قراءات نقدية

آمال بوحرب: قراءة فنية بعنوان صراع الوعي وَالضياع فِي الذات فِي قصيدة

"نظرة حائرة" للشاعرة زينب غسان البياتي

يبرز مفهوم الحنين فِي الفلسفة، والشعر أكثر من مجرد شوق إِلىٰ الماضي فهو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين الحاضر المؤلم، والماضي المثالي فلسفيا يربط هيدغر الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق إِلىٰ الأصل محاولة لاستعادة الذات الأصيلة، أما فِي الشعر فيتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج من الذاكرة،  والفقدان كما عند درويش الذِي يرىٰ فِي الحنين جرحا ينبض بالهوية، وهٰكذا يصبح الحنين فِي نظرة حائرة لزينب غسان البياتي جسر يربط الفلسفة بالشعر إذ يتجسد كعطر منسي يذكر الذات بصباح فيروز، وبغداد لكنه يحمل مرارة الخيبة، ويفتح الباب لصراع وجودي عميق.

نص قصيدة نظرة حائرة لزينب غسان البياتي:

أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ

يلملم الخجل خدها،

ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح،

ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر،

كقهوة قصيدة تشتهي الغروب،

فِي غفوة القلب هناك حيث الانتظارات المملة،

أُغنية تهوىٰ صباح فيروز،

وَ صباح بغداد،

جادلت نعاس الفجر ليغازلها

اختباء الصباح بين دموعها،

حكاية ضائعة بين وسادة

قطعت وتين الحب،

يتوسل بصمته

ثُمّ ينادي إِلىٰ ذاته..

***

يطفو الحنين فِي هٰذا النص كعطر منسي تذروه الريح فينشد فِي أغان خجلىٰ، ويعانق خيبة الصباح إنّه ليس مجرد اشتياق للماضي بل جرح نابض يحمل رموز زمن ذهبي مفقود صباح فيروز، وصباح بغداد هذان الرمزان رسمًا جغرافيا لروحية تمثل الحلم العربي المشرق الّذِي تحول إِلىٰ قهوة قصيدة تشتهي الغروب حنين مركب يتشابك فيه دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان كدمع الورد الّذِي يغني عَلىٰ أطلال الأمل، ويتحول الحنين إِلىٰ مدخل ؛ لفهم القصيدة حيث يتجسد كخيط يربط الذات الشاعرة بماضيها، ويلقي بظلاله عَلىٰ حيرتها الوجودية كما يعكس التساؤل الفلسفي عن الذات فِي مواجهة الفقدان.

دلالة العنوان:

العنوان نظرة حائرة يختزل جوهر الذات الشاعرة ليس كحالة عابرة بل ككينونة دائمة، والنظرة هي الأنثىٰ / الذات الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصر أعمىٰ عالقة فِي تيه بين الخجل يلملم الخجل خدها، والخيبة دمع الورد عند أوّل خيبة، والحب فِي القصيدة قوة ماكرة تتسلل إِلىٰ جسد حائر فتجعل الذات تنقسم عَلىٰ نفسها فِي صراع بين التوق إِلىٰ التحرر، والاستسلام للقدر، ويتجاوز هٰذا الموضوع العاطفة ؛ ليصبح استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة، والاستلاب حيث تتساءل هل هي حرة أم أسيرة حب ماكر يتحكم بها كما يشير سارتر إِلىٰ التوتر بين الحرية، والاغتراب.

البنية، والزمن الدائري:

تعتمد القصيدة بنية متقطعة من مقاطع قصيرة تشبه ومضات الوعي فِي غفوة القلب هٰذه البنية لا تسرد قصة خطية فحسب، وإنما تخلق زمنًا دائريًا يعكس حبس الذات فِي حلقة مفرغة من التوقعات (الانتظارات المملة، والخيبة، والحنين)، التكرار الدائري للأزمنة (الصباح، الفجر، الليل، الغروب)، يعزز إحساس التكرار العقيم بينما الانزياحات النحوية مثل: ثُمّ غنىٰ لها دمع الورد، والإيجاز الشديد كقهوة قصيدة تعكس تشظي الذات، وانزياح المنطق تحت وطأة العاطفة، وهٰكذا تجعل القارئ يعيش تجربة الحيرة مع الشاعرة كما لو كان عالقًا فِي دوامة نفسية لا نهائية.

الصور الشعرية:

تتألق القصيدة بصور شعرية مكثفة تجمع بين الحسية، والتناقض فمثلًا صورة (غنىٰ لها دمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح) تجسد التناقض بين جمال الورد رمز الحب، ودمعه رمز الألم، وبين الصباح رمز الأمل، والخيبة الّتِي تستقبله، الغناء هنا ليس فرحًا، ولكنه رثاء يحول الجمال إِلىٰ ألم، وفِي صورة (كقهوة قصيدة تشتهي الغروب) تذوب القهوة مرارة، ودفء فِي القصيدة التعبير الجمالي لكنها تشتهي الغروب النهاية، والسكون فتعبر عن رغبة الذات المتألمة فِي الخلاص، أما صورة (ياله من حب ماكر تسلل إِلىٰ جسد حائر) فتجسد الحب ككائن خادع يستلب الجسد الضعيف، بينما (أَنا تلك النظرة الّتِي تحيا فِي بؤبؤ بصرك الأعمىٰ) تقدم تناقضًا مدهشا الرؤية الوعي تعيش فِي عمىٰ وجودي، أو عاطفي مما يعمق إحساس الذات بالضياع كما يصف كيركغور القلق كمواجهة للعدم.

