أن يعطي صوتًا لأولئك الذين أسكتتهم قوى التاريخ والمعرفة؛ يعيد العناصر الدقيقة التي تعطي جوهرًا لكتلة الحياة اليومية. يتم اقتباس أعمال سبيربيرغ Syberberg (هتلر، فيلم من ألمانيا)، Resnais (Nuit et Brouillard) وليل وضباب للآن رينيه، وفيريه Féret (حكاية دي بول) وعدد قليل من الأعمال الأخرى في رسوم توضيحية موجزة لسينما تفلت من إغراءات الجماليات. عمليات البطولات المعتادة أو إحياء الذكرى، وتتجاهل "الرجعية" المؤسفة. تختتم بعض نصوص فوكو هذه التأملات، مقتطفات من منشورات أو مقالات أو مقابلات.  الأسلوب، والتكنيك، والمفاهيم، صعبة، لا تشجع على القراءة.

فهناك أولاً حساسية تجاه الفن السابع أكثر مما هي حساسية تجاه نظرية منهجية:

نجد هذا الشغف الدقيق نفسه في الصفحات الثمينة التي يكرسها فوكو للأفلام التي يحبها، وقبل كل شيء في أوصافه الرائعة لـلعبقرية السينمائية cinégénie " لــ " الممثلين. سواء كان ميكائيل لانسدال Michael Lonsdale ("كثيف وضخم مثل ضباب بلا شكل") أو بطلات أفلام شروتر Schroeter ("في موت ماريا ماليبران La Mort de Maria Malibran، الطريقة التي تتبادل بها المرأتان القبل la manière dont les deux femmes s’embrassent, qu’est-ce que c’est ?، أليس كذلك؟ الكثبان Des dunes، قافلة في الصحراء une caravane dans le désert، زهرة شرهة تتقدم une fleur vorace qui s’avance، فك الحشرات des mandibules d’insecte، شق مستوى العشب une anfractuosité au ras de l’herbe  ").

وها هي هنا المفاجأة الرئيسية: إذا ذهب فوكو إلى السينما، فليس لاستخراج أسس نظام نظري أكثر مما هو ممارسة هذه الحساسية الخاصة أولاً وقبل كل شيء للطريقة التي تخترع بها العدسة جسمًا جديدًا. ابلاستيكياً تماماً entièrement plastique   أي تشكيلياً محض "، وكأنه يهرب من نفسه.

تُجمع هنا لأول مرة نصوص ميشيل فوكو عن السينما بفضل Dork Zabunyan و Patrice Maniglier الذين يعرضونها ويحللونها. من المثير للدهشة أن هذا الجانب من عمل ميشيل فوكو لم يكن أبدًا موضوعًا لكتاب حتى الآن، حيث يتم التعليق على أعماله ومناقشتها اليوم. كانعكاس غير مسبوق لعلاقته بالسينما.

التفكير في السينما بشكل مختلف:  Penser autrement le cinéma

استجابت أبحاثه حول السجن والمستشفى والجنس، لرغبته في "التفكير على نحو مختلف" وعلى وجه الخصوص في صنع التاريخ بشكل مختلف، من خلال التركيز على كل هذه الإجراءات الدقيقة التي لا ندركها ولكنها تحدد بعض التغييرات الأكثر عمقًا . عولى وجه التحديد، وهذا ما يوضحه هنا المؤلفان الفيلسوفان دورك زبونيان وباتريس مانيلييه Dork Zabunyan et Patrice Maniglier، السينما مكان يمكن فيه رؤية هذه التغييرات الدقيقة اللاواعية. وبالتالي، فإن علاقة فكر فوكو بالسينما بعيدة كل البعد عن كونها هامشية، مثل مساهمة هذا العمل في استقبال آثاره وأبحاثه ومؤلفاته.

Dork

إصدار كتاب يجادل فكر الفيلسوف في ضوء الفن السابع:

"فوكو يذهب إلى السينما". الفلسفة هي الموضة، في مجال السينما، تم تكييف العديد من المفكرين بالفعل مع صلصة الفن السابعة لمدة عشر سنوات. بالطبع، هذا ليس شيئًا جديدًا أيضًا: بالفعل في السبعينيات، أجرت مجلة مشهورة سلسلة من المقابلات تحت رعاية أحد أعظم النقاد في التاريخ - سيرج داني Serge Daney - مع طلاب مدرسة نورمال سوبريور Normale Sup السابقين، بما في ذلك الفلاسفة المعروفون الآن بكتاباتهم في السينما.

دولوز Deleuze على وجه الخصوص مع الأعمال الشهيرة بعنوان "السينما" والتي تزين معظم مكتبات عشاق السينما. أو حتى جاك دريدا Derrida، مخترع "التفكيك déconstruction «، فقد سلطت مقابلات مختلفة الضوء عليه غنبثقت منها فكرته القوية عن السينما وحول السينما، من بين أمور أخرى، فكرة أو مفهوم "الأشباح على الشاشة fantômes à l’écran ". بالنسبة لفوكو، الذي يثير اهتمام الأكاديميين باتريس مانيلييه ودورك زابونيان، فإن القضية أقل وضوحًا. يعتبر مؤلف كتاب "الكلمات والأشياء Des mots et des choses "، كما نعلم، أحد أشهر الفلاسفة في السبعينيات، والذين لا تزال أعمالهم حول تاريخ الجنون والجنس مستخدمة ومنتشرة على نطاق واسع. يكمن رهان الأكاديميين في المقام الأول في تجميعهما معًا ومحاولة تحليلهما لاستخراج فكرة مشتركة عن الفن السابع. تتكون معظم تصريحات الفيلسوف حول السينما من مقابلات أجريت مع فريق كراسات السينما Cahiers du Cinéma، ولا سيما حول أحد أشهر أعماله، أنا، بيير ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي. تم أيضًا نشر معظم النصوص المتعلقة بالسينما في مسيرة فوكو في مختاراته من أقوال وكتابات.

يذهب الكتاب أحيانًا إلى أبعد مدى لفرض فكرة أن الفيلسوف فكر في السينما جيدًا من خلال تجربته كمفكر للفنون، من خلال كثرة جمل الأمثلة، ولكن أيضًا من تحليلات ما كان يمكن أن يكون فكرًا فوكويًا تم تكييفه مع فيلم. كتاب فوكو يذهب إلى السينما مقسم إلى ثلاثة أجزاء. في البداية، يسعى المؤلفان جاهدين لفهم ما يمكن أن يجلبه فكر الالفيلسوف، وخاصة التاريخ، إلى نظرية الفيلم. المحاولة الثانية لتعكس ميتافيزيقيا الفيلسوف على الأعمال التي ميزته، مثل فيلم لويس مال Louis Malle، لاكومب لوسيان Lacombe Lucien، أو فيلم  هتلر، فيلم من ألمانيا Hitler, une film d’Allemagne لسيبربيرغ Syberberg، والذي يتعامل بالنسبة له حقًا مع ما أسماه ضد صيغة الماضي الرجعية "أنتي ريترو l’Anti-Rétro "، وهي قصة في الماضي يمكن تسجيلها في الوقت الحاضر . وأخيرًا، في الجزء الثالث، يجمع المؤلفان كل نصوص فوكو معًا، وبالتالي يعرضونها ببساطة كما على القارئ.

إذا هتفنا بإصدار نصوص هذا الفيلسوف الذي تكون كتاباته معاصرة دائمًا، فلا بد أن نأسف للإفراط في الإضافة sur-ajout المقحمة وضجيج عدد الأفكار. من خلال هذا الانغماس في كتابات المؤلف، يبدو أن الأكاديميين يفقدان تفكيرهما الخاص، وتحليلهما الشخصي للأعمال السينمائية والمكتوبة، ويقدمان فقط ما يسمى بتحليل النصوص المكافئة لتلك التي يمكن إجراؤها في المدارس الثانوية الفرنسية. على وجه الخصوص، أخذ الأمثلة التي لا تتناسب دائمًا مع الموضوع. من المؤسف أن نرى أفكار فوكو تغرق في سيل من الاقتباسات وإعادة الصياغة، حيث يستحق هذا المفكر، على سبيل المثال، مزيدًا من الاهتمام بعمله حول الجسم في السينما.

ميشيل فوكو المفكر بامتياز في الخطابات والسلطات. يمكن حصرها في جملة واحدة، فإن الفيلسوف هو الذي أعاد، في أعقاب نيتشه Nietzsche وفي السياق الثقافي الحيوي للغاية في الستينيات / الثمانينيات في فرنسا، بناء الجوانب المتعددة للتاريخ السياسي لحقائقنا. هل هو مفكر سينمائي؟ لا يبدو هذا الارتباط واضحًا للوهلة الأولى. على عكس الفلاسفة الآخرين في عصره، مثل جيل دولوز، على سبيل المثال، لم يخصص فوكو أبدًا كتابًا أو سلسلة من النصوص العضوية للسينما. يجد المرء في مقابلاته ومقالاته، المنشورة بالفرنسية في أقوال وكتابات Dits et Écrits، عددًا معينًا من المراجع، غير المتجانسة والمشتتة وغير المنتظمة، وغالبًا ما تكون نتاج لقاء مع المخرجين والنقاد والمثقفين الذين يعملون من خلال السينما ومعها . إن كتاب فوكو يذهب إلى السينما أو فوكو في السينما

يفترض الرهان على حوار ممكن ومثمر بين الممارسة السينمائية وفلسفة فوكو. هذا الرهان كبير، لأنه يجب أن يتغلب على عقبتين رئيسيتين: من جهة، كما أشرنا للتو، غياب خطاب منظم من قبل فوكو حول السينما، الطابع العارض والعرضي دائمًا لملاحظاته حول السينما. من ناحية أخرى، فإن المخاطرة التي أكدها المؤلفان في مقدمتهما، تتمثل في جعل هذا اللقاء بين فوكو والسينما مجرد تأثير أزياء، يصلح للدخول في عنوان "فلسفة الفيلم" الرائج اليوم ومن سيقنع نفسه مع البحث في الأفلام عن رسوم توضيحية بسيطة لأطروحات فوكو. ومع ذلك، نجح عمل المؤلفان في تجنب هاتين الخطوتين، ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى العمل الذكي المتمثل في "التحرير" على مستوى كل من المحتوى وشكل النص. يتألف الكتاب بالفعل من مقالتين، كتبها المؤلفان، تعكسان فورًا ثراء وتعدد نهج  ومقاربة للممارسة السينمائية من خلال فوكو: يقترح دورك زبونيان، أستاذ الدراسات السينمائية بجامعة باريس 8، التفكير في "علم الوجود" للفيلم الذي يمكن أن يلهم الحوار مع فوكو، حول الخصائص المحددة لهذه "المعرفة" المحددة، بالمعنى الفوكوي للمصطلح، التي تنتجها وسيلة السينما ؛ باتريس مانيجلييه، محاضر في الفلسفة في جامعة باريس نانتير، يفحص عن كثب التداخل النظري والفلسفي بين العمل السينمائي وكتابات فوكو: ما يمكن للسينما أن تلقي الضوء على "ميتافيزيقيا" فوكو"métaphysique" foucaldienne.

