قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لنص "بلاغة عينيك"

هذا النص الشعري لدلال برّو الساحلي، بعنوان «بلاغة عينيك»، يقدم تجربة لغوية مركّبة تجمع بين الصراخ السياسي والوجد الشعري، في إطار خطاب يستدعي الذاكرة الجماعية والوجدان القومي. تهدف هذه الدراسة إلى قراءة النص قراءة متعددة المستويات اعتماداً على المنهج الرمزي، والمنهج الأسلوبي، والتحليل النفسي، والمنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي). سأحاول استجلاء دلالات الصور البلاغية، وآليات التشكيل الأسلوبي، وحضور الصدمة واللامرئية النفسانية، إضافة إلى كشف أفق المعنى الذي يفتح عليه النص في ضوء سياقه الضمني.

1. الإحالة السياقية والقراءة الأولية:

- النص يشتغل كبيانِ صرخةٍ تجاه حدثٍ عنيفٍ - يُحيل إلى مآسي الحرب والدمار والاحتلال - لكنه لا يذكر أسماء تاريخية محددة خارج إشارات عامة (غزّة، القدس) وعبارات تفضح «جامعة الخيانة». هكذا يكون السياق محملاً بالإيحاءات السياسية والدينية والقومية، دون أن يتحول إلى تقريرٍ أو خطابٍ مباشرٍ فقط؛ بل يُحافظ على نسقٍ شعري يقوم على الاستدعاء والإيحاء.

- القراءة الأولية تكشف نصاً يتأرجح بين النبرة التنديدية والأسلوب الاستبطاني؛ إذ تحضر لغة الاتهام والاحتجاج في استهلاله (هل لوّحت قارعة الطريق...)، وتحضر أيضاً لغة التمجيد والتضحية (الأكفان الجميلة مراسينا). هذه التناصية بين الهول والبطولة تشكل جوهر التوتر الدلالي في النص.

2. المنهج الرمزي: قراءة الرموز الرئيسة.

- الماء والقدس:

جملة «فهذا الماء لنا، كما لنا القدس السماوية...» تُسقط الماء والقدس في مقامين رمزيين: الماء رمز للحياة والهوية والانتفاضة على الحرمان، والقدس رمز للقداسة والانتماء التاريخي. الربط بين الماء والقدس يشي بتعبير ذي بُعد وجودي: الماء ليس مجرد مادة، بل هو امتلاك حضاري- روحي. بهذا يصبح النزاع على الماء نزاعاً على الوجود.

- الدم والأكفان:

الدم هنا ليس مجرد مشهد مادي بل «آلة تشييد هوية»؛ فـ«سقوط دم الشهادة لنا احتراف» يحوّل الموت إلى مهارة تاريخية/رمزية. الأكفان «جميلة» وتُسمّى مراسٍ - رمزية المأساة تتحول إلى شعيرة فخرية، ما يعكس آلية تحويل الألم إلى مجد جماعي.

- الراية البيضاء والأميرة غزّة:

الراية البيضاء رمز للاستسلام، والنفي الصريح لها («لا لن نرفع خزية الراية البيضاء») هو الإعلان عن القطيعة مع الاستسلام. تسمية «الأميرة غزّة» تبني تأليهًا بطوليًا للمكان/المرأة - وهي هنا حامل رمزي لمقاومةٍ أنثوية/قومية.

- «جامِعة الخيانة»:

هذه الصورة الرمزية (جعل الخيانة جامعة) توظف السخرية والاتهام البنيوي، لتؤسس عالم نصي تحكمه أخلاقياتٌ لصيقة بالانقسام بين الخائن والوطني. استعمال كلمة «جامعة» يوحِي بأنّ الخيانة منهجية مؤسسية، وليست فعل فئة هامشية.