ذروة القصيدة:

تصل القصيدة إِلىٰ ذروتها فِي صورة (جادلت نعاس الفجر ليغازلها اختباء الصباح بين دموعها)، والفعل جادلت يحمل صراعًا عقيمًا محاولة واعية لليقظة ضد نعاس الفجر رمز الخمول، والنسيان الهدف الظاهري ليغازلها هو اختباء الصباح بين دموعها، ورفض الظهور، ولوذ بالدموع مما يحول الغزل إِلىٰ محاولة فاشلة لإثارة الأمل فتختزل هٰذه الصورة مأساة الذات جهد يائس لكسر حلقة الحيرة ينتهي بتأكيد الخيبة فتصبح قلب القصيدة النابض بالألم، والتناقض.

إيقاع القصيدة:

يبدأ الإيقاع بخمول غفوة القلب، وانتظارات مملة ثُمّ يثور لحظيا بحنين أُغنية تهوىٰ صباح فيروز لينكسر عَلىٰ صخرة خيبة الصباح، ودمع الورد، ثُمّ يرتفع الإيقاع إِلىٰ ذروة الصراع فِي جادلت نعاس الفجر ليهبط أخيرًا إِلىٰ يأس اختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب يعكس حالة الحيرة الدائمة حيث تتأرجح الذات بين الأمل، والخيبة فِي حلقة لا نهائية.

حوار الضمائر:

تتجلىٰ ديناميكية القصيدة فِي حوار الضمائر أَنا تلك النظرة تتحدث إِلىٰ جسد حائر، وبصر أعمىٰ مما يخلق توترًا دراميًا داخليًا فالأنا الوعي الحب الهوية تحاول تأكيد وجودها بينما الجسد، والبصر يمثلان الجانب الضعيف الخاضع للاستلاب، وهٰكذا يجبر هٰذا الحوار القارئ علىٰ المشاركة فِي تفكيك الصراع داخل الذات المنقسمة مما يضفي طابعًا تفاعليًا عَلىٰ النص.

السياق الثقافي:

ترتبط القصيدة بالسياق الثقافي العربي عبر رموز مثل: صباح فيروز، وصباح بغداد اللذين يمثلان زمنًا ذهبيًا مفقودًا، وحضارة عربيّة مجروحة فهذه الرموز ليست زخرفا، وإنما جروح نازفة فِي جسد النص تعكس فقدان الهوية الثقافية، أما القهوة كطقس عربي جماعي، فتتحول إِلىٰ استعارة لانعزال الذات، ومرارتها فِي قهوة قصيدة تشتهي الغروب مما يربط الأزمة الشخصية بالأزمة الثقافية الأوسع كما يشير إدوارد سعيد إِلىٰ فقدان الهوية فِي المنفىٰ.

الأسئلة الوجودية:

تطرح القصيدة أسئلة وجودية عميقة فالنظرة الّتِي تحيا فِي بصر أعمىٰ تعكس العمىٰ الوجودي حيث تسعىٰ الذات للمعنىٰ رغم فقدان اليقين محاولة مجادلة نعاس الفجر تمثل تمردًا عَلىٰ العبث لكن فشلها فِي اختباء الصباح يؤكد سيطرة الخيبة، وفِي الوقت ذاته تتناول القصيدة قضية الهوية، والاستلاب، فالذات هي حكاية ضائعة بين وسادة تسأل عما إذا كانت تملك إرادتها، أم هي أسيرة حب ماكر يستلبها.

لغة القصيدة:

تتميز لغة القصيدة بتكثيفها الشديد حيث تحمل كُلّ كلمة ماكر حائر أعمىٰ دلالات عميقة فالانزياحات مثل: دمع الورد يغني، والتجسيد الحب الماكر الصباح يختبئ تحول المشاعر المجردة إِلىٰ كائنات فاعلة مما يضفي طابعًا دراميًا، وأسطوريا، أما الإيقاع المتقطع فيعكس الاضطراب الداخلي بينما غياب الروابط أحيانا يعزز إحساس التفكك.