تمت إضافة إلى هاتين المقالتين، في النسخة الفرنسية من العمل، مقاطع من النصوص والمقابلات التي خصصها فوكو للسينما، والتي نُشرت في Dits et writings، ومقتطف من برنامج دورة من الإسقاطات التي عقدت في La Villa Arson في نيس بين فبراير وأبريل 2011، تحت رعاية ECLAT (مكان الخبرات للسينما والآداب والفنون والتقنيات). اقترح هذا الحدث مناقشة سلسلة من الأفلام التي تدخل في حوار مباشر أو غير مباشر مع فلسفة فوكو، كنوع من الرحلة السينمائية في القوة "السياسية المصغرة" للصور والأرشيف السمعي البصري. ومع ذلك، فإن النسخة الإنجليزية من العمل، بفضل العمل المهم للمترجم، تزيد من إثراء هذه الفسيفساء من الخطابات: يتم نشر النسخة الكاملة لنصوص فوكو عن السينما وإتاحتها للجمهور الناطق باللغة الإنجليزية. أضاف المترجم أيضًا المراجع والملاحظات لتوضيح بعض النقاط للقارئ غير الفرنسي، واستخدم العناوين الإنجليزية (عند وجودها) للأعمال والأفلام المذكورة. تشكل الترجمة الإنجليزية لكتاب Maniglier و Zabunyan ain إذا كانت لحظة مهمة لاستقبال فوكو في العالم الناطق باللغة الإنجليزية وفرصة للحوار بين النقد الفوكوي foucaldienne la critique  في فرنسا وداخل الثقافة الأنجلو سكسونية.

يبدأ مؤلفا العمل من الفرضية التي بموجبها يجد المرء في المواجهة بين فوكو والسينما أكثر بكثير من مجرد مصلحة متبادلة أو تقارب سطحي للموضوعات. من الواضح أن الأمر لا يتعلق بالكشف عن نوع من السينما المثالية الفوكوية (الأفلام التي أحبها فوكو)، ولا الاكتفاء بتتبع المناقشات وعمل صانعي الأفلام حول فكر فوكو (حتى لو كان الكتاب يخصص حقًا مكانًا مهمًا للعنوان). المقابلة التي أجراها فوكو مع محرري كراسات السنينما "Cahiers de cinema" في عام 1974، [4] وإلى تصوير فيلم "بيير ريفيير" إخراج رينيه أليو، 5 استنادًا إلى العمل الأرشيفي المهيب الذي نفذه الفيلسوف ومعاونيه في وقت مبكر. السبعينيات). يتمثل التحدي في عمل مانيجلير وزابونيان في إظهار أن الفلسفة والسينما الفوكودية تلتقيان على نفس البعد النظري والعملي: يمكن أن يشكل الاثنان قوة خبرة، بالمعنى الذي أعطاه فوكو لهذا المصطلح، أي ديناميكية قادرة على تغيير من نحن وكيف نرى ونتصرف في العالم. أكد فوكو في عام 1978 في مقابلة شهيرة مع دوتشيو ترومبادوري Duccio Trombadori أن التجربة هي "شيء يخرج منه المرء متحولًا". تعد السينما والفلسفة إذن شكلين، وإن كانا مختلفين، للحركة التجريبية: وهكذا يمكن للسينما أن تواجه، من خلال هذه الوسائل، القوة النقدية في قلب فلسفة فوكو كبادرة ملموسة للفكر، كديناميكية للتحول للذات وللإنسان والآخرين. السينما تجعلنا "ننظر بشكل مختلف" ما تسمح به الفلسفة "بالتفكير على نحو مختلف".

على وجه الخصوص، تجعل السينما من الممكن إعادة التفكير في سؤال يقع في صميم أعمال فوكو: هل يمكننا تخيل طريقة أخرى للتفكير وصنع التاريخ؟ يستكشف الفصل الذي كتبه Dork Zabunyan هذه المشكلة من خلال انعكاس، نظري بالتأكيد ولكنه يعتمد على عدد من الأمثلة الملموسة " هانس يورغن،سبيربيغ،لوي مال،رينيه فيريه،بيير باولو بازوليني،، ويرنر شرويتير ليليان كافاني، ميكائيل لانسدال، (Hans-Jürgen Syberberg، Louis Malle، René Féret، Werner Schroeter، Michael Lonsdale، Liliana Cavani، Pier-Paolo Pasolini، إلخ. .)، المتعلقة بشكل المعرفة الخاصة ببعد الفيلم. عند التساؤل من منظور المشروع الأثري الفوكوي، من الواضح أن السينما لا يمكن أن تقع في جانب الخطاب البحت، مثل رواية أو مخطوطة أرشيفية، ولا في جانب غير الخطابي، مثل الرسم. على سبيل المثال، فهي نفسها رمزية في أعمال فوكو (فقط فكر في تحليل Las Meninas من قبل فيلاسكيز Vélasquez الافتتاحي الكلمات والأشياء). بين الصورة والخطاب، المرئي والقابل للقول، يسمح الفيلم في الواقع على مستوى إعادة البناء التاريخي بينما يشكل شكلاً "الخروج" من أي مفهوم أكاديمي وثابت للتاريخ وكذلك من الذوق "الرجعي" البسيط للماضي. يمكن للفيلم أن يصبح عنصرًا من ممارسات واستراتيجيات "الهجوم المضاد" 8 التي يصفها فوكو، في كتابه عام 1976  إرادة المعرفة La volonté de savoir ، باعتباره الإمكانية الوحيدة للمقاومة الفعالة لأجهزة القوة والجنس التي تشكلنا. يتضح هذا بشكل خاص إذا أخذنا في الاعتبار بُعد الجسد في السينما. فوكو نفسه، بالإشارة إلى أفلام فيرنير شروتير Werner Schroeter أو مارغريت دوراس Marguerite Duras، على سبيل المثال، يعترف بالقوة المناسبة للوسيط السينمائي للعرض على خشبة المسرح لجسد يهرب في تعدده من الإدراك العضوي للسلطة ومن الوضوح الوحيد لسلطة ما. الرغبة الجنسية: 9 "جسد بلا أعضاء"، لاستخدام مفهوم أساسي لأنطونين أرتو Antonin Artaud، والذي يكشف في تجزئه وتشتت القوة (كم مثير للشهوة الجنسية) للتأليف الجسدي الذي يفجر منطق التفرد وتصنيف القوى المعاصرة . عندئذٍ بالضبط، من خلال قدرتها على التفكك والتشتت، يمكن للسينما أن تنضم مجددًا إلى هذا الطابع من الانقطاع الخاص بممارسة فوكو التاريخية. السينما هي "فن الفقر والافتقاد art de la pauvreté "، كما قالت هيلين سيكسوس عن مارغريت دوراس في مقابلة مع فوكو من عام 1975: 10، وهو تمرين يتكرر باستمرار في تجريد أغلال التقاليد والأيديولوجيات ووسائل الراحة. هذا الفقر، علاوة على ذلك، له الكثير ليفعله، كما أشار المؤلف بحق، مع متطلبات "الزهد" و "أسلوب الذات" التي ستكون في صميم فكر فوكو، لا سيما في الثمانينيات - ونحن نأسف أن انعكاسات دورك زابونيانDork Zabunyan تشير إلى هذه النقطة، فإن الفتحات نحو السينما في المرحلة الأخيرة من العمل الفوكوي لم يتم استكشافها كثيرًا. على أي حال، فإن غياب السينما عن الأرشيفات التي استخدمها فوكو في أعماله الكبرى لا ينبغي أن يكون مفاجئًا. ربما يكون الوسيط السينمائي قريبًا جدًا في منطقتنا أن يكون تاريخًا حديثًا حتى يتمكن مؤرخ "الحاضر" من جعله موضوع نظره. لكن هذا لا يعني أنه لا يمثل افتراضيًا مهمًا للتفكير في هذا الحاضر بالتحديد الذي نحن فيه ونعيشه: إنه على العكس من ذلك، وفقًا للمؤلف، مكانًا رئيسيًا للنقاش حول أشكال "المقاومة" .. والتحول الملموس للذات في واقعنا.

