قراءات نقدية
بولص آدم: بين الوحشية والصمود.. الجوع في شعر مروان ياسين الدليمي

في نصه الشعري "مدينة تتنفس بخبز غائب"، نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 17 آب/أغسطس 2025، يقدم الشاعر مروان ياسين الدليمي رؤية حية ومعبرة عن الجوع والتجويع، ليس كحاجة جسدية فحسب، بل كقوة مؤثرة على الروح والوعي، وصراع مستمر بين الوحشية والصمود. يكتب الدليمي من تجربة مباشرة عاشها في مدينة الموصل، حيث شهد سنوات الحصار والمعاناة، ما يمنحه مصداقية فريدة في نقل الألم الإنساني ومعايشة الكوارث، قبل أن يحولها إلى شعر يحمل أبعادًا سياسية، رمزية، وإنسانية في آن واحد.
الجوع في الأدب؟ غالبًا ما صُوّر كقوة مدمرة، كحالة تجرد الإنسان من كرامته وحرية إرادته. تجارب تاريخية مثل المجاعات التي فرضها النظام الستاليني في أوكرانيا (الهولودومور) أو حصار ستالينغراد على يد النازيين، أو حتى المجاعات التي عاشت فيها القرى والمُدن المعترضة في العالم. خلال صراعات مختلفة، توضح كيف يمكن للتجويع أن يصبح أداة لإخضاع الشعوب وكسر مقاومتها. وهنا يتقاطع الشاعر مع رؤية المفكرة هانا أرندت، التي ترى أن التجويع ليس فقط لإضعاف الجسد، بل لإذلال الروح وكسر إرادة البشر: "التجويع هو أداة لإخضاع البشر، ليس فقط لإضعاف أجسادهم، بل لإخضاع أرواحهم".
لكن مروان يذهب أبعد من البعد السياسي للتجويع، ليمنح الجوع بعدًا إنسانيًا وشاعريًا، حيث يصبح حيًا، يتنقل في الشوارع مثل حيوان شفاف، يعزف على وتر خفي، ويترك أثره على الأرصفة والأحياء المُدمرة. في هذه الصورة، يتحول الجوع من مجرد أداة لإخضاع الناس إلى كائن حيّ يراقب المدينة وسكانها، وهو تصوير أدبي يعكس إدراك الشاعر العميق لمعاناة البشر من الداخل، كما لو أن المدينة نفسها تعيش هذا الغياب وتتنفسه، فتتحول غزة إلى كائن حي قادر على الصمود رغم الظلام والجوع، وهو ما يتجلى في عبارة "غزة، مدينة تتنفس بخبز غائب".
الرمزية في النص واضحة: السماء التي تتحول إلى "عين زرقاء مملوءة بالحجارة" لا تراقب المدينة فحسب، بل تشهد على ألمها وصمودها، صامتة لكنها حاضرة. هذه الصور، واللغة الغنية بالحواس، مثل "تلعق الأرصفة الباردة" أو "تضع الشمس في يدها"، تمنح القارئ إحساسًا حيًا بالجوع والمعاناة، وتجعل المدينة والإنسان جزءًا من شبكة متكاملة من الرموز والشعرية. المفارقات التي يخلقها النص بين الحياة والموت، بين الضحك والخراب، بين الغيمة التي تسقي الوردة والأرض التي ترفع رأسها وسط الركام، تضيف بعدًا فلسفيًا عميقًا، يطرح سؤالًا وجوديًا عن قدرة الإنسان على صنع الأمل وسط الفقدان والحرمان.
الأسلوب الشعري عند الدليمي يعتمد على الإيقاع المتقطع والفواصل القصيرة، مع تكرار الكلمات والمقاطع، مما يخلق إحساسًا بالمراقبة والتأمل الشخصي. كما يبرز النص قدرة الإنسان على الصمود، فقد يصف الجوع بأنه أقوى من السلاح، لكنه لا يستطيع أن يسرق الأغنية أو الابتسامة أو الإرادة. هنا يتحول الجوع من مجرد أداة للقهر إلى رمز مزدوج: قوة مدمرة، ومرآة لصمود الإنسان وإبداعه.
تجربة الشاعر الشخصية تضيف قوة إضافية للنص؛ فالدليمي لم يكتب عن الجوع من مسافة آمنة، بل عاش سنوات الحصار في الموصل والعراق، وكان شاهداً على صدمات الحرب والتجويع اليومي. هذا الواقع المباشر أعطى نصه عمقًا وجدانيًا لمجرد أن يحكي عن غزة، مدينة تتعرض للحصار والمعاناة، حيث يصبح الكتابة فعلًا إنسانيًا يتجاوز الإبلاغ ليصبح شهادة على الصمود والحياة وسط القسوة.
في الختام، ينجح نص "مدينة تتنفس بخبز غائب" في تقديم الجوع والتجويع ككائن حي يمتد أثره على الروح والمدينة، ويجمع بين الشعرية، والرمزية، والبعد السياسي، والإنساني. النص يجعل من تجربة الفرد والمجتمع نافذة لفهم أعمق لمعنى الصمود وسط الوحشية، ويجعل من الكلمات مساحة للحياة والابتسامة والأمل، رغم الغياب الدائم للخبز، وكأن المدينة نفسها تصرخ في وجدان القارئ عن حقوق الإنسان وكرامته، وتعلن أن الحياة، مهما اشتدت الوحشية، قادرة على أن تستمر.
***
بولص آدم
..................
للاطلاع على قصيدة: مروان ياسين الدليمي: مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب
https://almothaqaf.org/nesos/982907