قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: نشيد الضوء: بين الغربة والخرائط ورؤيا الشعر

دراسة نقدية تحليلية في ضوء المناهج التأويلية والرمزية والسيميائية:
1 ـ مدخل تأويلي: تفتتح الشاعرة جهاد المثناني نصها بنداء داخلي يتخذ شكل "الصوت"، وهو المفتاح التأويلي المركزي الذي يرافق القصيدة حتى نهايتها. هذا الصوت ليس مجرد حامل للكلمات، بل هو الجوهر الوجودي الذي يفتح للذات إمكانيات البوح والإنصات. في التأويل الهيرمينوطيقي، يصبح الصوت بمثابة أفق للفهم: يُشَكِّل النص في وعي القارئ وينفتح على معنى يتجاوز اللغة نفسها. إننا بإزاء نص يعلن من البدء أنّه أكثر من قصيدة؛ إنه مشروع للإنصات إلى ما وراء الكلمات.
2 ـ البنية الرمزية:
القصيدة تزخر برموز متوالدة:
- الصوت: رمز للكينونة والهوية وللكشف الشعري.
الخريطة: ليست جغرافيا، بل جغرافيا الذاكرة والجرح والبحث عن الوطن.
- المشكاة: رمز صوفي للنور الباطني، يعيدنا إلى الآية القرآنية “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح…”.
النخل والطين: رموز الانتماء، الأصالة، والجذور.
الضوء: رمز الخلاص، الانبثاق، والرؤيا.
تتضافر هذه الرموز لتُحيل إلى جدلية الانتماء والغربة، الجرح والأمل، الظلام والضوء.
3 ـ المنهج السيميائي:
من منظور سيميائي، يمكن النظر إلى النص بوصفه شبكة من العلامات التي تتداخل في ثلاث دوائر:
- الدائرة الذاتية: حيث تُعيد الذات كتابة أحزانها وأشواقها بلغة شعرية.
- الدائرة الكونية: الرموز الكونية (الشمس، الغيمات، النجوم) تمنح القصيدة بعدًا وجوديًا يتجاوز المحلي.
الدائرة الوطنية: العلامات المرتبطة بالبلاد، النخل، الطين، الخرائط… تشير إلى سياق وطني ـ سياسي، غير مباشر، لكنه متجذر في بنية النص.
4 ـ البنية الأسلوبية:
أسلوب القصيدة يقوم على:
- التكرار: (صوت، خرائطي، قصيدة…) الذي يولّد إيقاعًا داخليًا قريبًا من التراتيل الصوفية.
- المقابلات الثنائية: (الغربة/الانتماء، الضوء/الظلام، الجرح/الأمل) مما يضفي على النص طاقة جدلية.
- الصور الحركية: النص مشبع بالفعل (يُهدهد، يوزع، يريقني، يُعلّم…)، ما يجعل اللغة ذات طاقة دينامية، لا ساكنة.
5 ـ البعد النفسي والإيروتيكي المضمَر:
النص يكشف عن توتر نفسي عميق: الغربة التي تُرهق الذات، الحلم الذي يترنح، البحث عن الضوء الذي لا يتحقق إلا في اللغة. ثمة ملمح إيروتيكي باطني، لكنه غير مباشر: فالصوت يهدهد ويُراقص ويُناجي، ليصير الشعر نفسه بديلاً عن العناق الغائب. اللغة هنا ليست أداةً فحسب، بل حاضن عاطفي.
6 ـ البعد الديني والصوفي:
القصيدة مشبعة بإحالات صوفية: "المشكاة"، "الصلوات"، "النشيد"، "التنهيدة"، وكلها مفردات تتقاطع مع المعجم الروحي. الشعر هنا يمارس وظيفة صوفية: يكشف المستور ويعيد للحياة معناها الغائب.
7 ـ البعد الوطني:
في قلب النص يتجلى الجرح الجمعي، تقول:
"ولتدركوا أن البلاد قصيدة أسكنتها في الروح في عبراتي"
الوطن يُختزل إلى قصيدة، لكن هذه القصيدة ليست زخرفًا، بل دمًا ودمعًا وتاريخًا. النص يربط بين الشعر والهوية الوطنية، فيتحول الحلم الفردي إلى وعي جمعي.
