قراءات نقدية

سمير اليوسف: بين لعنة الكتابة ومرآة الذات

الرؤية الفكرية والجمالية في "المجنون وبنت الحبر الناكرة" لِـ مجيدة محمدي

القصيدة التي بين أيدينا ليست مجرّد نص شعري، بل مرآة ناطقة لعلاقة الإنسان – لا الشاعر فحسب – مع اللغة، مع المعنى، مع الخوف، ومع فكرة الخلق ذاتها. إنها ليست فقط قصيدة عن الشعر، بل عن ذلك الصدع الخفيّ الذي يتكوّن في الروح حين تحاول التعبير عما لا يُقال، عن تلك الولادة المؤلمة لكل نص، التي لا تتم إلا على هيئة خيانة، أو على شفير الجنون. من هنا، تتجاوز القصيدة إطارها الجمالي لتُلامس بعمق أسئلة الإنسان الكبرى حول هويته، حريته، وحدود قدرته على الفعل والتعبير. "المجنون وبنت الحبر الناكرة" ليست قصيدة وصفية، بل ذات طابع درامي داخلي، تتصارع فيه الشاعرة مع النص الذي تكتبه، ويبدو في كل سطر أنه يكتبها أكثر مما تكتبه.

تبدأ القصيدة من صورة مقلقة: "أبجديةٌ مكسورة، / تزحف على أطرافها كالعقارب". الأبجدية، أداة الشاعر الأولى، توصف بأنها مكسورة، زاحفة، سامة. التشبيه بالعقارب لا يوحي فقط بالخطر، بل بالانفلات، بالسمّ الذي يسري في اللغة حين لا تكون تحت السيطرة. وحين تقول: "كلّما رتّبتها، / عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق"، فهي لا تعبّر عن خلل فني، بل عن انهيار العلاقة بين الإرادة والإنتاج؛ إذ أن القصيدة، حتى حين تُرتّب، تعود إلى حالتها الفوضوية، كأنها تحكمها قوانين داخلية لا تستجيب لنية الكاتب.

ثم تنتقل الشاعرة إلى وصف الكلمات لا كرموز، بل ككائنات عارية، مجروحة، متمردة: "بعض الكلماتِ، / تأتي حافية القدمين، / تُدمي السطور، / وتغادر بلا وداع". هنا تتجلى الرؤية الجمالية للشاعرة التي ترى في اللغة كائنًا يتحرّك بحرية، خارج منطق الطاعة. الكلمات تُدمي النصّ ثم ترحل، بلا اعتذار، بلا اعتراف، وكأنها لا تنتمي. إن الشاعرة – عبر هذا التصوير – تعبّر عن مدى هشاشة الإبداع، عن قصور السيطرة، عن التوحّش الذي قد تتلبّسه الكلمات حين تخرج من رحم القلق.

وتتبلور الرؤية الفكرية للقصيدة حين تقول: "كأنها تعرف أن لا قلبَ لي / ولا قبرَ لها". هذه الثنائية الحادة تكشف تمزّقًا عميقًا: ذات كاتبة بلا عاطفة، وكلمات لا تجد مستقرًّا. فالشاعرة تُحيلنا هنا إلى تجربة شعورية قاسية؛ إنها لا تكتب من الحب، بل من الفراغ، ومن الشعور بالتيه واللا انتماء.

ثم تُجسَّد القصيدة في صورة أنثى، لا على سبيل التأنيس البلاغي فحسب، بل ككيان نفسي عنيد: "هناك، في ركنٍ خفي من الرأس، / تجلس القصيدةُ، / تقضم أظافرها بأسنانها". إنها صورة لامرأة قلقة، عصبية، تختبئ في العقل، لا تخرج إلا حين تشاء. وتتابع: "تضحك... تهمس للمداد، / 'لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء... / أنا الأنثى التي لا تلين'". بهذه العبارة، تعلن القصيدة عن تمرّدها، استقلالها، ورفضها للتشكيل حسب إرادة الكاتب. وهذا التصوير يعطي للنص بعدًا فلسفيًا عميقًا: القصيدة ليست طيّعة، وليست انعكاسًا لرغبة، بل كيان مضاد، ذو إرادة خاصّة.

في لحظة اعتراف نادرة، تقول الشاعرة: "هي تعرف... / أنني أكتبها، / لا حباً... / بل لأنني أخافها". هنا تنقلب العلاقة تمامًا، إذ يصبح الفعل الإبداعي وليد الخوف لا الإلهام. القصيدة تُخيف لأنها تجرّد الذات، وتكشف عمقها، وتفرض عليها إعادة النظر في وجودها، ولأنها – كما ستظهر لاحقًا – تشبه الشاعرة نفسها في تمردها وتشرّدها.

وتتتابع الصور التي تدعم هذا البعد، منها على سبيل المثال: "في كل بيتٍ منها / رائحةٌ تشبه الخيانة". فكل مقطع من القصيدة يحوي طيف خيانة، ليس بالضرورة خيانة حبيب، بل ربما خيانة الذات، خيانة الأمل، خيانة الفكرة الأصلية التي تشوّهها اللغة حين تترجمها. وهذه الخيانة تتجلّى في شكل بصري حاد: "أحرُفُها، / كأظافرٍ نَمَت في العتمة، / تخدشني... / ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه". الشعر هنا لا يداوي، بل يخدش. لا يعالج، بل يفتح جراحًا جديدة، ثم يبتسم بلا مبالاة، كما لو أن القصيدة هي الجلاد الجميل الذي يؤذي من دون تذكّر أو ندم.