يبدأ المقال الثاني في الكتاب، الذي كتبه باتريس مانيغيليه، من ملاحظة أن اللقاء بين فوكو والسينما، مهما كان عرضيًا، ليس بالأمر الهين لأن هناك تقاربًا جوهريًا بين المشكلات المثارة، ومعرفة المجالات المفتوحة لـ التساؤل، عما هو مبهم ومعقد بالنسبة لنا بسبب حقيقة أن هناك شيئًا من النضال الأساسي يحدث هناك: الجنس، القوة، الجنون، علاقتنا بالماضي، بالذاكرة الجماعية، إلخ. مرة أخرى، تكمن المشكلة الرئيسية حيث يلتقي الفيلم والفلسفة ويتصادمان بالنسبة للمؤلف في مسألة التاريخ: لقد أدرك كل من السينما وفوكو انهيار علاقة تقليدية معينة بالزمن والذاكرة ومتطلب إعادة التفكير في معاصرتنا بالطريقة التي نعيشها. التي نبني هويتنا التاريخية. لا يتردد باتريس مانيغلييه في استدعاء العديد من الأمثلة السينمائية لهذه "الثورة" في مقاربة التاريخ، بدءًا من رينيه أليو René Allio إلى آلان رينيه Alain Resnais وإريك رومر Éric Rohmer وكوينتين تارانتينو Quentin Tarantino وروبرتو روسيليني Roberto Rossellini وغيرهم. لكنه يرغب في ترسيخ هذا التأمل في التاريخ في السينما، من خلال فوكو، من خلال تحليل فلسفي مناسب، وميتافيزيقي بشكل أفضل، لبعد يقع في قلب فكر فوكو، وعلى وجه الخصوص مفهومه للتاريخ: مفهوم الحدث. قد يبدو الاستخدام المفترض لمصطلح ميتافيزيقا فيما يتعلق بمفكر مثل فوكو في غير محله. على الرغم من أن المؤلف أوضح أن استخدامه لهذا المفهوم لا يحتفظ بأي شيء من الهدف المتعالي للميتافيزيقا التقليدية، إلا أنه لا يزال هناك شعور بأنها صورة لفوكو في جيل دولوز تظهر في هذه الصفحات. ومع ذلك، فإن عملية مانغلييه Maniglier لا تخلو من الاهتمام: من خلال مسألة الحدث، ينزل إلى القلب النقدي لفلسفة فوكوية philosophie foucaldienne وعلاقتها بالتاريخ. ما هو التاريخ المتقطع إن لم يكن سلسلة من الأحداث مثل التفردات التي تحدث في مساحة فارغة، بعيدًا عن السلسلة التي حددتنا في الأيديولوجيات التقليدية العظيمة والتليولوجيات téléologies للتاريخ؟ ولكن بعد ذلك، كيف نفكر حقًا في ظهور وتسلسل وإنتاج الوضوح والقيم من هذا الوقت الحافل بالأحداث والمتقطع والمشتت؟ ما الذي يجعل التاريخ في هذه الصيرورة بلا زمن؟ كيف يمكن التفكير في أن تصبح بدون مادة، وموضوعات بدون هويات سابقة، وابتسامات بدون قطط، كما في فيلم أليس في بلاد العجائب Alice aux pays des merveilles من إخراج لويس كارول Lewis Carrol (رسم توضيحي للحدث وفقًا لجيل دولوز في الاختلاف والتكرار)؟ 11 هذه أسئلة فلسفية كثيفة، ولكن لا يستطيع فوكو الهروب منها، في بحثه عن فكر نقدي، أي: الذي لا يكشف لنا حقيقة الأشياء ولكنه يسمح لنا دائمًا بالاعتقاد بأن الحقيقة موجودة في مكان آخر، ويمكننا أن نتحول ونصبح آخرين، عن طريق تغيير رؤيتنا للواقع. إجابة فوكو، من وجهة نظرنا، دائمًا ما تكون تاريخية أكثر منها ميتافيزيقية: فبدلاً من أن يسأل نفسه مباشرة "ما هو الحدث؟»، يبحث، على وجه الخصوص من أعمال السبعينيات، عن أمثلة تاريخية تظهر التفرد الزمني يصنع حدثًا، وينتج كسر في الوقت المناسب. بعد قولي هذا، من المثير للاهتمام أن نلاحظ، كما يفعل المؤلف، التقارب حول هذه الأسئلة الخاصة بالفلسفة الفوكوية والسينما، والتي يمكن أن تصبح مكانًا للتفكير أو حتى لإنشاء الأحداث بفضل عملياتها، قوتها في الحركة خارج زمان وفضاء الوجود اليومي. يمثل الفيلم إذن أداة نقدية بالمعنى الفوكوي للمصطلح: لحظة اختراع أشكال جديدة للعلاقة بالزمانية والهوية التاريخية؛ فتح فضاءات جديدة للعمل والفكر.

في الختام، في ثراء الموضوعات والنهج، يشكل كتاب باتريس مانيجلييه ودورك زابونيان قراءة مهمة لتعميق أحد أبعاد العمل الفوكوي (العلاقة بالسينما) التي تم التقليل من شأنها لفترة طويلة أو حتى تجاهلها. من المسلم به أن تأثيرات التفسير المتحيز ممكنة دائمًا، بمجرد أن تكون مسألة إعادة تتبع بأي ثمن خيطًا مشتركًا في الكتابات التي تظل غير متجانسة من حيث تاريخ تكوينها، ومناسبة إنتاجها، والمواضيع التي يتم تناولها. ومع ذلك، يدرك المؤلفان هذا التنوع الأساسي للمواد التي يتعاملون معها، ويقومون بعمل ملف نقطة الشدة، التي يجب أن نلعب عليها من أجل استكشاف ليس تماسك الرؤية في فكر فوكو، بل بالأحرى مكان الإشكالية المتكرر باستمرار: مسألة علاقة الحاضر بتاريخه، من خلال المحفوظات - تلك الخاصة بالتاريخ ونظرية السينما - الوقوف على الحد الفاصل بين أبعاد الخطابي والبصري، بين الكلمات والصور وواقع الأجساد. من خلال قبول العمل بدلاً من ذلك على الحدس المتشتت والنصوص الصغيرة لفوكو (بقدر ما يمكن تطبيق هذه الفكرة على إنتاجه)، تفتح سلسلة جديدة كاملة من الأسئلة واللقاءات المحتملة بين الفكر الفوكوي والسينما، وبشكل أعم لا يزال فوكو والفنون المسرحية بحاجة إلى استكشاف إلى حد كبير: نقد التمثيل والعلاقة بين اللغة والإشارة والواقع ؛ الإدراك بأن مرحلة معينة من تاريخنا قد انتهت نهائيًا، وبالتالي فإن هناك حاجة إلى تفكيك المفاهيم النقدية وهو في نفس الوقت إعادة ترميز وإعادة كتابة للذات ؛ التفكير في ذاتية الممثل والمشاهد ؛ إشكالية الجسد وإمكانياته في التعبير والتهجين ؛ مطلب سياسي بحت لانتقاد أنظمة السلطة وتسلسلها الهرمي من أجل تخيل وابتكار طريقة مختلفة للوجود.

يبدو أن ما أصبح واضحًا أكثر فأكثر في هذه السنوات الثلاثين الأخيرة من النقد الفوكوي، منذ وفاته في عام 1984، هو أن ميشيل فوكو ليس فقط فيلسوفًا لخطابات علم الآثار، وسلسلة نسب القوى، وأنماط الذاتية، وألعاب حقيقة. وهو أيضًا مفكر استخدم الفنون في كثير من الأحيان كرموز بلاستيكية لنماذج من المعرفة، واستعارات فنية وجمالية لتصميم مساحة عمله الفلسفي - الحياة كـ "عمل فني" ؛ العين الحاسمة "لرسم" الحياة العصرية ؛ "مسارح" الحقائق والأجساد التي تشكل سلاسل الأنساب المتعددة لعلاقات القوة. فتح فوكو خطابه الفلسفي أمام تلوث حقيقي ونشط من خلال تعددية الممارسات الفنية، والتي غالبًا ما يتم إنزالها إلى حدود الفكر التقليدي. الأدب، والمسرح، والسينما، والموسيقى، والتصوير الفوتوغرافي، و "عروض" الكلام: هناك أبعاد عديدة لا تعتبر بالنسبة لفوكو ترفيهًا جماليًا بأي حال من الأحوال، وتوغلات بسيطة في مجالات الممارسة والفكر بعيدة كل البعد عن الخطاب الفلسفي الكلاسيكي، ولكنها تشارك بشكل مباشر من بناء فلسفة فوكوية وتعبئة قوتها النظرية السياسية. ليس من قبيل المصادفة أن السينما، من بين الفنون الأخرى، تواصل اكتشاف فوكو، لتعبئته أو لاستنفاره، ولاستجوابه.

يجب أن ينقلب أفلاطون في قبره: دروس الفلسفة تجري في هذه الكهوف التي هي صالات العرض المظلمة! الغرباء منذ زمن بعيد عن بعضهم البعض، السينما والفلسفة يسيران جنبًا إلى جنب اليوم. حتى أن الكلمة العصرية جدًا تشهد على هذا الاتحاد الجديد: "الفلسفة السينمائية cinéphilosophie ". لكن لماذا وكيف يستحوذ الفلاسفة على السينما؟ في نظر المشكك الأمريكي ستانلي كافيل Stanley Cavell، ليس هناك شك: السينما تعكس علاقتنا بالعالم. الفن السابع هو عالم الظلال. ظاهرة الإسقاط تجعل العالم الغائب يظهر. إنها تعكس الخطوط العريضة بالأبيض والأسود لهذا العالم الموجود وغير الموجود، والذي لن أتمكن من معرفته أبدًا. السينما إذن هي "صورة مؤثرة" للشك، كما عبر عنها المؤلف بلطف. إنه يضعني في قلب "جدلية خيبة الأمل والرغبة"، المعرضة للخطر في كل أفكار كافيل Cavell.