3. المنهج الأسلوبي: البنية اللغوية والبلاغية

- الأسلوب والتراكيب:

النص يتصف بتناوب بين الأسئلة الاستنكارية («هل لوّحت...؟») والبيان الاحتجاجي، مع ميل إلى الجمل الفعلية السريعة التي تخلق لحن نَفَسَيّ متسارع. هناك أيضاً توظيف للجمل الانفصالية والقطع (***)، وهي وسيلة لتنظيم الوحدة الدلالية وإعطاء كل مجموعة من الصور مجالها.

- الصور البلاغية:

تتضامن الاستعارة، والتشخيص، والجناس الصوتي، والتضاد لإنتاج طاقة إيقاعية وسيميائية: مثلاً «العصافير بأعلى زقزقة كصراخ العبير» هي استعارة مركبة تنتقل بالعصافير من مشهد بريء إلى مشهد مأساوي مُشترك مع الصراخ. التورية والتضليل الصوتي في عبارة «جامِعة.الخيانة» تضيف طبقة نقدية للفظ.

- الإيقاع واللحن الصوتي:

اعتماد تراكيب قصيرة/متوسطة يمنح النص خاصية الإيقاع المنفعل، وقد استعانت الشاعرة بالتكرار (غزّة، غزّة) لخلق مقامٍ غنائيّ يرسّخ الفكرة في ذهن القارئ، كما يساهم تكرار الحروف الساكنة والمتحركة في رفع حدة الصوت الشعري.

4. القراءة النفسية: آليات الصدمة والهوية الجماعية

النص يشتغل كرد فعل على حدث صادم جماعياً؛ لذلك تبدو كثير من معالمه ناتجة عن آليات نفسية متوقعة: التبرير الأسطوري للموت، تحويل الألم إلى قيمة (تحويل الشهادة إلى «احتراف»)، وتشييد سردية مقاومة تستخدم عناصر الفخر والقداسة.

- أنماط الدفاع النفسي:

- التبرير الرمزي: عندما يصبح الموت «احترافاً»، فالمجتمع يبرر الخسارة بتأصيلها ثقافياً.

- النفي والتأكيد: رفض الراية البيضاء هو نمط نفي الاستسلام، ومن ثم تأكيد الهوية القتالية.

- التأليه والرمزية المأنسة: تسمية المكان أميرة وتحويل الأكفان إلى مراسٍ يعملان كآليات لإضفاء معنى على الفقد.

- الصدأ النفسي الجماعي:

النص يكشف عن صدمة جماعية متأصلة تتجلى في اللغة المضاعفة للتنديد والاستدعاء الطقسي للمأساة. هذا النوع من النصوص يساعد الجماعة على إعادة بناء الوعي عبر الشعر: هو وسيلة للتذكّر والمصالحة مع الألم.

5. الهيرمينوطيقا: آفاق التأويل والتعدد الدلالي:

من منظور هيرمينوطيقي، يُفترض أن النص ليس مغلق الدلالة؛ بل يفتح أفقاً لتأويلات عدة تبعاً لأفق القارئ. هناك تناظر بين ما يقوله النص وما يتركه غير مقول - المساحات الصامتة، والإشارات الجزئية، والتراكيب الاستنكارية - وهذه الفراغات تحتمل إسقاطات قارئية تتراوح من قراءة قومية إلى قراءة نقدية لِلَمَحَة السلطة.

- أفق النص وأفق القارئ:

أفق النص: يتجه صوب تجييش المشاعر القومية وبيان أن المجزرة ليست مجرد حدث بل تختزل شروط الهوية.

- أفق القارئ: قارئٌ مختلف الخلفيات قد يقرأ النص كموقف إنساني ضد العنف، أو قد يقرؤه كمقطع دعائي سياسي حسب تجهيزه المعرفي والسياسي.

- التأويل السياسي والأخلاقي:

النص يمارس وظيفة أخلاقية: يدوّن موقفاً من العنف، لكنه في الوقت ذاته يشيع خطاب تكريس للشهادة والموت البطولي. هكذا يظهر سؤال أخلاقي: هل يتحول الشعر إلى تطبيع للألم عبر تمجيده؟ أم أنه يؤدي وظيفة وقائية/تذكيرية؟ الهيرمينوطيقا تتيح قراءة مزدوجة: تأييدية نقدية.

