قراءات نقدية

رزق فرج رزق: أربعة وجوه للحب

"تشريح الشخصية وجماليات التلقي في الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار"

رواية (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) للأديبة المصرية هناء نور الصادرة حديثاً عن دار روافد للنشر والتوزيع ليست مجرد حكاية تُسرد، بل هي مختبر سردي معقد تُختبر فيه ذات القارئ وقناعاته بقدر ما تُختبر شخصيات الرواية، تبلغ جماليات التلقي ذروتها هنا من خلال تفكيك الكاتبة للحقيقة الواحدة، وعرضها كفسيفساء متعددة الألوان، كل لون يمثل وجهة نظر شخصية مختلفة، تاركة للقارئ مهمة تجميعها ورؤية الصورة الكلية، أو الاكتفاء بجمال القطع المتناثرة.

تعدد الأصوات السردية: الحقيقة المتشظية

الرواية مبنية على تعدد الأصوات السردية، حيث تُروى الأحداث من وجهات نظر الشخصيات الأربع الرئيسية، كل منها يحمل روايته (الحقيقة) الخاصة:

"ليلى": المدربة العالمية للتنمية البشرية، التي تبيع الوهم والثقة، لكنها في داخلها تعيش فراغاً وجودياً وشهوة لا تشبع، روايتها تبدأ بعد الصدمة، مما يجعل سردها مزيجاً من التبرير والبحث عن ذنب جديد.

"عادل": الطبيب الحزين، ابن الأسرة الأرستقراطية الذي أنهكته خيانات الحياة وموت الأحبة، سرده مليء باليأس والشك، ينظر إلى العالم من خلال عدسة التشاؤم والخيانة المتوقعة.

"عصمت": رجل الأعمال القاسي والعبقري، الذي يرى العالم كمسرح للعرائس (كما ورد في الصفحات 54-56) وهو من يحرك الخيوط، سرده مليء بالثقة والاحتقار، لكنه يكشف عن جروح طفولة وحاجة ماسة للحب.

"عايش": الشاب الفقير الذي كان على حافة الانتحار، ليجد نفسه فجأة في قلب الحدث، سرده هو الأكثر صدقاً وجرأة، ينظر إلى عالم "الأغنياء" من أسفل الهرم، محملًا بمرارة الحرمان وأمل الصعود.

هذا التعدد لا يقدم للقارئ "الحقيقة" بل "حقائق" متضاربة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل محققاً نفسياً عليه أن يقرر من يصدق، وأي الروايات أقرب إلى واقع هو نفسه يشارك في تشكيله.

حلقات درامية محورية: لحظات الانزياح والتلقي

هناك لحظات مفصلية في الرواية تعيد تشكيل فهم القارئ للأحداث والشخصيات:

الحلقة الأولى: انهيار حفل الزفاف (الفصول الأولى): هذه هي اللحظة التأسيسية، مشهد اقتحام عايش للحفل وادعائه حبه لليلى يُرى أولاً كعمل مجنون، لكن مع تقدم الرواية، نكتشف من خلال سرد عادل أنه ربما هو من دفع لعايش ليفعل ذلك كي يهرب من الزواج (كما يدعي عايش لاحقاً في فيديو على وسائل التواصل – الصفحة 53)، هذه الحلقة تضع القارئ في حالة شك دائم: من هو الضحية؟ ومن هو الجلاد؟

الحلقة الثانية: لقاء النهر (الصفحات 83-90): هذه هي ذروة جماليات التلقي، اللقاء على المركب بين الأربعة (عصمت، ليلى، عادل، عايش) يحول الرواية إلى مسرح، حوارهم الحاد، اعترافاتهم غير المكتملة، وقفز ليلى وعايش في النهر، كلها مشاهد مفتوحة للتأويل، هل قفزت ليلى لتنقذه أم لأنها وقعت في حبه؟ هل قبلته حقاً تحت الماء؟ مشاهد مثل هذه تترك للقارئ مساحة واسعة لملء الفراغات بناءً على انحيازاته هو.

الحلقة الثالثة: تسجيلات عصمت (الصفحات 109-110 و 124-125): اكتشاف عادل أن عصمت كان يتنصت على ليلى طوال حياتها ويكشف أسرارها، هي صدمة للقارئ كما هي لعادل، هذه اللحظة تهدم صورة ليلى (الملاك) تماماً وتكشف عن شخصية مظلمة ومتشبعة بالغرائز، القارئ الذي كان يتعاطف معها، يُجبر على إعادة تقييم كل ما قرأه من قبل من وجهة نظرها.

الحلقة الرابعة: مواجهة عايش لأهل ليلى (الصفحات 132-134): هنا يتحول التلقي من التعاطف مع "الضحية" الفقير إلى الإعجاب بـ"البطل" الذي يواجه النظام الطبقي، عرض عايش أن يكتب كل ما يملك لليلى هو تحول جذري في شخصيته، يدفع القارئ لتغيير نظرته عنه من (المخبول) أو (الضحية) إلى (الرجل الواعي) الذي يرفض أن يكون نسخة من عصمت.

الشخصيات كمرايا: أمام أي مرآة يقف القارئ؟

جمالية التلقي هنا تكمن في كيف تجبر كل شخصية القارئ على النظر إلى نفسه:

(ليلى) مرآة للنفاق الاجتماعي والهوة بين الصورة العامة والذات الخاصة، (عادل) مرآة لليأس والخوف من الحياة ومن المواجهة، (عصمت) مرآة للهوس بالتحكم والقوة، والجروح التي تختبئ وراء القسوة، (عايش) مرآة للغضب المكبوت، الحلم البسيط (جوارب جديدة – الصفحة 30)، والصراع من أجل الكرامة.

القارئ قد يرى جزءا من نفسه في إحدى هذه المرايا، وهذا الانحياز النفسي هو ما سيحدد أي حقيقة من حقائق الرواية سيميل إليها.

القارئ شريك في الاكتشاف

"الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار" هي رواية ما بعد حداثية بامتياز، إنها لا تقدم إجابات، بل تطرح أسئلة عن طبيعة الحقيقة، الحب، الطبقية، والذات، جمالية التلقي الأكبر التي تقدمها هناء نور هي تحويل القارئ من متلقٍ إلى شريك في الكتابة، حيث تصبح عملية القراءة هي عملية اكتشاف لا لأحداث الرواية فحسب، بل لذات القارئ وقيمه وانحيازاته الخفية، في النهاية، ليست الرواية من يجب أن تُفهم، بل القارئ نفسه هو من سيفهم نفسه بشكل أفضل بعد هذه الرحلة في متاهات النفس البشرية.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

 

في المثقف اليوم