السينما مكان الاخلاق. نتيجة للدورات التي قام الفيلسوف بتدريسها في جامعة هارفارد، والتي تربط بين المفكرين والأفلام، تقدم فلسفة الصالات المظلمة رحلة عبر تاريخ الفلسفة الأخلاقية، من أفلاطون Platon إلى راولز Rawls، عبر نيتشه وإيمرسون Nietzsche et Emerson، بالإضافة إلى توضيح حول الكمالية الاتقائية perfectionnisme (انظر أيضا ص 82). كيف تصبح نفسك؟ كيف تصبح أفضل؟ هذه الأسئلة هي في صميم الأفلام التي جمعها كافيل تحت نوع واحد: كوميديا الزواج. فيلم قلب محاصر Un cœur pris au piège إخراج ستورجس Sturges ؛ سيدة الجمعة La Dame du vendredi لهوكس Hawks. أو حتى فيلم الطيش من إخراج كيكور Indiscrétions de Cukor يعبرها نفس االنابض الدرامي: ينفصل الزوجان للعثور على بعضهما البعض بشكل أفضل. ويعيشان سعادة جديدة ...

بالنسبة إلى ميشيل فوكو Michel Foucault، الذي لم ينجذب كثيرًا إلى نظرات كاثرين هيبورن Katharine Hepburn وكاري غرانت Cary Grant، فإن الاهتمام هو عدم معرفة ما إذا كانت السينما تجعلنا أفضل. إنها مرآة التاريخ التي شاهدها، من جانبه، على الشاشات، وهذا "الارتباط بين السينما وأرشيف العصر"، كما كتب Dork Zabunyan في فوكو يذهب إلى السينما، التي تحتل النصوص القليلة والمقابلات التي كرسها المفكر للفن السابع. إذا كان أحد الفلاسفة النادرين الذين تم تكييفهم للعرض على الشاشة – نصه العظيم " أنا بيير ريفيير بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي" ... الذي أصبح فيلمًا من إخراج أليو -، فإن فوكو، على عكس كافيل أو دولوز، لم يطور أبدًا فكراً شاملاً منظماً في السينما. من خلال أفلام فيريه، أوشرويتير،أو ودوراس، أوبازوليني،Pasolini أو Duras أو Schroeter أو Ferret، يستحضر آثار علاقة بالماضي أو بالسياسة أو بالجنون أو بالجسد أو بالجنس. هل يمكننا، على سبيل المثال، أن نصنع فيلمًا بدون إضفاء الإثارة الجنسية أو البطولات؟ عندما يتحول إلى بطل للفلسفة، لا تتوقف السينما عن إبهاره بجمالها المظلم.

يقدم باتريس مانيغلييه ودورك زابونيان مقالتين طويلتين مجمعتين معًا في كتاب، مصحوبة بمجموعة مختارة من نصوص ميشيل فوكو، دراسة مفتوحة رائعة، لقاء سياسي بين الفيلسوف والسينما. كتاب له اهتمامات متعددة، تحركه حركات فكرية رائعة.

السينما، في نفس الوقت باعتبارها فناً غير نقياً أو صافياً art impur، ربما توجد أيضًا، كما قال غودار Godard، بين التلسكوب والميكروسكوب: أداة علمية مخصصة للمقياس البشري. هذان السببان يمكن أن يفسرا الحماس الفردي لما يسمى بـ "العلوم الإنسانية" للذهاب ومشاهدة جانب السينما، خاصة أنه يبدو بداهة أنه الفن الأقل إثارة للخوف. إن هذه الخاصية الديمقراطية (بكل معاني المصطلح) هي التي تبدد سراب الشرعية أو اللاشرعية في الحديث عنها، وتفتح السينما على أي نوع من الفكر. هذه الفرصة لتكون قادرًا على فهم السينما بعدة طرق هي أيضًا فرصة للسينما نفسها: التفكير فيها بشكل مختلف هو تتابع لصنعها على نحو مغاير ومختلف مختلف.

كان باتريس مانغيلييه قد شارك بالفعل في العمل الرائع عن فيلم ماتريكس (ماتريكس، ماكنة فلسفية Matrix, machine philosophique [1]) الذي قصد التفكير في السينما والفلسفة بشكل مشترك، وفتح فكر كليهما. نادرًا ما لم تأت الفلسفة لتلتقط المصفوفة لترفعها إلى سماء يفترض أنها أكثر نبلاً أو ثراءً؛ على العكس من ذلك: هذه المحاولة (التجريبية) لم تستدعي التوضيح ولا السخرية ولا حتى هذه النية الحسنة لإعادة التأهيل والتي غالبًا ما تنطوي على لهجات متداخلة، حتى من الكراهية المخفية بشكل سيئ للسينما التي لن تكون "سائدة". ". قدمت لنا آلة ماتريكس الفلسفية بسعادة (تركت كل الادعاءات في الخزانة) للتفكير مع ماتريكس، لإرشادنا لتقدير جميع الأحاسيس المسكرة لتجربة المشاعر الفلسفية في نفس الوقت مثل السينما.

إذا سمحت لنا المصفوفة Matrix، وهي آلة فلسفية، أن نشعر بذكاء وإبداع الفيلم بشكل فعال، يذهب فوكو إلى السينما التي يقترحها لدراسة العلاقة بين السينما والتاريخ، مثل أنهما كانا قادرين على الظهور بشكل مشترك مع ميشيل فوكو طوال عمله، وفي السبعينيات من القرن الماضي للنقاد (باسكال بونيتزر Pascal Bonitzer، سيرج داني Serge Daney، سيرج توبيانا Serge Toubiana) وصانعي الأفلام المخرجين(رينيه أليو René Allio وآلان رينيه Alain Resnais). هذه العلاقات بين السينما والتاريخ مدعومة بالسياسة، أو بالأحرى سياسة العرض والتمثيل la représentation.

بعد مقدمة واضحة جدًا حول موضوعهم، موقفهم ("فكرة في العمل" الرغبة في السعي إلى "التفكير بشكل مختلف"، تمامًا مثل فوكو، الذي كان تعبيره، يهدف إلى إيجاد طريقة جديدة لممارسة التاريخ)، ومشروعهم (لمواجهة الممارسات الفلسفية والسينمائية والتأمل في التاريخ)، يتعامل المؤلفان معه من زوايا انطلاق مختلفة تنتهي بالالتقاء في خطوط رحلتهم: إمكانيات فيلم لدورك زابونيان، مفهوم الحدث، لباتريس أكثر ذكاء.

ماذا يمكن أن يفعل الفيلم؟

بهذا السؤال، بالتوازي مع سؤال سبينوزا Spinoza الذي أعاد دولوز قراءته، افتتح دورك زابونيان مقالته. يبدأ المؤلف بتحليل تأثير الفكر الفوكوي la pensée foucaldienne كما عرض في مجلات كراسات السينما Cahiers du Cinéma في منتصف السبعينيات، في خضم موجة نضالية متشددة [2]، ومقابلة "Anti-Retro" الشهيرة (CC رقم 251-252 Juillet - أغسطس 1974) التي أجراها باسكال بونيتزر وسيرج داني وسيرج توبيانا ضد موجة من الأفلام "الرجعية  rétros "، وتحويل الماضي إلى لوحة جدارية زخرفية. باتريس مانيغلييه (انظر أدناه) يكمل تحليل فيلم رينيه أليو (أنا، بيير ريفيير، بعد أن ذبحت والدتي وأختي وأخي ...) بدأ هنا. لكن زبونيان أكثر اهتمامًا هنا بما جذب انتباه فوكو في السينما، أي جمالية الفقر، وغياب اللياقة أو التأثيرات. يمكن للآثار فقط أن تقلل من التأثير السياسي أو تصرف الانتباه عن قضايا التمثيل. "إذا كانت هناك خصوصية إيجابية للسينما في فوكو، [...] فهي مسألة تصور فن سينمائي خالٍ من أي مقاربة جمالية [3]: (" رجعي "أم لا) [...] فن حيث يؤدي الزهد المرئي والصوتي في كل شكل من أشكاله إلى الغوص في التعرجات القاحلة للأرشيف، أو قسوة علاقتنا بالسلطة، أو تحريك الجسد المجهول. (ص 32) يحلل زبونيان العلاقة البعيدة بين الفيلسوف والسينما من خلال المسافة التي يمكن أن يتخذها المؤرشف فيما يتعلق بالحقائق الحديثة جدًا، حيث يظل الوقت المنقضي قريبًا جدًا وغامضًا للغاية.

قضية مشروعة:

على الرغم من أن فوكو عاشق للسينما، إلا أنه لم يؤلف كتابًا عن السينما كما قلنا أعلاه، ولم يعترف بأنه مؤهل للتحدث عن الجماليات السينمائية. مداخلاته مشتتة في عدد قليل من المقالات والمقابلات، والتي يجب أن تفعل بالضبط، في فئة خطابها، مع الواقع والصراعات الملموسة. كما قال باتريس مانيغلييه بلطف، "من الصعب تخيل الميتافيزيقيين في توغاس وهم يتظاهرون مع مجموعة معلومات السجن. من الصعب أن نتخيل المفكر التأملي يقول مع فوكو إنه لا ينبغي للمرء أن يتردد في لكم الشرطة، لأن رجال الشرطة مصممون لذلك، أي لممارسة العنف الجسدي. يمكن لأخصائي المحفوظات و "الناشط" أن يتعايشا، ولكن ربما ليس بالضبط في نفس الوقت. على الرغم من هذا الاحتجاج على اللاشرعية، فقد يكون حدث ما بين فوكو والسينما مثل "علاقة غرامية" (للتلاعب بالكلمات)، تبادل متبادل على شكل استجواب.