8 ـ الخاتمة:
يمكن اعتبار "نشيد الضوء" قصيدة تقوم على الحلم باعتباره فعل مقاومة. هي قصيدة تُزاوج بين الذاتي والوطني، بين الرمزي والواقعي، بين الصوت الفردي والنداء الجماعي. وفي ضوء المناهج التأويلية والرمزية والسيميائية، يتضح أن النص ليس محض بوح وجداني، بل مشروع شعري متكامل يعيد بناء الذات والبلاد بالكلمات.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
...........................
نَــشِـــيــدُ الــضّـــوء
صَوتٌ
يُوشوِشُ للرُّؤَى آهَاتِي
تَــنهِيدةً حَـنّت إلى
النَّـايـــاتِ
*
ويُهدهِدُ الشَّوقَ الّذي فِي خَافِقِي
للأرضِ للأمطَارِ
للغَيماتِ
*
كَم ضِفَّةً ألقَيْتُـها بِخَرائِطِي
فَتعَثَّـرت بِالشّمسِ
فِي كَلمَاتِي
*
إنِّي أُشَكّـلُ في القَصائِدِ
لَهفَتِي
لمَواسِم التَّرحَالِ
في صَلوَاتِـي
*
وأذِيبُ فِـي وَهَجِ المَجَـاز
تَوَقُّدِي
لأُشَـكِّـل الأطفَالَ
مِن ضَحِكَـاتي
*
وأُعيدَ تَرتِيبَ الخَرائِطِ
فِي دَمِي
وأصُوغَ مِن وَهَـجِ الرُّؤَى
لَاءَاتِـي
*
صوتٌ
يُـوزِّعُ في المَـدَائِنِ غُربُـتِـي
ويُـرِيقُـنِـي
فِي غَفوَةِ المِشْـكــاةِ
*
إنِّي الّتِـي عَلّقتُ حُلمَ خَرائِطي
فَوقَ الضِّيَـا
للعَابرِينَ.. لِـذاتِــي
*
ودَعَوْتُ أسرابَ الحَمَامِ
سَنَابِـلي
أنْــبَــتُّــهُم كَالشّمسِ
فِي شُرفَاتِــي
*
إنٍّي وبَعض قَصَائدِي
حُلمٌ بَدا
وَجْــهًا يُــعَـــرّي خِـــسَّــةَ الِمرآةِ
*
يا أيُّــها الماشُونَ فَوق جِرَاحِنَا
لَا تَستَبـيحُوا فِـي المدَى
أنَّــاتِــي
*
ولْتُدرِكُــوا أنَّ البِلادَ قَصِيدَة
أسكَـنْـتُـها فِـي الرُّوحِ
فِـي عَبراتِـي
*
وكَـتبَتُـها بِالطِّيـنِ ذَاتَ تَوهّــجٍ
جَـمَّـلتُـها
بِالنّخلِ بالسَعفاتِ
*
صوتٌ
يُرمِّمُ فِـي المسَاءِ تَنهُّدِي
ويُعلّمُ الأسمَاءَ للطُّرقَـــــاتِ
*
هَل يُدرِكُ الدَّربُ القَديمُ مَواجِعِي
لِــيُـرتّـقَ الجُرحَ الْـ حَوَت خُطواتِـــي
*
كَم خطوَةً نَحو الضِّيَا لَاحَقتُـهَا
فَـــتَـبَـرعَمت فِـي المَـاءِ
كُـلّ جِــهاتــي
*
وتَعَلّقَـت بِالتّــيهِ بَعضُ مَواجِدِي
عِندَ اكـتِظَاظِ الرّيـحِ
فِـي الفَـلواتِ
*
إني وهَذِي الأرض مَحضُ قَصِيدَةٍ
صَـــوتٌ
يُــنَــاجِــي اللّحنَ فِــي النّغَمَاتِ
*
أرجُوحَـةٌ للحُبِّ تَعـبُـر خَـافِـقِــي
يَصحُو نَـشِـيدُ الضَّوءِ
فِـي نَـجـمَاتِـي
***
جهاد المثناني