قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة نقدية في قصة (الغاب) لموسى كريدي

الغرائبية العارية وانقطاع الأواصر السببية
توطئة: من الممكن للقاص أن يخوض تجربة صناعة الموضوعة القصصية دون الذهاب بها إلى خوارزميات مغلفة وعارية، خصوصا إذ ا ما كان الأمر متعلقا بحكاية قصصية ذا حبكة جدلية تتوزع بين حالات فنتازية وأخرى أشبه بالغرائبية المقطوعة في الوسائل والواصلات الدلالية المبرهنة في الظاهر الموضوعي والباطن لبفني. عبر هذا الصدد سوف نتناول نموذجا من القصة القصيرة التي جاءت تحت عنوان (الغاب) للقاص موسى كريدي، حيث سنعاين من خلال مفاصلها البنائية وأطوارها الأسلوبية كيفية إخراج حكاية قصصية ذا مكونات ممزوجة بين (الخفاء = التجلي) أو أحيانا دون شك تتحول إلى مستوى متصدرا توريات وتغطيات لا تمت للرمزية بصلة ما ولا من جهة كونها إحدى عروض المسرح الإيمائي نوعا ما. موسى كريدي يرى النص القصصي عبر قصته (الغاب) ثمة مجموعة دلالات متكونة من الظلال والتشظيات الحديثة المسكوبة في مقادير من الغرائبية والفتنازيا التي لا تقدم للقارىء أية كشوفات حقيقية من أثار ومشخصات (الحكاية = الخطاب) أي إننا وجدنا قصة (الغاب) عبارة عن حدوثات تفتقر إلى الوسائل والأواصر السببية في حصيلة انتقالات وتعشيقات المكونات النصية.
ـــ دهاليز المستهل السردي وفجوات التحقق الوصلي
منذ بداية المستهل الوظائفي للنص القصصي، ومجالات الوصف تمنحنا تلك الرقعة اللاممنوحة في التحديد الجهاتي (الزمن ــ المكان ــ منظور الرؤية) أي أن الممنوع التمثيلي في عملية التأشير النسقي، حلت في حوليات مندغمة وعلامات اللحظة المشروطة في شكها القضوي، ولدرجة أن القارىء يشعر بأن السارد المتمثل بالشخصية وكأنه في حالة حلمية ــ كابوسية ليس إلا ؟ لذا فإن الشكل المطروح بالأحوال يعكس مستويين: الأول، هو المتعلق بتلاحق الصور التي يبلورها الشكل السردي في مخيلة القارىء، وهذه الصور بدورها تترجم فيما تترجمه من فضاءات غير مكتملة دلاليا. أما المستوى الثاني: فهو المتعلق بالرؤية الغرائبية الموحدة ونقصد بها تلك البنية الاشعورية من لدن الحدوث النصي، إذ إنها بدت شديدة الإلتباس في وحدات محكومة بعابرية الرؤى الصورية الخارجة من الوعي التصويري وتمثيل المعنى، لنأخذ عدة أسطر من جمل ودوال البداية النصية للقصة ذاتها (في الفجر. بدءا من الخيط الأول للنور.. أمروني أن أقود عربة محملة بأشياء أريدها أن تكون خفية عن الأنظار. ضحكت ضحكة سوداء لفرط خوفي، وقالوا قبل أن أتحرك: ـ إياك والكشف عما في داخل العربة، فهنالك من سيطوح برأسك إن أعلنت عن حملك أو نكثن الموعد أو اتخذت سبيلا للهرب ما عليك إلا أن تصل إلى النقطة المعلومة، وتفرغ الحمولة وتعود. / 40 النص القصصي) من هنا يحق لنا القول بأن الانخراط في عملية مجهولة في محددات رؤوس المعرفات الخيوطية بدت وكأنها بالأساس ضمن عملية إنتاجية منزوعة النواة الانتمائي، وصولا إلى أن سلوك الأفراد مع الشخصية بدا وكأنه عدة خطوات في العلاقة باللازمن الوقائعي. فهي عملية محض قيودات تتعلق بخواص مخفيات غائية بصيغة الترتيب المتخيل: وإل لو عاينا دوافع الواقعة السردية جيدا، هل من الممكن أن يكون الشخصية جنديا مطمسا بأغلال تنفيذ الواجب أم هو رهينة وقعت ضمن ظروف قسرية بين أيدي عصابة مثلا ؟ الجواب أن سيان ما بين الأمرين فهناك وحدات سردية تكشف لنا كونه ذلك الأب الذي جاء باحثا عن ولده الجندي في أرض المعركة وأخرى تظهر للقارىء بأن الرجل هو من ضحايا العصابات المختصة بتهريب السلاح وأخرى تظهر إلا وكأنه محض متواليات حلمية قد جرت على أرض الوهم الكابوسي؟
1ــ الغابة ودوائر التحريفات الكابوسية:
لعل العلاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب في دلالات قصة (الغاب) ما هي إلا جملة من العلاقات المتشابكة بين حركية متعددة لأزمنة الفعل السردي فضاءاته المتداخلة. بلا شك أن زمن العرض الأحوالي ذي ثلاث أزمنة (زمن المغامرة ــ زمن الخوف ــ زمن التلاشي الحلمي) فزمن الخطاب في النص هو الأداة التي تتخطى بها زمن المغامرة، في حين يبقى زمن الخوف ملازمة ظرفية لإنجاز تحقق ما، إنطلاقا من زمن الكشف ذاته الذي يوشك أن يكون وهما ساحقا فيما يظل زمن الحلم الحلقة الواصلة بين كل أطراف الزمن: (توقفت عند التواءة لا ستعيد تنفسي، ثم سرت.. لم أزل هكذا، حين توقفت ثانية بعد أن أهتز قرص الشمس أعلى العربة على صوت الصهيل.. وحدست لحظتئذ لأني أحمل أعتدة./ص40 النص القصصي) أن عملية (المغامرة ـ الكشف) كلاهما خاضعا لمتواليات علاقة الصيغة الترتيبية على أن القصد من ورأهما هو استجلاء خواصية الشكل الخطابي وصولا إلى النظر في مكون الاسترسال السردي الذي هو استجابة لروابط التحقق في حدود الخصوصية الاخبارية في وحدة (وحدست لحظتئذ أني أحمل أعتدة ؟).
2 ـــ الإحالات السردية وفاعلية الوصف التشكيلي:
ينعطف بنا الراوي ــ الشخصية، نحو خاصية الوصف المضغوط بجملة إيحاءات وإيماءات دالة تبين لنا حضور الصورة الظلية للشخصية ومدى تنوعها الكيفي في صور حلمية وكأنها قادمة من (إحالات السرد) الذي يستعين بغواية الاندماج بين (السياق ــ الحضور الفعلي) وصولا إلى حركيات مراوية في رقع الطين: (تجمد ظلي في الطين ثم دنا من هيكلي رأس في خوذة وصاح بي: قف؟ كنت واقفا، تلك اللحظة بحذاء العربة، وعلى يميني يقف الحصان بلونه البني، وعرفه الأسود، أمرني المسلح أن أبرك فبركت.. سحبني من عنقي فانتصبت دون حراك.) وإذا ما استعنا بالدلالة الوصفية، يتوازى لدينا المجال بين حركية الظل وشبه مجموعة أشياء ترقد ببعثرة فوق قطع الطين للجندي. فالأرضية الفضائية المستوعبة في حدوثات المشهد هي الحوارية المتجسد ضمن إيقاعي (الظل ـ الجسد ـ خوذة ـ رأس ـ حصان) لذا الأمر بدا أكثر تلويحا نحو منطقة تزاوج (الخيال ـ الحقيقة) أي سرعان ما بدا مستوى