بادئ ذي بدء، وهذا هو الجزء الأول من مداخلة باتريس مانيلييه (التي تضيف إلى انعكاسات دورك زابونيان، يرى فوكو في السينما إمكانية غير مسبوقة لعرض قصة "جزيئية". يطور فوكو مفهومًا جديدًا جذريًا للتاريخ، وهو مفهوم سياسي يمكن تلخيصه بالفعل بهذه العبارة من الفيلسوف: "شخص ما يتكلم دون امتلاكه"؛ إما: شخص (مثل بيير ريفيير، ومثل "رجال سيئو السمعة hommes infâmes " الذين أراد فوكو جعل تاريخهم) غير شرعي [4 يأخذ على عاتقه تاريخه الفريد، معارضة القوات الشرعية (الشرطة، الأطباء، المحامون، إلخ). بالنسبة للتاريخ الرسمي البطولي لأي كيان (رجل عظيم، أمة، طبقة) يعارض فوكو الذاكرة الشعبية، "عملية بلا موضوع" (كما عرّفها ألتوسير Althusser). الشعب ليس الفلاحين أو العمال، إنهم ليسوا طبقات، إنهم "خونة: إنهم في التاريخ، لكنهم مثل الفيروس. إنهم يطاردون تاريخنا، لكن تاريخنا ليس تاريخهم. (ص 63) لا تزال ذاكرة هذه الأقلية موجودة في الوقت الحاضر، حتى لو كان عمرها عدة قرون، لأنها مرتبطة بدقة بالحدث (تم شرحها بالتفصيل وبشكل جيد جدًا بواسطة مانغلييهr لاحقًا).

مفاصل أو تمفصلات: Disjonctions

الذاكرة الشعبية هي تاريخ لا يدمج وجهة نظر متدلية (فوق تاريخية)، ولكن أين الحدث، ليقول بسرعة ما يظهر في الفجوة التي أحدثتها الطفرة وتلاقي العديد من القوى التاريخية، المعرفية، يمكن أن يأتي على وجه التحديد للإضاءة من خلال إمكانيات انفصال الوسيط السينمائي: بين الكلام والصوت والصورة، بين اللقطات - تأثير كوليشوف effet Koulechov. بهذا المعنى، فإن فيلم رينيه أليو Moi، بيير ريفيير ... (تم تحليله ببراعة من قبل Maniglier) مانغلييه، يتكيف مع حرف النص الأصلي الذي اكتشفه فوكو، يلعب على مفارقات الكلام لإظهار مجموعة كاملة من القوى الخطابية التي تتعايش وتتعارض، يمكن أن تعارضها مراجعات نصوص مجلة كراسات السينما Cahiers du Cinéma بأسلوب رجعي (حيث يكون فيلم عتال الليل Portier de nuit [5] ولوسيان لاكومب Lacombe Lucien [6] جزءًا، وفي نهاية الثمانينيات ولكن بالمثل، أورانوس Uranus لكلود بيري Claude Berri الذي سينتقده بشدة سيرج داني).

يتدخل مانغلييه بعد ذلك بشكل أعمق في مفاهيم الحدث، المتسلسلة (ربما في قراءة أكثر دولوزية  deleuzienne  لفوكو)، لينتهي به الأمر في نهاية المقال بمجموعة من المقترحات النظرية والتحليلات الفيلمية المبهرة، والتي تكاد تكون مقبولة: رؤى وطرق تصور للتحدث عن الأفلام، ذات قوة كبيرة، أسلوبية ونظرية. دعونا نقتبس، على سبيل المثال، هذا التأكيد والعرض في غاية الجمال: "ليس قطارًا يدخل المحطة، لكن المحطة كلها كما هي تتحقق في قطعة قطار. (ص 87) أو هذا المقطع: "وهكذا، لن تظهر لنا السينما أياديًا متوترة، بل توترات تنشأ في وسط قوى أخرى، وليست عيونًا تثبت شيئًا ما، بل نظرات تشغل وجهًا، وليس خطافات منقولة التي تقطع الحناجر، لكنها قطع الحلق التي تعبر الزمن ... "(ص 102) هذه الصفحات المذهلة وغيرها، والتي ا أستطيع مقاومة إغراء اقتباسها، تذكرنا بمداخلة دولوز في إحدى محاضراته عن الوجه في سينما:

"ما يفعله الوجه شيئان: الوجه يشعر، والوجه يفكر بــ [...] يعود الزوج إلى المنزل في المساء منهكا من عمل طويل. يفتح الباب، يجر رجليه، وتنظر إليه زوجته. فيقول لها عابساً نكد المزاج وعلى نحو عدواني تقريباً، مشاكس ومتذمر: ما رأيك بماذا تفكرين؟ وأجابت: ما خطبك؟ - "فيم تفكر"؟ وهذا يعني: ما هي الجودة التي تنبع من وجهك؟ والإجابات الأخرى "ما بك؟»، ما هذه السلسلة الغريبة والمكثفة التي تخترقك صعودًا وهبوطًا.»

هذه القدرة الرائعة للابتكار، للعرض والتفكير في نفس الوقت، للتوفيق بين الاثنين في جملة واحدة، تشوه من خلال الأسلوب أي محاولة لإفساد الفلسفة في السينما: يوجد هنا أيضًا لقاء حقيقي، شيء رائع تمامًا يحدث، وهو ما يتوازى بشكل مباشر مع محاولات فوكو القليلة للتفكير في السينما كوسيلة للتجربة. والاقتباسات من إبشتاين Epstein، وهو نفسه صاحب نظرية أو منظُر وممارس للسينما، متطابقة (أو ينبغي أن أقول "متسلسلة").

لأن المؤلفين يصرّان على علاقة الجسد المعاد تشكيله بالسينما والسينما نفسها كجسم جزيئي كبير: الطريقة التي يرى بها فوكو في أفلام فيرنر شروتر Werner Schroeter "نشأة الجسد"، أو في أفلام مارغريت دوراس " ضباب بلا شكل (انظر حول هذا الموضوع النصف الثاني من مقالة زبونيان، بالإضافة إلى تحليلاته لتمثيل السلطة). ومع ذلك، فإنه من خلال ممارسة هذه الملكات المشتتة يمكن تطوير كل من سينما التاريخ وفقًا لفوكو، ولكن أيضًا طريقة جديدة لفهم السينما والتعاطي معها بقوة كامنة، في الإمكانات.

لأنه (وهذا بالتحديد الجزء الأخير من مقالة مانغلييهr) يعود الفضل في ذلك إلى ملكة التخوف، هذا النمط من الرؤية الذي يمكن لسينما الذاكرة إعادة الاتصال بالحاضر. إذا كانت كتب فوكو مهتمة بالعصور البعيدة عنا، فإن مقالاته ومقابلاته كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأحداث الجارية، ومع ذلك فإن السينما تقوم بتحديث الذاكرة (وهذه هي نظرية مانغلييه) من خلال التساؤل الدائم عن صوره. الشاشة كقناع (حسب أندريه بازان) تعرض الصورة من الخارج، أي صورة سينمائية غير مكتملة من قبل في تحليل مذهل وعما لا يُصدق في فيلم ليلي وضباب Nuit et Brouillard إخراج ألان رينيه Alain Resnais، يصف مانغلييه قوى الصورة وتمثيل الصيحات، التي تتشكل بين المفارقات (الزمنية، المكانية، الجمالية) التي ينتجها الفيلم. يمكننا أن نرى بوضوح ما تقدمه هذه التحليلات أيضًا للخطاب حول السينما، وطريقته في الحديث عنها، ووصفها، وهي ملكات ملموسة وخيالية في نفس الوقت.

في الختام، يوضح مانغلليهr بالتفصيل عددًا آخر من الأفلام التي قد يكون من المثير للاهتمام دراستها، موضحًا أن هذا الكتاب ليس سوى مثال واحد ممكن لما يمكن أن تجلبه المواجهات بين فوكو والسينما. يقول باتريس مانغلييه، في اندفاع رائع من التواضع ("أنا لست مؤرخًا ولا صانع أفلام ولا ناقدًا سينمائيًا"، ص 53 – هل هو جبن اللاشرعية، مرة أخرى؟)، ينفي تقديم نماذج عملية للسينما. لكن إذا لم يفعل ذلك بشكل مباشر، فإنه يفعل ذلك بطريقته في التعامل مع الأفلام، وما يحدث لنا من خلال الكتابة.

سيكون من المستحيل ومن الحماقة تكرار الرسالة، باستثناء أن تصبح نوعًا من بيير مينارد Pierre Ménard، كل ما يحتويه هذان النصان مثير، ومفتوح بشكل خاص، كإمكانية للدراسات. ما هو مؤثر بشكل خاص، وما يكمن وراء المشروع، هو هذه الرغبة في أن تصبح، هذه الرغبة في شيء جديد، يشبه العالم المجنون أو الساحرة، والتي تتشكل في كل من الرغبة في رؤية "شيء آخر"، ووضعه بطريقة أخرى بطريقة مشتركة في التخصصين. هذا هو السبب في أن قائمة البداية (الخاطئة) التي وضعها المؤلفون في المقدمة (التأثيرات الأربعة التي يقصدها هذا الكتاب: على النقاد، والمنظرين، وصانعي الأفلام، والفلسفة نفسها) يمكن فقط تفريقها وتقسيمها إلى العديد من النقاط الفردية، غير قابلة للتوحيد. ضد توحيد، المسلمات: المتعدد، المفتوح. يسلم المؤلفون إلينا النص: الأمر متروك لنا لتولي المسؤولية منهم، من فوكو أو غيره، للعب السينما بمعرفة أخرى، ولعب دور الكيميائي الصغير أو الساحر، التسرع في زج الوسيط.

