قراءات نقدية
فالح الحمراني: الروس والاوروبيون في رواية دستويفسكي المقامر

تشغل رواية «المقامر» مكانة خاصة في مجمل أعمال فيدور دستويفسكي (1821 1881)، ليس فقط للظروف الشائكة التي أحاطت بالكاتب خلال مدة كتابتها، وإنما لكونها أيضا الحاضن لجملة كبيرة من الأفكار التي ستنساب في الأعمال التي جاءت بعدها لتتجسد فيها بروح نابضة وقوة، تأخذ العقول وتكون موضع دراسات عميقة في جامعات الشرق والغرب لأسبار غورها ولحد يومنا هذا..
من الناحية الشكلية فإن المقامر هي الرواية الوحيدة التي كتبها دوستويفسكي وصدرت (1866) بكتاب على حدة من دون أن تنشر في مجلة أدبية كما هي الحال بالنسبة لرواياته الأخرى. وكانت الرواية مخاض «مقامرة» محضة كادت تؤدي بالأديب الكبير للإفلاس نهائيا وتحول من دون ظهور رواياته الكبرى الأخرى: الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف والأبله والمراهق…. فالمقامر كانت نتاج اتفاق غير عادل فرضه الناشر ستيلوفسكي على دستويفسكي، يقضي بقرضه مبلغا ماليا كان بأمس الحاجة لقاء إصدار كافة أعماله،وأن ينتهي من كتابة رواية بأقل من تسعة أشهر، وبخلافه فإنه سيصادر حقوق طبع أعماله لتسع سنوات واسترجاع السلفة.
وشرع دستويفسكي بكتابة الرواية قبل شهر من انتهاء المهلة وربح «الجولة» فقط بفضل ظهور «الملكة» أنا جريجورفنا التي ستكون زوجته وساعدته على نسخ روايته وتنقيحها في المدة المطلوبة. فكتب الرواية في غضون 26 يوما تلك الأيام التي كانت أيضا منعطفا في حياة دستويفسكي الإبداعية. وتزوج من جريجورفنا التي ستظل رفيقة دربه وسكرتيرته الخاصة حتى اللحظات الأخيرة من حياته. الرواية بشخوصها وبنيتها وأفكارها الرئيسة كانت قد اختمرت في ذهن الكاتب، ويبدو أنها كانت بانتظار المخاض، الذي عجالته المقامرة المريرة
وتدور الرواية حول عائلة جنرال روسي شاءت الظروف أن تحل في مدينة روليتنبورغ الألمانية وتتحكم الانفعالات والمال وعواطف الحب الجياشة وما يتصل بها من مكايد وصفقات وراء الكواليس، بأمور هذه العائلة. وليخفي الجنرال رأس العائلة عشقه لمودموزيل بلانشيه التي لتفترق عن الفرنسي دي جريو وهذا بدوره ارتبط بعلاقات غامضة بربيبة الجنرال بولينا التي أضيف لها قصة مال.... ولم يتخذ موقف اللامبالاة من بولينا ايضا المستر استلي الانكليزي الذي اتشح بالوقار وبرودة الدم.بيد ان معلم اطفال الاسرة الكسي ايفانوفيتش وهو بطل الرواية وسارد احداثها كـ «مذكرات شاب»، سليل عائلة نبيلة وحاصل على تعليم ممتاز تتجلى في نقاشاته الفكرية الحارة وتأملاته عن الناس والحياة، وحده يعيش مغامرة حب قلقة لبولينا، حب حتى الحقد، يحرمه الهدوء ويسرق النوم من عينيه، ويجعله يقبل تأدية دور التابع بالاسرة ليكون بالقرب منها
وتراهن العائلة ومن حولها على موت الجدة صاحبة الأطيان الذي تنتظر وصول خبرها من موسكو ببرقية عاجلة لتقاسم الورث وحل المشاكل العالقة، ولكن العجوز لا البرقية تفاجئ الجميع بالوصول بنفسها لروليتنبورغ وتشرع بالمقامرة بثروتها لتخسرها وتتمحور الرواية حول مصير ألكسي إيفانوفيتش الذي يمارس القمار نزولا لرغبة بولينا ويحالفه الحظ في البداية بالربح، ولكنه يتحول -في نهاية المطاف- إلى مقامر مدمن لا علاج له، أي كما وصفه الأستاذ استولي «إنسان ضائع» ويتضح في نهاية الرواية بأنه يتنقل بين مدن القمار بأوروبا وينحدر ليكون خادما، ويصدر به حكم بالحبس بسبب عدم إيفائه بالتزامات مالية. فالإدمان كان ملاذا من مأساة الحب غير الناجز، لخنق أصدائه بانفعالات الربح والخسارة، ويرصد الكثير من الباحثين في سيرة دستويفسكي الكثير من ملامح شخصيته والأحداث التي مرت به والناس الذين تعامل معهم في الرواية. فازدواجية الحب والحقد التي ميزت علاقة ألكسي إيفانوفيتش ببولينا تذكرا بعلاقة الحب المعقدة التي ربطت دستويفسكي بابوليناريا سوسلفا. وكان دستويفسكي أيضا قد ولع لمدة 10 سنوات حتى الإدمان بالقمار مثل بطل روايته المقامر.