6. الخلاصة والتوصيات النقدية:

تُظهر قراءة النص باستخدام المناهج الأربعة أن «بلاغة عينيك» نص مشحون رمزياً ووظيفياً؛ إنه يضفي على الواقع المأساوي بعداً شعرياً يؤسس للذاكرة والمقاومة، وفي الوقت نفسه قد يعيد إنتاج آليات السرد البطولي التي تُمجّد الموت. قوتان رئيسيتان تكمنان في النص:

1. قوة الصورة واللغة، حيث تَبني الشاعرة مناخاً شعرياً موحياً ومؤثراً.

2. قوة الصوت الاحتجاجي الذي يحافظ على وضوح الموقف في مواجهة العدمية.

ومع ذلك، هناك ملاحظات نقدية بناءة:

- ميل إلى التأطير الخطابي: أحياناً يتحول النص إلى بيانٍ أكثر منه إلى تجربةٍ شعريةٍ محضة، مما يقلل من المساحة التأملية الداخلية.

- خطر الأسطرة: تحويل كلّ فقدٍ إلى شرف يمكن أن يؤدي إلى مقاربة تقود إلى تطبيع الاستشهاد.

- توصيات بحثية:

مقاربة مقارنة مع نصوص نسائية عربية تناولت ذات الموضوع (غزّة/القدس والمأساة) لاستجلاء خصوصية خطاب الشاعرة دلال برّو الساحلي.

- قراءة سوسيولوجية للتشييد الخطابي للشهادة والذاكرة في الشعر المعاصر.

تحليل سردي لغوي أعمق للعلاقات الصوتية والإيقاعية عبر استخدام أدوات تحليل نصي وبرمجيات معالجة اللغة.

- خاتمة:

تستدعي «بلاغة عينيك» قراءَةً متعدّدة الطبقات: فهي نص متحرّك بين الاحتجاج والتأبين، بين السجلّ السياسي والوجودي. إن المناهج الرمزية والأسلوبية والنفسية والهيرمينوطيقية مجتمعة تمنحنا وسيلة لفهم كيف يصوغ الشعر الذاكرة ويُعيد إنتاج المعنى في لحظات العنف. ولأن الشعر هنا ليس مجرد خطابٍ جماليّ، بل فعلٌ زمنيّ يُشارك الجماعة في استرجاع نفسها وصوغ وعيها، فإنّ مهمة النقد هي الحفاظ على توازٍ بين الإعجاب بالقيمة التعبيرية وطرح أسئلة نقدية أخلاقية حول مغزى تمجيد الفقد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

.........................

بلاغة عينيك

هل لوَّحَتْ قارعة الطريق بِمنديلها

بِهاجس مدينة، قتلوا أطفالها ...

هل قَطَفتْ رحيل نذْر فَكانتْ أرْوقَة الموت جائِزتها؟

بِحرق نساء وشيوخ وأوزار محرقتها ...

وفضحتْ مَستور « جامِعة.الخيانة »

التي تسعى لِأطماع عِبْريّة وعربيّة ...

***

فهذا الماء لنا،

كما لنا القُدس السَماويّة...

ألا ترى العِزّة بين أيدينا،

فيا لِهول المَجازر الوحشيّة...

فسقوط دم الشهادة لنا احترافٌ

و الأكفان الجميلة مراسينا ..

يتسابقُ أبطالها على مَراسم الشوطئ،

يُسطّرونَ اضْطِهاد الغُزاة والوثَنيّة ...

فالأَميرةُ غزّة ثم غزّة، ثائرة الفِداء

و العصافير بأعلى زقْزقة كَصُراخ العَبير:

«لا لنْ نَرفع خِزْية الراية البيضاء »...

***

دلال برّو الساحِلي

 

في المثقف اليوم