الحنين جسر الذاكرة، والهوية:

لعل الحنين فِي هٰذه القصيدة لا يقتصر عَلىٰ اشتياق عابر للماضي بل هو تجربة وجودية تعكس انقسام الذات بين حاضر مؤلم، وماضي مثالي يذكرنا ذٰلك بفلسفة هيدغر الّتِي تربط الحنين بالوجود فِي العالم حيث يصبح الشوق لاستعادة الذات الأصيلة محاولة لإحياء وجود غائب، وفِي الشعر يتحول الحنين إِلىٰ لغة حسية تنسج بين الذاكرة، والفقدان كما عند محمود درويش الّذِي يرىٰ فِي الحنين جرحًا ينبض بهوية الذات تظهر فِي القصيدة رموز صباح فيروز، وبغداد كجغرافيا روحية تمثل الحلم العربي المشرق، وهو الحنين المركب الّذِي يجمع دفء الذكرىٰ مع مرارة الفقدان مدخلًا لفهم الصراع الوجودي الّذِي تعانيه الذات.

الصراع الديناميكي:

يتجلىٰ هٰذا الصراع  فِي الحوار الداخلي بين عناصر الذات المختلفة الّتِي تمثل توترات متناقضة، ومستمرّة:

1- الصراع بين " أَنا " تلك النظرة الواعية، والذات الحائرة:

تتحدث أَنا بصفتها الوعي المحاول تأكيد وجوده، ومعناه فِي مواجهة الجسد الحائر، والبصر الأعمىٰ اللذين يمثلان جانبًا من الذات الضعيف، والخاضع للاستلاب هٰذا الحوار الداخلي يعكس حالة انقسام الذات بين الإرادة فِي الفهم، والتحرر، وقوة الاستلاب الّتِي تسلبها القدرة عَلىٰ الرؤية، والمعنىٰ.

2- الصراع بين الأمل، والخيبة:

تتنقل القصيدة بين لحظات الأمل، والحنين مثل: أُغنية تهوىٰ صباح فيروز، والخيبة المؤلمة كدمع الورد عند أوّل خيبة فِي الصباح، واختباء الصباح بين دموعها هٰذا التذبذب الزمني، والمشاعري يخلق ديناميكية متجددة تعبّر عن حالة الحيرة، وعدم الاستقرار الوجودي.

3- الصراع بين الإرادة، والقدر:

الحب فِي القصيدة يصوَّر كحب ماكر يتسلل إِلىٰ جسد حائر مما يجعل الذات فِي صراع بين الرغبة فِي التحرر من هٰذا الحب الماكر، والقبول بالاستسلام له، وهو استعارة للصراع الوجودي بين الإرادة الحرة، والاستلاب الّذِي يعانيه الإنسان

لعل من خلال دراستي لهذه الأبعاد مجتمعة يشكل صراعًا ديناميكيًا داخليًا ينبض فِي بنية النص، ويمنح القصيدة توترها الدرامي العميق فِي هٰذا الصراع يمكن الإشارة إِلىٰ فلسفة سارتر الّتِي تحدثت عن الذات المنقسمة، والّتِي تعيش فِي حالة انقسام بين الوجود لذاته، والوجود للآخر، وهو صراع مشابه هنا حيث تحاول الذات تأكيد وجودها رغم كُلّ أشكال الاستلاب.

الخاتمة مرآة الوجود:

تغدو قصيدة نبض فضاء مفتوحا يتجاوز حدود النص ليصبح مرآة لأسئلة الإنسان الكبرىٰ إذ تنبض كُلّ كلمة فيها بقلق الوجود، ورغبة الخلاص، وتعيد للقارئ وعيه بحضوره الهش أمام تيارات الزمن، والشعور فيتحول النص إِلىٰ تجربة وجودية متكاملة لا تقف عند حدود الإحساس الجمالي بل تمتد لتلامس البعد الفلسفي العميق فِي جدلية الحياة، والموت، والغياب، والحضور فتغدو القصيدة فِي النهاية فعلا تحرريا يوقظ فينا نبض السؤال، ويدفعنا إِلىٰ إعادة صياغة علاقتنا بالعالم من جديد.

***

د. آمال بوحرب - باحثة، وناقدة

........................

نظرة حائرة

في غفوةِ القلب

هناك حيث الانتظارات المملة

أُنثىٰ يلملمُ الخجلُ خدَها،

وَ تنشرُ مع الرّيحِ أَغاني العطر المنسية..

ثُمَّ غنىٰ لها دمع الوردِ

عند أَولِ خيبةٍ في الصباح،

وَ في الليل...

حكايةٌ ضائعةٌ بين وسادةٍ

قطّعَتْ وتينَ الحبِ..

ثُمَّ جعلت مني

أُغنيةً تهوىٰ صباحَ فيروز

وصباحَ بغداد

كقهوة قصيدةٍ تشتهي الغروب.

ياله من حبٍ ماكر

تسلل إِلىٰ جسدٍ حائر

يتوسل بصمتِه.. ثُمَّ ينادي

إِلىٰ ذاتهِ قائلًا

أَنا تلك النظرة التي تحيا

في بؤبؤ بصرك الأَعمىٰ

جادلتْ نعاسَ الفجرِ

ليغازلَها اختباءُ الصباحِ

بينَ دموعِها.

***

زينب غسان البياتي.

٢٠٢٤/٧/٢٧

 

في المثقف اليوم