***

د. جواد بشارة

 

محمد السعديسيرة ذاتية للصديق والقاضي زهير عبود كاظم عنوان كتابه ”الأرض والسلاح والإنسان ” الصادر عن دار نشر 4D في مدينة النجف الاشرف ” الذي أهدانياه مشكوراً، والذي لفتني عنوانه بتلك المفردات الثلاثة تعبيراً عن الإنسان ومحطات حياته النضالية في حقبة مهمة من تاريخ العمل الفدائي (الفلسطيني) عشية هزيمة ٥ حزيران عام ١٩٦٧ . في مقدمة كتابه، الذي يحوي ١٢٦ صفحة من الحجم الكبير عرض موجز ومكثف عن بدايات إعلان الثورة الفلسطينية وإنطلاق منظمة التحرير ” فتح ” بقيادة ميدانية من رئيسها الراحل ياسر عرفات، وتداعيات الموقف العربي الرسمي والشعبي في الدعم والمساندة المعنوية والمادية والاعلامية والوجستية بإتجاه تحرير الارض الفلسطينية المغتصبة من قبل الكيان الصهيوني ودوائره الامبريالية، فضلا عن هذا الدعم والتأيد الكبيرين للقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير ممثلها الشرعي في التمثيل والنضال، لكن تناسلت عنها عدة تنظيمات ومنظمات بداً من الجبهة الشعبية مروراً بالجبهة العربية لتحرير فلسطين الى منظمة حماس بعد أن أصبحت قراراتها ووجودها بيد قرارات وأمزجة الانظمة والدولة التي أحتوتها وبمرور الاعوام تحولت من مشاريع نضال وتحرير وعمليات فدائية الى سياسة تطبيع وإستسلام والتخلي عن شعارات الدولة القيطة والخنجر المغروس في قلب الوطن العربي . كان خطاب الاعلام العربي تأثيره النفسي والوطني بإتجاه تعبئة الشارع العربي نحو تحرير فلسطين فلبى هذا النداء الآف من الشباب العربي باتجاه التطوع في العمل الفدائي من أجل تحرير فلسطين ولم يغب عن بال الآخرين هناك دوافع وعوامل ثانية وثالثة دفعت هؤلاء الشباب بالتضحية بحياتهم ومستقبلهم .

زهير إبراهيم خالد .. من أهالي صفد / منطقة الصفصاف، هذه هي هويته الجديدة من مكتب الجبهة الشعبية القيادة العامة في العاصمة بغداد ليحملها بصفة مقاتل فدائي بين عمان ودمشق لمدة تسعة شهور وتسعة أيام  يسردها بتفاصيل المدن والشخصيات والوقائع والاحداث والمفاجأت وروح التجربة، في بداية حياته بمدينة مسقط رأسه ”الديوانية” أحدى معاقل الشيوعيين في الفرات الأوسط أنتمى الى خلية حزبية ولضنك العيش وصعوبة وضع أهله المعيشي تطوع نائب ضابط في الجيش العراقي، وظل مجاهداً متمسكاً في خليته الحزبية الشيوعية، وفي موجة حملة مداهمات وإعتقلات قبل إنقلاب البعثيين عام ١٩٦٨، أدت الى اعتقاله وطرده من الجيش وراح يبحث عن وعاء جديد يرى به نفسه ويلبي طموحه ويحقق رغباته في النضال والعنفوان فقادته تلك الهمم الى مكتب الجبهة الشعبية / القيادة العامة ”أحمد جبريل في العاصمة بغداد ليسجل نفسه فدائياً عربياً. تجربة غزيرة يرويها القاضي زهير عبود كاظم في إستذكار سيرته الفدائية وتتبع أدق تفاصيل مجرياتها بحرارة ذلك الزمن من المقاومة والنضال ووقعها التاريخي والوطني .

بعد تسعة سنوات وتسعة شهور يرجع الى وطنه العراق عبر بوابة ”دمشق عاصمة الامويين الذي يصف مدنها وأزقتها وشوارعها بالرشاقة والوسامة ونهر ”بردى الذي يضيء تاريخ وجه المدينة وعنفوانها . بغداد .. التي تركها منذ شهور الى العاصمة عمان التي يراها مدينة صغيرة وقديمة وتاريخية ويتوسط شارعها الرئيسي فندقها الوحيد . عاد الى مطرحه الأول مدينته ”الديوانية”وجيبه ممتليء بالافكار والطموحات قد تفوق عمره في ذلك الزمن . ومرة أخرى بين صفوف تنظيمات الحزب الشيوعي في مدينته تحت ظروف معيشية صعبة للغاية، وكان يتطلع كأي شاب بعمره وطموحه الى مستوى دراسي قد يرفع به مستوى عائلته المعيشي والمادي، وكان يأمل أن يمنح زمالة دراسية عن طريق الحزب الشيوعي العراقي الى أحدى الدولة الاشتراكية، لكنه أزداد أحباط وخيبة، عندما شاهد بأم عينيه طريقة منح الزمالات الدراسية الى أولاد القادة الحزبيين وذيولهم، هنا وقفني أمام تجربة شخصية سابقة  أيام الجبل وحرب الانصار، كانوا يأتون لنا شباب من المدن ولا أحد يعرف ربهم ولا ممكن حتى الاختلاط معهم ومعرفة أساسياتهم وطيلة وجودهم في مقراتنا عيونهم تربوا الى الطريق المؤدي الى  إيران ومن هناك الى دول الزمالات والدراسات على حساب رفاق ومناضلين ومقاتلين أشداء ؟.

في ١٥ شباط ١٩٧١ يترك مدينته والعراق مرة ثانية بحزن بعد أن خابت ظنونه وأهتزت قناعاته وسيطرة البعثيين على السلطة ودفة الدولة واللعب بمقدرات الناس فلم يجد أمامه سبيلاً الا العاصمة دمشق حيث هناك النشاط والعمل السياسي (الفدائي)، ليجد نفسه مجدداً مقاتلاً وسط تنظيمات منظمة الصاعقة واسمها الرسمي " طلائع حرب التحرير الشعبية - قوات الصاعقة ", هي منظمة فلسطينية قومية موالية للبعث السوري (على عكس جبهة التحرير العربية الموالية للبعث العراقي . ولخبرته السابقة في العمل الفدائي وفي الجندية العراقية يرحل الى جنوب لبنان مسؤول أحدى الفصائل المسلحة في منطقة (جبيل) الحدودية مع العدو الصهيوني . 

الذي لفتني في كتاب القاضي زهير عبود كاظم (أبو علي)، ذاكرته في ذكر التفاصيل التفاصيل اليومية لكل يوم من خلال تجربته، الاشخاص، المواقع، التعرضات، المفاجأت، الشهداء، القادة، الامكنة، حمدونه، التموين، تفاصيل الطبخ، القرى، السلاح . حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ كانت ومازالت تداعياتها تلقي بظلالها على الشارع العربي والموقف الرسمي للحكومات وتحديداً التي خاضت الحرب أي دول المحور والتصدي العراق، جمهورية مصر، سوريا . وقد خاض المصريون الحرب مع الكيان الصهيوني على أمتداد جبهة واسعة تجاوزت  عبور خط ”بارليف المنيع ” الى قناة السويس .  سوريا وجيشها العربي والفصائل الفدائية لقد تعرضت الى ضغوطات كبيرة، وكان لوقفة الجيش العراقي من خلال مشاركته في الدفاع غير مجرى المعركة بإتجاه آخر . نتيجة الحرب وتداعياته تركت أثارها على الفصائل الجهادية في خطط عمل جديدة وسيناريوهات مختلفة . يذكر القاضي زهير في ختام كتابه بعد تلك الاحداث وجد له كرسياً في جامعة دمشق ليكمل مشواره العلمي والاكاديمي وليتخذ من القلم والقانون وسيلة نضالية في خدمة مشاريع الوطن والانسان . 

 

محمد السعدي

مالمو/كانون الأول ٢٠٢١

 

 

 

محمود محمد عليواهم من يعتقد الأطماع الإسرائيلية بالتوسع والاستعمار تقف عند حدود المسجد الأقصى وفلسطين، فالحلم اليهودي المزعوم يمتد أبعد من ذلك بكثير، إذ ترنو أنظار الإسرائيليين نحو قبلة المسلمين والأرض التي احتضنت تاريخ الرسالة الإسلامية .

وهذا ما يجسده لنا هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو بعنوان "العودة إلى مكّة" والذي ألّفه المؤرخ اليهودي “دنيس آفي ليبكن” Dennis Avi Lipkin، وهذا الكتاب يدور حول فكرة مفادها أن بني إسرائيل استوطنوا قديما في جزيرة العرب، ليبرهن أنه من حق اليهود العودة إلى مكة .. أرض الميعاد، ويعتمد الطرح الدي يقدمه " ليبكن" على بحث تاريخي، يزعم أن بني إسرائيل لما تاهوا لأربعين عاما في البلاد كانوا في منطقة شبه الجزيرة العربية، مضيفا إلى أن جبل الطور الذي كلم الله موسي فيه، إنما هو جبل اللوز في تبوك السعودية، وليس جبل موسي المعروف في سيناء

والكتاب يمثّل تطوّرا لافتا في الأحلام الصّهيونيّة التي تراود صهاينة اليهود ومتديّنيهم، وتغريهم بالاستحواذ على أرض الميعاد التي تحدّثت عنها نصوص التّوراة المحرّفة، ويسمّيها الصّهاينة “مملكة إسرائيل الكبرى” أو “مملكة داود”، وتضمّ بزعمهم فلسطين وأجزاء كبيرة من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية.

يأتي هذا الكتاب القنبلة في وقت كشف العرب العاربة والمستعربة على حد سواء،عن عوراتهم وأسقطوا حتى ورقة التوت التي كانت تستر عوراتهم، بخصوص العلاقة الخفية بينهم وبين مستدمرة إسرائيل الخزرية، بإعلانهم التحالف الاستراتيجي معها،تحت ستار الخوف من إيران ؛ يقول ليبكن “… أصرّح يا إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأنّ مكّة المكرّمة حرم الله الآمن يحتلها شرذمة أشدّ من اليهود، لأنّهم في هذا البلد الحرام وفي هذا الشّهر الحرام ذي القعدة الماضي هجموا على التكارنة السّود المسلمين رجالا ونساءً وأطفالا حتى يسفروهم ويخرجوهم عن مكّة المكرّمة”، كما نشرت مجلة الشهيد الإيراني (لسان حال علماء الشيعة في قم بإيران) في عددها 46 الصادر في 16 شوال 1400هـ صورة للكعبة المشرفة وإلى جانبها صورة للمسجد الأقصى المبارك وبينهما يد قابضة على بندقية وتحتها تعليق “سنحرّر القبلتين”!