شخوص رواية المقامر، مثلهم مثل أغلبية شخوص روايات دستويفسكي الأخرى يقفون على حافة الهاوية. هاوية ما. الإفلاس، أو فقدان الصواب أو التعرض لمرض نفسي الموت الفراق مع القريب أو خسارة كل الممتلكات أو الربح أو اجترح مأثرة أو اقتراف جريمة. دائما يقفون أمام خيار تراجيدي. ومعظم تلك الشخصيات أيضا كما يقول ميخائيل باختين متعددة الأصوات. ففي اللحظة الواحدة تتقلب المشاعر والانفعالات ويدلي الإنسان أو يفعل ما ليخطط له ولم يفكر به. هذه الأجواء تهاب عالم دستويفسكي وديناميكية تربك حتى القارئ وتحدث صدمه لديه. دستويفسكي يشرح الروح الإنسانية ليقدم لنا الأجزاء المتكونة منها التي تعوقها عن تحقيق حلم المسيح بإقامة الجنة على الأرض
وينقسم شخوص رواية المقامر إلى معسكرين. الأول يضم الشخصيات الروسية الرئيسية منها الكسي ايفانوفيتش وبولينا الكسندورفنا والجنرال والجدة انتونيدا فاسيليفنا وأربع شخصيات ثانوية يكتفي بإيراد أسمائها فقط. والمعسكر الآخر يضم شخصيات أوروبية فرنسية مودموزيل بلانشيه ورفيقها دي جريو والإنجليزي المستر استلي والألماني البارون بورميلجيليم. ويعكس المعسكران توجهين حضاريين وثقافتين مختلفة بل ومتناقضة لا يمكن أن تلتقي، ونظرت إلى الأمور بصورة مختلفة حتى حينما يمارسان الفعل نفسه. لكل منطلقه فيه. فالمال مثلا بالنسبة للروسي ليس هدفا بحد ذاته بل وسيلة لنيل الحرية والتحكم بالمصير الشخصي، ومحاولة إنقاذ الآخر، الغريب عنه وفي نهاية المطاف تحقيق الحلم الأثير لدى الروسي: تخليص العالم. الروسي يعيش بعواطفه منفعلا متأججا جامحا مخترقا للأبواب من دون الاكتراث للمراسيم والبروتوكولات، وهو مضياف كريم، حال ما تظهر لديه نقود سوف يدعو احدا ما لوليمة غداء، أنه قليلا ما يفكر بالغد، وهو مستعد لإلقاء نفسه من قمة جبل نزولا عند أمر حبيته أو ارتكاب الحماقات ليبعث السرور في قلبها، ويقع في حبائل الأوروبي الذي يتقن حبك المكائد، انه يعرف الأوروبي طيب ولكنه أحمق
ويدرج دستويفسكي في المعسكر الأوروبي من شخوص روايته خمس شخصيات تمثل طيفاً أكثر الأمم نفوذا في عصره: الفرنسية والإنجليزية والألمانية وهناك أشباح بولونية، أو على الأقل الأمم التي لها صلات على مستويات مختلفة بالأمة الروسية والسلافية عموما. ونتلمس من خلال تفاعل الشخوص وصدامها أن لكل فرع أيضا خصوصيته في ذهنية الإنسان الروسي. والأحكام التي تطلق على «الأوروبي» هي في واقع أصداء لميول اجتماعية وسياسية كانت سائدة في روسيا. فالفرنسي مغامر يبحث عن المال بأية وسيلة كانت، وهو رغم الرأي الشائع عنه يتميز فقط بأناقة الشكل من دون أن يكون له محتوى ولا مضمون. المال بالنسبة له هدف نهائي ومن أجل يغامر ويخدع ويخون ويلبس الأقنعة ويحتال، لكنه متكبر ينظر إلى الآخرين وخاصة للروس من الأعلى.ويلوح الألماني دقيقا في حياته، إنه يضحي بحاضره في سبيل تأمين مستقبل أحفاده ويعيش لذلك في ظل قواعد لا يحيد عنها تؤدي إلى جفاف روحه. ويبدو الإنجليزي غامضا وباردا في مشاعره يحقق أهدافه بخفاء دون أن يبوح بها، ولكنه يظهر الكرم والشهامة عندما يجد ذلك مناسبا.
وعموما فان الآراء والمواقف من الأوروبي والروسي تأتي على لسان شخوص الرواية ليس بالضرورة هي مواقف الكاتب، لكن المعروف عن دستويفسكي إنه أصولي روسي أصبح محافظا متدينا، بعد الإفراج عنه من سجن الأعمال الشاقة بسبب انتمائه إلى حلقة بيترشيفسكي الاشتراكية التي نشطت إحدى جماعاتها لتحويلها إلى منظمة فعل جماهيري لقلب نظام القيصر. وكان يؤمن بخصوصية الروح الروسية وبرسالته الروسية لإنقاذ العالم لأنه مزاج حضارتين. كان يؤمن أن الشعب الروسي تجسيد للرب، فكان يدافع عنه ويدعو لتنقية صفوفه لإيصاله بطريق السلام والعمل إلى الجنة الموعودة. وكان دائما يبحث عن البديل للحضارة الغربية التي بالغت بميولها المادية.
***
د. فالح الحمراني