قراءات نقدية

حسن لمين: رواية "غيبة مي" لنجوى بركات.. كتابة النفي وبلاغة الغياب

تقدّم نجوى بركات في روايتها الجديدة غيبة مي (دار الآداب، 2025) نصاً سردياً يُقيم في المساحة الفاصلة بين الوجود والعدم، الحياة والذبول، حيث تتجلى "مي"، الشخصية المركزية، بوصفها كائناً محاصراً بالعزلة والصمت وتكرار اليوميات المتشابهة. في طابقها التاسع، تنعزل مي عن العالم، لا تربطها صلات حقيقية بأحد، لا أهل، لا أصدقاء، لا جيران، حتى التوأمان، ابناها المقيمان في الخارج، لا يظهران إلا بوصفهما غياباً مموّلاً، وعلامة على تخلي لا يُداوى.

منذ الصفحات الأولى، تنبني الرواية على مفارقة جوهرية: كيف يُمكن لحياة لا يحدث فيها شيء أن تُروى؟ بل كيف يتحوّل "العدم" اليومي إلى مادة سردية قادرة على استقطاب القارئ؟ هنا تكمن قوة النص الروائي، الذي ينهل من البلادة، من الرتابة، من العزلة، فيبني عبر التفاصيل الصغيرة شبكة من التأملات والانطباعات التي تتعالى عن الحدث، لتجعل من الغياب سردية قائمة بذاتها.

أجساد هامشية وسرديات منفية

لا تقدم مي شكواها إلى أحد، ولا تعلن احتجاجها على وحدتها، رغم أن شيخوختها قد تبرر لها ذلك. بل تختار، في عناد يشبه الترفّع، أن تواصل صمتها. لا تتفاعل مع الناطور يوسف، الذي يجلب لها حاجياتها، إلا بقدر الحاجة، كما لا تمنح شاميلي، العاملة السريلانكية، سوى هامش ضيق من التقدير. القطة التي ظهرت في حياتها ككائن دخيل، بقيت معزولة في الشرفة، بدون اسم، وكأنها استعارة للذات المغتربة التي تُحاكم نفسها بصمت وتُنفي ذاتها عمداً.

يُمكن القول إن الرواية تمارس ما يمكن تسميته بـ"كتابة النفي"، حيث لا يتم السرد من خلال ما هو واقع، بل من خلال ما هو مؤجَّل أو غائب أو مستحيل التحقق. غيبة مي ليست فقط غياب البطلة عن محيطها، بل هي أيضاً غيبة الحاضر عن الماضي، وغيبة الذات عن ذاتها، وغيبة اللغة عن الحوار.

تحوّلات الراوي وانقلاب الزمن

تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول، يمثل كل فصل منها تحوّلاً في المنظور السردي. في الفصل الأول، نحن أمام سرد بضمير الغائب عن مي العجوز، التي تشيخ في صمت، في عزلة مطلقة. لكن مع بداية الفصل الثاني، تنقلب البنية السردية: الراوية صارت مي الشابة، تخاطب نفسها العجوز، تقول: "يا مي..."، كما لو أن الصوت الداخلي استعاد زمناً منسياً، ليبدأ محاكمة الماضي للمستقبل، أو العكس.

يطرح هذا التحول السردي سؤالاً فلسفياً حول علاقة الزمن بالهوية. من هي "مي"؟ هل هي هذه التي نقرأها في حاضر الرواية، العجوز المنسية؟ أم تلك الشابة التي تعيد ترتيب وقائع عمرها الأول؟ ومن يتحدث في النهاية: الذات أم ظلها؟ الواقع أم الذاكرة؟ السرد هنا يتماهى مع آليات الخرف، مع اختلاط الأصوات، ويصوغ لحظة الانهيار الذهني بوصفها لحظة كشف سردي.

في هذا الفصل، تسلط الراوية الضوء على مرحلة الشباب، الحب، البدايات، التمثيل، ولحظات الاكتشاف الأول للذات. تكتب بركات، على لسان بطلتها، تعريفاً لافتاً للتمثيل، بوصفه ليس اندماجاً في شخصية أخرى، بل "احتمالاً من احتمالات الذات في ظروف مختلفة"، وهو قول يتجاوز حقيقته المسرحية إلى ميتافيزيقا الهوية.

بلاغة الختام: موت واعتراف متأخر

في الفصل الثالث والأخير، تنقل الكاتبة السرد إلى يوسف، الناطور، الذي لم يكن له قبلاً سوى دور وظيفي في الرواية. غير أن مي، في فعل تأخيري بالغ الدلالة، تكافئه بجعله شاهداً على أيامها الأخيرة، بل تجعله الصوت الذي يكتب النهاية. حتى القطة، التي ظلت مجهولة ومقصيّة، تُعطى اسماً بعد موتها، في لحظة تسامح سردي، كأنها اعتراف خجول ومتأخر بما تستحقه الكائنات من حضور.

تتحول نهاية الرواية إلى لحظة إشفاق واعتراف معاً، لا على مي فقط، بل على العالم الذي لم يمنحها فرصة حقيقية للانتماء. كل الكائنات التي دارت حولها — القطة، يوسف، شاميلي — كانت موجودة، لكن دون علاقة حقيقية. وحده الغياب هو ما ظل حقيقياً وراسخاً.

في الموازنة الجمالية والفكرية

تتسم غيبة مي بجمالية خاصة لا تقوم على حبكة تقليدية أو تحولات درامية، بل على "اقتصاد السرد"، على اللعب بالزمن، وعلى التكثيف الرمزي للغة. يتقاطع فيها البعد الفلسفي مع الشعري، لتتحول الرواية إلى تأمل طويل في ما تعنيه الوحدة، وما تتركه الشيخوخة من بقايا في الجسد والذاكرة. أسلوب نجوى بركات هنا يلامس حدود النص الشعري في لحظاته الأعلى، حين تترك اللغة تنوب عن الإحساس، وحين يتحوّل السرد إلى نوع من المونولوغ الوجودي.

الرواية بوصفها مرآة للمحو

وصفوة القول: ليست غيبة مي رواية عن امرأة مسنّة فقط، بل هي تأريخ سردي للمحو. محو العلاقات، محو الذاكرة، محو الذات. ومع ذلك، يبقى هذا المحو مكشوفاً تحت الضوء، محفوراً بجماليات اللغة، حيث لا تُروى الحياة إلا من خلال نُسخها الباهتة، ومن خلال عزلة تحوّلت إلى وطن أخير. .

***

حسن لمين - كاتب مغربي

في المثقف اليوم