وأرض الميعاد التي يسميها الصهاينة مملكة إسرائيل أو مملكة داوود،تحدثت عنها التوراة المزيفة،وهذا ما خاض فيه المؤرخ الصهيوني الإنجيلي ليبكين،،وحمل غلافه صورة المسجد النبوي الشريف يتوسطه "التيفلين اليهودي" مكان الكعبة المشرفة،وهو مكعب أسود يشبه الكعبة المشرفة مربوط بخيط أو حزام يضعه متدينو اليهود على جباههم.

هذا الكتاب يرسم حدودًا جديدة للدولة اليهودية وفق “ليبكن”، انطلاقًا من مبدأ “استعادة أرض بني اسرائيل الذين يعتبرون انفسهم السكان الاصليين لجزيرة العرب”، فتصبح بزعمه “العودة إلى مكة، أرض الميعاد”، حقًا لهم.

وأكد " ليبكن " بنبرة تشي بأطماع اليهود: إن السعودية والجزيرة العربية ما هي إلا جزء من الأرض الموعودة لبني اسرائيل”، مستشهداً بما تقوله التوراة المزعومة لدى اليهود:" أن الله يقول أنه سيمدد حدود أراضيكم الموعودة من لبنان إلى أرض العرب ولكن الله لم يقل أرض العرب بل قال الصحراء ومن البحر الأبيض المتوسط إلى الفرات".

والجدير بالذكر أن غلاف كتاب “العودة إلى مكة” تضمن صورة للكعبة المشرفة -قبلة المسلمين- وحولها انشوطتان سوداويتان وعلى جانبها وضع الشمعدان اليهودي، وفي وسطه “التفيلين” اليهوديّ مكان الكعبة المشرّفة، والتّفيلين مكعّب أسود يشبه في شكله الكعبة، مربوط بخيط أو حزام، يضعه متديّنو اليهود على جباههم.

ويدعي مؤلف كتاب العودة إلى مكة أن الله لم يكلم موسى عليه السلام في جبل طور سيناء،بل تم ذلك في جبل اللوز الواقع بمحافظة تبوك السعودية،ويدعو لتحالف مسيحي – صهيوني لتحريره من المسلمين، كما يدعي أن أرض الميعاد تمتد إلى مكة المكرمة،ويدعو أيضا إلى تشكيل حلف مسيحي- صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة ومنع المسلمين منها.

واللاّفت في أمر هذا الكتاب أنّ مؤلّفه لا يكتفي في مقابلاته الصحفية بزعمه أنّ جبل الطّور الحقيقيّ الذي كلّم الله فيه نبيّه موسى عليه السّلام وأنزل عليه الوصايا العشر هو جبل اللّوز الموجود في محافظة تبوك على الأراضي السّعوديّة مقابل أرض سيناء، وليس هو جبل موسى المعروف في سيناء مصر! وأنّ فيه الكهف الذي استقرّ فيه إيليا (إلياس)، وبدعوته اليهود والنّصارى لأن يتّحدوا لتحريره من المسلمين؛ لا يكتفي هذا الصّهيونيّ بهذا الزّعم، بل يذهب بعيدا ليدّعي أنّ أرض الميعاد تصل إلى مكّة المكرّمة وفق ما فهمه من نصوص التّوراة التي تتحدّث عن صحراء العرب ولا تتحدّث عن أرض العرب فحسب!

وأضاف ليبكن بأن على المسيحيين واليهود أن يتّحدوا ليحرروا جبل اللوز" جبل سيناء"، وينتزعوه من حوزة المسلمين، متابعاً أن "الجوف وتبوك الواردة في اقتباس بن لادن لا تبعد سوى 100 أو 200 كم من إيلات على الحدود الجنوبية لإسرائيل".

وأشار "ليكن" إلى أن أطماع ايران مرتبطة بوقوع مكة في منطقة قريبة جداً من الساحل، ومن يتمكن من السيطرة على مكة سيمتلك زمام الحرب بين الشيعة والسنة"، مستدركاً أن "الأيام القادمة ستشهد مواجهة حاسمة" معرباً عن اعتقاده بأن "الحوثيين والإيرانيين سيقومون باحتلال السعودية من الجنوب والغرب".

وأردف ليبكن أن “السعودية ستطلب العون من مصر وربما من إسرائيل ولكن داعش ستأتيهم من الشمال أيضاً”، مستطرداً أن “حرب السنة والشيعة المستمرة منذ 1400 سنة ستنتهي عندما يسيطر أحد الطرفين على مكة”. وبذلك يدعو “ليبكن”، معتمدًا على نُبوءات “الكتاب المقدس”، المسيحيين واليهود للتوحد من أجل استعادة مكة، التي تعد أرضًا مقدسة للديانتين معًا.

الكاتب "ليبكن" الذي دأب على الظّهور في كثير من الفضائيات الدينية التابعة للمسيحية الصهيونية في أمريكا، داعيا إلى تشكيل حلف مسيحي صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة، يوصي بالاستفادة من الحركة الحوثية التي تستهدف الأراضي السّعوديّة، وتضع عينها على مكّة والمدينة، وإلى توظيف العقائد الشيعيّة التي تغري أتباعها بضرورة استعادة مكّة والمدينة من أهل السنّة، وهو الحلم الذي لا يزال بعض المسلمين يتجاهلونه رغم توارد دلائل كثيرة تشي بأنّ الشّيعة يسعون سعيا حثيثا لتحويله إلى واقع؛ دلائل كثيرة ربّما لن يكون آخرها تصريحات بعض معمّمي الشّيعة وقادة مليشياتهم بأنّ انتصار حلب سيمهّد لتحرير مكّة والمدينة!

ويدعي ليبكن أن الله لم يكلم موسى عليه السلام في جبل طور سيناء، بل تم ذلك في جبل اللوز الواقع بمحافظة تبوك السعودية،ويدعو لتحالف مسيحي – صهيوني لتحريره من المسلمين، كما يدعي أن أرض الميعاد تمتد إلى مكة المكرمة، ويدعو أيضا إلى تشكيل حلف مسيحي- صهيوني لتقسيم السعودية واحتلال الكعبة ومنع المسلمين منها.

يعترف ليبكن ذاته علانية بنية مستدمرة إسرائيل الخزرية احتلال مكة المكرمة،ويؤكد أن الصهيونية ما تزال قائمة على الأساطير التي وضعها حاخامات السبي البابلي، ويعرب عن أمله بأن يصل الربيع العربي إلى السعودية،كي تطلب النجدة من أمريكا وإسرائيل،وبالتالي يصبح احتلال مكة المكرمة تحصيل حاصل، وهذا ما يفسر تزيين الصهاينة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان جرائمه بحق المواطنين السعوديين من ناشطين وعلماء وأثرياء حتى أن أذاه شمل أبناء عمومته الأثرياء والأقوياء.

ويأتي الهدف من هذا التزيين تسريع الإنفجار في السعودية، ليتسنى لأمريكا ومستدمرة إسرائيل إحتلال مكة رسميا وبطلب سعودي،بحجة أن الشيعة يدعون للهيمنة على مكة والمدينة،ويبدو أن المخطط الصهيو-مسيحي"الإنجليي " سينجح بسبب غباء البعض أو إتقانهم لدورهم وتفانيهم في خدمة أصولهم .

ويعتبر “ليبكن” أنّ التحركات المعارضة داخل السعودية تعدّ من الأمور التي على “اسرائيل” استغلالها في سبيل تحقيق هدفها. ويوضّح كلامه في أكثر من مقابلة، إذ يؤكد أن الربيع العربي لا بدّ أن يصل إلى السعودية التي ستطلب الحماية من الولايات المتحدة و”اسرائيل”، ما يقدم لليهود فرصة للسيطرة على مكة. في حين يظهر الكيان نفسه بصورة البطل الذي أنقذ آل سعود.

وفي سياق طرحه يدعو " ليبكن" المسيحيين واليهود للتوحد من أجل استعادة مكة، على اعتبارها أرضا مقدسة للديانتين معا مستشهدا بأقوال من الإنجيل والتوراة، وزاعما أن العهد الجديد حدد مكتن جبل سيناء على اعتباره في جزيرة العرب، وقد أكد ليبكن مرارا خلال مقابلات عدة له أن ما عرف بالربيع العربي لا بد سيصل يوما إلى السعودية، التي ستطلب بدورها الحماية من الولايات المتحدة وإسرائيل، ما يوفر لليهود فرصة عظيمة للاستيلاء على مكة، بعد تقديم الكيان الغاضب نفسه على أنه المنقذ لآل سعود بعد إشاعة الفوضى، فهل ستنبه قادة العرب والمسلمون إلى هذا المخطط، أم أنهم أكلوا يوم أكل الثور الأبيض

واختتم ليبكن كتابه داعياً إلى اتحاد «المسيحيين واليهود» لاحتلال السعودية والإستيلاء على مكة موظفاً نصوص التوراة والأسفار المحرفة كما في كتبه، وزاعماً أن “نهاية مجد الإسلام باتت قريبة جداً” وهي النغمة النشاز التي دأب الكثير من قساوسة الدين المسيحي وحاخامات اليهود على ترديدها في كل المحافل.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

جاسب المرسومياصدارات تتجدد في طياتها روح التكوين والمدارس الأدبية المفعمة بالانطلاقة والتحرر من قيود الإفراط في النمط المتبع في كل لون أدبي له أساسيات بني عليه ذلك اللون الذي يحاكي الحب والوطن .

