قراءات نقدية

سعاد الراعي: دقيقٌ في الرياح.. قراءة في القصيدة التي نثرت وعينا

للشاعر عطا يوسف منصور

انها قصيدةٌ كُتبت بمداد الوجع لا بالحبر، قصيدةٌ تُذيب المعنى في استعاراتٍ موجعة، وتزرع الوعي في قلب الريح. لم تكن صرخة شاعرٍ جريحٍ فحسب، بل شهادة عصرٍ مقلوب، تُكرَّم فيه الرذيلة وتُقصى الفضيلة، ويُصفَّق فيه للباطل بينما يُجهض الحق.

إنها أكثر من كلمات؛ إنها احتجاجٌ على صمتٍ خانع، وإيقاظٌ لوعيٍ تلاشى في زحمة الشعارات، ودعوةٌ لأن نرى الحقيقة ولو من خلال ما تذروه الرياح.

على قدرٍ من الدنيا امتياحي

بمنزلةِ المريضِ من الصحاحِ

بالتوقف عند مطلع القصيدة، يتضح للقارئ أن شاعرنا ينطلق برسالته الصريحة هذه من موقع الخيبة والخذلان، لا عن ضعفٍ ذاتي، بل عن مفارقة القدر في توزيع الحظوظ. فالشاعر " وربما الأمة كلها بصوته " تحيا على هامش العالم، كالمريض بين الأصحاء، مُهمّشٌ رغم استحقاقه.

وفي قوله:

وحظي في تعثره وحالي

دقيقًا صار يُنثَرُ في الرياحِ

نلحظ ترميزًا عميقًا للتلاشي، فالـ "دقيق" هنا، انما هو تصوير بليغ للفرد الذي سُحق بين رحى الظلم والخذلان، حتى لم يبقَ منه سوى ما تنثره الرياح، بلا أثر، بلا وزن، بلا قيمة.

ان القصيدة مشبعة بالبلاغة الجزلة: تشبيهات حية، واستعارات كثيفة، وكنايات موجعة، نجدها مثلًا في:

وترفعُ رايةَ الأرذالِ كيدًا

بأهلِ الفضلِ أو أهلِ الصَلاحِ

صورة قاتمة لانقلاب القيم، حيث تُكافأ السفاهة ويُقصى النبل. إنها مفارقة عصرٍ اختلّت فيه الموازين، وتسيّدت فيه الرذيلة على أنها قوة وتطور.

وفي قوله:

فذا زمنُ التفاخرِ والتباهي

بمولودِ الرذيلةِ والسِفاحِ

يُشخّص الزمن وكأنه كائن يفتخر بالعار، زمن يحتفل بالخطيئة كإنجاز! وهذه استعارة مُفزعة تُجسّد انحدار المجتمعات حين تفقد وعيها الأخلاقي.

القصيدة في رسائلها المباشرة والرمزية، تتجاوز السخط الشخصي إلى نقدٍ اجتماعيٍّ شامل. هي احتجاجٌ على حالة الانحطاط العامة التي سادت المجتمع العربي في بعض مراحله، خاصة حين غُيّبت القيم لصالح الشعارات الزائفة. الشاعر لا يهاجم أشخاصًا، بل يهاجم منظومةً متجذرة الفساد:

فهم جعلوا الفضائل موبقاتٍ

بميزان التطور والنجاحِ

هنا تكمن الحكمة الكبرى للقصيدة: تحذير من التطور الزائف، الذي يتنكّر للقيم ويُقدّس البهرج الفارغ. ما أكثر هذه المفارقة في واقعنا الحالي، حيث تُقاس الأمم بأبراجها لا بعقولها، وباقتصادها لا بأخلاقها.

كما يعيد الشاعر صياغة مثلٍ عربي معروف في قوله:

كلامُ الليلِ يُمْحى في الصباحِ

وهذه حكمة ساخرة تُشير إلى انفصال القول عن الفعل، والنفاق الذي صار دينَ السلطة وبعض سادات المجتمع.

كأنّ هذه الأبيات كُتبت هذا الصباح، ونحن نُشاهد – على شاشاتنا وفي شوارعنا – الأراذل يُكرّمون، والعلماء يُهمّشون، والجهل يُسمّى ثقافة وحداثة. القصيدة تُجسّد زمنًا استبطن الشاعرُ معالمه، وهي ذاتها ملامح واقعنا اليوم:

ـ تطبيلٌ للرداءة

ـ خيانةٌ للقيم

ـ ترفيعٌ للتافهين

ـ إسكاتٌ للصادقين

إنها مرآة عميقة تُرينا بشاعة واقعٍ اختلّ فيه معيار الفضيلة.

يتأثر الشاعر بشل ملحوظ بأسلوب معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري في الصدح بالحقيقة ولو كانت مُرّة، وفي الالتزام بقضية الإنسان لا السلطة. فهو يمتلك نبرة احتجاج قريبة من التيار النهضوي العراقي، المفعم بالحكمة والتحدي. كما أنه يقارب أسلوب أحمد مطر لاحقًا في نبرة السخرية من الواقع وفضح الزيف المغلّف بلغة متقنة.

يستخدم الشاعر مفردات قريبة من السواد الشعبي، مثل "اللخناء" و"النطيحة"، لكنه يرفعها بأسلوبه الفخمٍ ببلاغة سامقة، وهذا مزيجٌ فريد من العامية الفصيحة، إن جاز التعبير، التي تمنح النص عمقًا مزدوجًا بين بساطة المعنى وقوة اللفظ.

قصائد كهذه ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورة وعي. إنها صفارة إنذار توقظ النائمين من غفوتهم، وتعيد التذكير بأن الصمت على الفساد خيانة:

كفى صمتًا على آثام قومٍ

أذلّونا وناموا بارتياحِ

القصيدة تنبهنا أن المجد لا يُهدى، والكرامة لا تأتي بلا جهد، والحرية لا تُمنح في خطاباتٍ بل تُنتزع بالوعي:

وأنّ المجد لا يوهبْ لقومٍ

ولا طيرٌ يطيرُ بلا جناحِ

هذه الخاتمة البليغة تختصر الحكمة العميقة في العمل، في السعي، في رفض الخنوع والاذلال.

هذه القصيدة تُعدّ وثيقة أدبية وفكرية تأريخية تُعيد صياغة الصراع الأزلي بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بلغةٍ بليغةٍ جزلة، ونَفَسٍ حزينٍ صادق. فيها تأريخ لواقعٍ لم يمت، وإن تغيرت أسماؤه، وتحذيرٌ من استمراء الصمت، ودعوةٌ للاستفاقة من سباتٍ طويل.

في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الانحطاط والتطور، تأتي مثل هذه النصوص لتُعيد بناء وعيٍ كاد ينهار، وتُضيء طريقًا لمن يريد أن يرى.

***

سعاد الراعي

2025.10.01

في المثقف اليوم