الملامح إمكانية تتضح إلى مستوى يتجاوز المشهد ليقوم المحكي وصفا بالكشف عن زمن الرجل الظل الذي غدا جنديا في الواقع وبعد تطورات الشخصية في كونها مجرد حالات محكومة بحوليات الظل والضوء والظلام. تنزاح البنية السردية في حوادث الشخصية إلى خيارات أحادية في دخول الغابة بعد تفتيشه من قبل الجندي ورجمه بصياح المغادرة، ولكننا بعد دخول الشخصية إلى أجواء الغابة لا نعلم مدى حدوث تلك المحكيات التي راحت تتشاكل بمسيرة كابوسية أخذت تتفرغ منها وتتوالد غرائبية لا تصلها الأسباب والروابط والوسائل بل وحتى الدلائل أيضا: (في منتصف الليل لمحت كوخا مضاء من الداخل أحيط بماء وشجرة بلوط تقف في مدخلة مثل الحارس، أومأ لي فتى وسيم في الثالثة عشر من عمره. حار نظري، هل يعني هذا أن البني محجوز هنا وأن الكوخ هذا على ما يحيط به من اخضرار وماء وزاد ليس سوى معتقل ! شككت في الأمر كله، حتى زلت بي قدماي، لم أجد ما يمنع وقوفي بإزاء الباب، لمحته، كان فتى جميل الطلعة بهيا قريب الشبه بولدي، دنا مني، انفتح الباب دنوت أكثر، أن الفتى لا يعرف أباه. / ص42 النص القصصي) بهذه الطريقة من الشد الحدثي تتصاعد سمات التوتر بين لوحات المكان الفنتازي، ولكنها فنتازيا محفوفة بزمن منظور غرائبي مدعم بروح الضيق والإشكالية المحيرة. لذا يتبين لنا بأن الجندي ما زال يجثم على وجود ذلك الأب، من ناحية كونه يحمل الأعتدة في عربته. لا شك أن الفضاء القصصي في وسط أحداث الغاب تحولت بماهية موحشة إلى إرهاصات غرائبية وكابوسية متحكمان في زوايا نظر الشخصية التي غدت رصينة حوارية بين ذلك الجندي وثمة شخصية عملاقة تظهر من وسط ظلام الغابة: (دع هذا فهو ضال في غابة ترك وراءه زوجة وثلاث بنات ودكانا لصناعة الخشب، وراح يبحث عن ولده، لم استطع كتمان بهجتي فتحت كفي فسقطت العصا بقوة عليها وتركت خطا أحمر صرخ بي: ـ أفرغ حمولتك هنا يا أبله وأترك العربة والحصان وأعبر هذا الدغل. / ص43 النص القصصي).
ـ تعليق القراءة:
انطلافا من قراءتنا لقصة (الغاب) تتبين لنا مستويات الرسم التشكيلي في مجمل ممكنات السرد في النص، تاركين آليات وتأويل النص يشقان طريقهما نحو (الممكن ـ المحتمل) خصوصا وأن مواقف القصة ضاجة بالعديد من المؤشرات الأسلوبية النوعية، وخصوصا فاعليتها على تجسيد الفنتازيا ضمن المعنى المفتوح على الغرائبي المدعوم بفكرة المعادل الموضوعي الذي راح ينتج في سياق القصة ثمة حالات قصوى من غرائبية عارية تنقصها الكثير من الملامح الواقعية لكي تكون موضوعتها أكثر وصولا إلى جوهرية القراءة النقدية التي وجدت فيها مجرد غرائبية عارية بعد انقطاع الأسباب والوسائل الأكثر تكثيفا وإيحاءا ورمزا معادلا في حدود واقعية متخيلة بطريقة أكثر استعدادا لإثبات الواقع المؤول، لا أن يهرب القاص ونصه بوسائط وتراكيب تخلو من دلالات السبب والمسبب بصورة بنائية تعكس واقعها الحي وتثري مخيالها الرصين.
***
حيدر عبد الرضا