ويُستمر في إبراز مراوغة القصيدة وتمنّعها، حيث تقول: "كلّما أوشكت أن تكتمل، / تمدّ ساقاً من الفراغ، / وتفرّ". إن لحظة الاكتمال تُقاطع دائمًا بفعل الغياب. القصيدة تقف عند حافة التحقّق، لكنها تهرب، تترك الشاعرة في منتصف المعنى، كمن "يعدّ المقاطع، / كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة". هذه صورة ذات بُعد شعري وفكري في آن؛ فعدّ المقاطع لا ينتج معنى، بل يستحضر عبثية التشريح دون روح، كأن القصيدة، حين تُفرض بالقوة، تصبح جثة بلا حياة.

ويبلغ التوتر ذروته حين تقول: "كلّما ناديتُها باسمٍ، / قالت: لستُ أنا. / كلّما خلعتُ لها المعاني، / ارتدت قناعاً آخر". هنا يتجلّى جوهر الرؤية الفكرية في النص: المعنى دائم المراوغة، لا يُمسَك، لا يُعرَّف، لا يُوضع في قالب. اللغة تخدع، وتتنكّر، وتُنتج من السؤال ألف سؤال، ومن الوجه ألف قناع. فالقصيدة لا تصل إلى يقين، بل إلى "سؤال جديد" يُغرس في الجبين، في استعارة توحي بالألم والدوام.

وفي مفارقة وجودية قاتلة، تعترف الشاعرة أن القصيدة لا تزورها في الحلم، بل "تنام في قلمي، / وتستيقظ حين أنام". هنا نكتشف الوجه الآخر للقصيدة: ليست حُلُميّة، بل واقعية، ليلية، تظهر حين يغيب الوعي، وتتحكّم بالأداة (القلم)، فتكتب من تلقاء نفسها. هي كينونة مستقلة تسكن الأداة وتفرض سلطتها.

أما النهاية، فهي اعتراف ملؤه الألم والفقد: "كتبتُ غيرها، / أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة، / لكنها... / هي وحدها / اللعنةُ التي تشبهني". الشاعرة تعلن أنها كتبت الكثير، لكنها لم تُشبه إلا هذه، لأنها قصيدة تشبهها في وجعها وتشرّدها وتمرّدها. إنها قصيدة ليست نتاج إلهام، بل لعنة، ليست بنتًا مطيعة، بل مرآة مكسورة للذات.

في الختام، يمكن القول إن الرؤية الفكرية في هذه القصيدة تقوم على تقويض مركزية الكاتب، لصالح قصيدة تتمتع بوعي ذاتي، وتمرّد وجودي، ولا تخضع للعرف أو المعنى المستقر. أما الرؤية الجمالية، فهي تقوم على صور مدهشة، مليئة بالعنف الرمزي، والمفارقة، والخوف، مما يجعل من النصّ تجربة وجودية وجمالية مكثّفة، تحمل في طياتها السؤال الأكبر: من يكتب من؟ الشاعر أم القصيدة؟

***

بقلم: سمير اليوسف

Alyusef Sameer

.......................

المجنون وبنت الحبر الناكرة

بقلم: مجيدة محمدي

***

أبجديةٌ مكسورة،

تزحف على أطرافها كالعقارب،

كلّما رتّبتها،

عادت فوضى، كأحلام النائم في حريق.

بعض الكلماتِ،

تأتي حافية القدمين،

تُدمي السطور،

وتغادر بلا وداع...

كأنها تعرف أن لا قلبَ لي

ولا قبرَ لها.

هناك، في ركنٍ خفي من الرأس،

تجلس القصيدةُ،

تقضم أظافرها بأسنانها،

تضحك... تهمس للمداد،

"لن أخرج إلا مكسورة... لن أُقال كما يشاء...

أنا الأنثى التي لا تلين "

هي تعرف...

أنني أكتبها،

لا حباً...

بل لأنني أخافها.

في كل بيتٍ منها

رائحةٌ تشبه الخيانة،

أحرُفُها،

كأظافرٍ نَمَت في العتمة،

تخدشني...

ثم تبتسم كمن لا يذكر ما اقترفه.

كلّما أوشكت أن تكتمل،

تمدّ ساقاً من الفراغ،

وتفرّ،

تتركني أعدّ المقاطع،

كمن يحصي ضلوع ميت، على عجلة .

كلّما ناديتُها باسمٍ،

قالت: لستُ أنا.

كلّما خلعتُ لها المعاني،

ارتدت قناعاً آخر،

وغرست في جبيني سؤالاً جديداً.

إنها هي...

الناكرة،

التي لا تزورني في المنام،

لكنها تنام في قلمي،

وتستيقظ حين أنام.

كتبتُ غيرها،

أنجبتُ من نساء المعاني ألف ابنة،

لكنها...

هي وحدها

اللعنةُ التي تشبهني...

 

في المثقف اليوم