في القراءات الجديدة التي أصدرها الشاعر عباس باني في كتابه الأخير  (قراءات في دفتر الجنون) نرى صورة لمجموعة مدارس ربطت بين الحاضر والماضي لنمط شجاع تحرر من قيوده فانطلق نحو مدرسة كان قد وضع لها قداسا جديدا جامع بين الحداثة والقدم .

في جسد الشاعر شخصيتين، الأولى المستقرة اجتماعيا حسب ما يظهر والمتكيفة في ضلال عدم الحاجة، والتي لها القدرة في الوصول الى ما تبغي لكنها لا تنعكس ماديا مترفة على ضلال الأخرى المتعلقة في الجسد ذاته، وهي الشخصية ذات الجوف الدامي والأنا الباكية لجروح ذاكرتها القديمة والعميقة التكوين تلك التي تنزف الكلمات بإيقاعات مبنية على ذاكرة الزمكان المتفاوتان في آنيهما .

(حين تكون الطفولة مازالت عالقة بالحبل السري للزوال

.. المطر يبكي فراقه لعلو الغيوم).

ولم تتمكن الروح في الشخصية الأولى القضاء على القلق الدائم المبيت أرقه في حصارات على شبابيك الأنا المزدوجة والمزدحمة والتي لطالما استسلمت رغم محاولات الانفلات والهروب من غربتها كأنها تعشق ما تكنه الذاكرة المبطنة لتعيدها في منظور يتطور في صوره كلما كثرت كتابات عباس.

(متعلق بغرقي بكف المجهول الذي استطال الى همس الجنون).

وهنا في (قراءات في دفتر الجنون) يبحث عباس عن مخرج لانطلاقة يحاول فيها إدراك كل الكينونات المقيدة في كتاباته المختزلة لتلك الكينونات التي وضعت الإشراط والجزم والتجزر كأنها تشبه حصار أناته الذي ما انفك قائما، محاولا إدراك ذواته تماما في حرية مطلقة وصل فيها الى إرضاء كامل لما حبلت به الذاكرة النشطة للزمكان المنقرضان، والذي ولد جديدا بصياغة حديثة مبنية على قدسية الأنا المنصهرة في بودقة التحديث لعولمة الكاتب والذي يتحدث عن حاضر غائب في ضمير الأنتظار لحلم قد لا يتجاوز جملا على ورق أرادها أن تكون طويلة تعطي كل تصوراته مشبعة في انتظار الغائب .

(كي ارتقي سلالم النور على جسدي الباحث عن حرية الاختيار

ارمي صمتي بزجاج النوافذ لأرسم صورتك بكل الألوان

تضوع روحي بأنفاسك واسقط بين كفيك بريئا في صلاة الأسفار

أعرف انك لن تعودي وبانك ستأتين قبل موعد الانطفاء

سأنتظر ... سأنتظر).

وفي حافات أخرى للنصوص المفعمة بالتأله

(أصادق الأنبياء والمجانين والعشاق والثوار).

فهذه الفئات الأربعة تشكل عند عباس باني رموز إلاهية، هي تلك التي تتصف بكل صفات المنطق الذي لا يشبه الآخر، وهي الحقيقة في واقعها تماما لصناعة الحياة التي وضع هؤلاء أساسياتها في فلسفة الروحانيات والتجدد، وهي الروح التي تلامس ذاته بكل تفاصيلها الثورية، وأنا في الحقيقة أرى أن النصوص التي تصنع الحياة لا تأتي من فم عاقل أو سوي طبيعي لم يتصف بصفة من تلك الصفات الأربعة والتي تلازم نصوصه ومن حدا حدو جنونياته .

في دفتر الجنون حضورا متميزا لجملة مجانين صنعوا للحياة مزارات منها ما عبد ومنها ما استقام على أساسه الفكر فانبثقت منها السونيتات وينابيع العزف الروحاني في سيمفونيات مطولة، حضورا أنيقا لطاغور بفلسفة الحاضر ولجبران بصناعة الوجود المثالي للقصيدة ونيتشه المفعم بالحقيقة والوجود وكأنني أمام عالم من مدرسة لاهوتية تقتحم عالم الحداثة في إبداع عولمي متجدد أو انه يصنع جمهوريته ليطير بها متمردا ينعم بلحن متخصص في قراءات متجددة لإسفار التوراة والإنجيل وبعض من مفردات قرآنية.

(لان الحكماء دائما يصلبون على جذع الضوء الخارج من أرواحهم

لأنهم تعلموا كيف تتجاذب أرواحهم مع المعنى

دون أن يغلق بصيرتهم الضوء الساقط من حافة اللامعقول

لان شريعة المعنى فضيلة الغرباء).

وحين أتنقل بين أوراق القراءات في دفتر الجنون أرى أنني أعيش خاطرة الفلسفة الكونية في أحجية تهمس في أناتي لتوقظ فيها ذاكرة حاولت أن تجعل في إحساسها أسلوبا له ذات الانطلاق في تحضيرات عباس باني،إذ لم تزل الخطوط الأولى التي رسمت كتاباتي تنقش في خط الأسلوب ذاته لكنه تعثر في زحمة الأساليب فأصبح غير مستساغا ولم يرى منه النور سوى بعض مخطوطات صغيرة في كتيب اسمه (صور قيد التظهير) الذي انتهى متعثرا في أروقة الأرق والانتظار .

هنا وضع عباس كل ما حلم به وما أراد أن يوصله للقراء في صورة أدبية شجاعة وما أراد أن يوصله للحبيب المفقود في جنونياته والذي ما انفك منتظرا إياه رغم كونه متأكدا من أنه لن يأتي وضل يقول

(آتيك .. آتيك)

بعد يأس من كلمة

(تعالي .. تعالي)

ولم يزل يبحث عنها في كل قراءاته الى النفس الأخير مترجما أحزانه في البحث عنها لتشكل في قاموسه حياة أبدية وحلما من أجمل ما يكون

(بعد أن غسل النهار جنوني بحد ضياع ولادتي بين كفيك في كل حين

تعالي .. كل روحي اليك مهبطا

تعالي قبل أن تضيع براري الهوس بشرائع خرافة الألم في جبين العصور

تعالي)

هذا الحلم المفقود بنيت عليه تلك القراءات الكبيرة في جسد جنونياتها،، هذا الجنون الطفولي المكتشف في ذاته لذاكرة تدارست، لكنها لم تنقطع أحلامها ولهذا لم تزل تنتظر أملا يأتي وحلم عبر المواسم والأعوام رغم هروبها وهرمها .. هذا التاريخ الكوني الذي كتب في صفحاته المتدثرة بصفائح الروح لامرأة لا تشبهها ثانية، تعني كل أشياءه فهي التأريخ في كل المواسم وهي الفردوس والأسفار والوطن

(عيناها جدولة الكون حين ينهزم التأريخ من أوراقه، عيناها صديقة كل المواسم التي تنثر بساتين روحي بكل أزهار الفردوس، كانت امرأة خارج النساء حين ينبت ضلع الطين على أجسادهن، كانت وطن دون جدران المدن

كانت وكانت

افترقنا دون عنوان الروح بالمسير إلى وطن

دون وطن)

وللأماكن والمسارات التي قطع شوطها من الحزن الم ينشره على تلك الطرقات والقطارات والمطارات ورمل الشواطئ والمدن التي تقاذفته، والمواسم التي مر بها كمسافر دائم الأسفار حقيقة وتصور

(أنا ضيعت وجهي في زحمة المطارات التي ترتقي فوق تنفس الهواء الممزوج بالغيم أبحث عنه

ابحث في مرايا عابري السبيل باتجاه نقطة هوس البحر وقت ازدحامه على صخرة الرب

انتزع وجهي من المرايا وأعبر الشوارع دون انعكاس الضوء على عيون المكان)

وهو يحمل في حقيبة صغيرة بين أضلعه رمزا لحياة رغم كونه يعلم أنها أضحت خسارة وضلت حلما لم تأته حقائقها البتة، سوى أنها تشكل حاضرا بنيت على أساسه خاتمة التصور فأنتجت تلك الفلسفة الصوفية  وهذا العبور إلى مرحلة التيه والتوحد مع الذات التي ما انعس الحاضر ليأخذ أحلام الطفولة كأنه يضع الوجود الحقيقي لجمهورية القلب والروح كحقيقة يتلمس وجودها بين أضلع لم تزل تنظر خارج حدود الزمن.

(أصبح القلب خيط الأمس يمتد باتجاه وجوهنا التي كانت تؤشر الفرح في لقائنا

ما عادت هكذا وذبلنا من أجل لقاء قد لا يأتي أبدا الى دروبنا

وتقطعت علامات الحنين في كوابيس ارقنا

نما فقدان الذاكرة دون إشارة إني عشت أمسنا)

أما أنا فلم أزل أتيه بين الدفاتر الجنونية لعباس باني لعلي أصل الى حقيقة ما يريد رغم كونه أعط بجلية كل تصوراته لكنه لم يعط الحق بتصريح يجاز به القارئ ليصل الى كيفية التوحد بين المفترقات التي تزيح في دائرتها الثورية لعقلية الأديب المتفحص لعلة المنشور، ورغم استخدام كل أجهزتي الحديثة التكوين لكنني لم استطع تشخيص علَاته الكثر، وما زلت اعشق هذا التيه بين سطور هذه الصفحات المجنونة . ورغم ذاك فأنا لم أعط حق ما أعطيته أو يعطيه أي كاتب يقرأ (قراءات في دفتر الجنون) حقها،، فهي عمق كبير وشرخ واسع في ذاكرة الزمان والمكان والحداثة، فانا لم اعد أدرك منها سوى القليل كوني أراني أمام هرم كبير له قداسه وطقوسه .

 

الكاتب: جاسب المرسومي – العراق

 

 

الصفحة 8 من 8

في المثقف اليوم