قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية لقصيدة "باب الله" للشاعر محمد بنقدور الوهراني

هذه القصيدة لا تُقرأ بوصفها نصاً عن «باب» بالمعنى المادي، بل بوصفها استعارة كبرى للعبور الوجودي والمعرفي. إنها كتابة تنقل الباب من وظيفة الفتح والإغلاق إلى أفق التأويل، حيث يصبح السؤال عن المعنى أعمق من فعل الدخول نفسه. ومن خلال لغة مكثفة ورمز متعدّد الطبقات، يشتغل النص على توتر الإنسان بين المنع والانكشاف، بين المقدّس بوصفه حدّاً، والمقدّس بوصفه بصيرة، فاتحاً المجال لقراءة فلسفية وسيميائية تتقصّى ما تحت الجلد الشعري من قلق، وشغف، ورغبة في المطلق.

أولًا: مدخل هيرمينوطيقي – من العتبة إلى المعنى

قصيدة «باب الله» ليست نصاً وصفياً عن “باب” بقدر ما هي نصّ عتبة، حيث يتحول الباب من كونه عنصرًا معمارياً إلى مجاز كوني وأنطولوجي. إننا أمام شعر يشتغل على مفهوم العبور لا المكان، وعلى الإدراك لا الحركة.

هيرمينوطيقيًا، الباب هنا ليس ما يُفتح أو يُغلق، بل ما يُفهم. ومن ثم، فالنص يطالب القارئ لا بأن يطرق، بل بأن يكون بصيراً. هذه الإزاحة في وظيفة الباب تمثل مفتاح القراءة التأويلية:

الباب ليس انتقالًا من خارج إلى داخل، بل من السطح إلى الجوهر.

ثانيًا: تحليل العنوان – «باب الله» بوصفه شيفرة دلالية

العنوان تركيب إضافي شديد الكثافة:

١- باب: حدّ، فاصلة، إمكان عبور، عتبة معرفة.

٢- الله: المطلق، الغيب، المصدر، المعنى الأعلى.

دلاليًا، نحن أمام نفي الوسائط: لا باب إلى الله إلا الله نفسه. وهنا يتجاوز النص كل تصور ديني طقوسي مغلق، ليفتح أفقًا صوفيًا–معرفياً، حيث الإدراك يحل محل الطَرق.

ثالثاً: المستوى الرمزي – الباب (كنموذج أصلي)

في المخيال الإنساني:

١- الباب رمز للتحول

٢- ولادة جديدة

٣- امتحان وجودي

القصيدة تستثمر هذا الرمز، لكنها تفككه:

الأبواب الموصدة = الخرس، القمع، الخوف، الجمود

الأبواب المشرعة = الانكشاف، الهشاشة، القابلية للاحتراق

المفارقة الرمزية:

ما يُفتح لا يعني الخلاص، بل التعري.

رابعًا: البنية النفسية – قلق المعرفة وفتنة الانكشاف:

النص مشبع بتوتر نفسي عميق:

١- الخوف من الأبواب الموصدة (المنع، القمع)

٢- الخوف من الأبواب المفتوحة (الانكشاف، الاحتراق)

وهذا يعكس حالة الإنسان المعاصر:

١- لا يطمئن للغلق

٢- ولا يحتمل الفتح

إنه قلق وجودي بين المنع والحرية، بين الصمت والقول.

خامساً: البنية الدينية – قراءة غير أرثوذكسية للمقدّس

1. آدم وباب الجنة:

«آدم ترك باب الجنة مواربًا»

هذه جملة شديدة الجرأة الدلالية:

الجنة ليست مغلقة تمامًا

الخروج لم يكن قطيعة نهائية

النص يعيد تأويل السقوط:

ليس عقابًا فقط

بل بحثًا عن الأبواب الأخرى

2. الشجرة

حضور الشجرة كشاهد:

١- معرفة

٢- إثم

٣- ذاكرة

وهي الوحيدة التي تعرف الأسرار مع آدم:

المعرفة هنا مشتركة بين الإنسان والطبيعة.

سادساً: التحليل السيميائي

1. محاور الأدوار:

الدور التمثيل في النص

الفاعل الإنسان / الشاعر / العاشق

الموضوع باب الله (المعنى، المطلق)

المرسل القلق الوجودي / الرغبة في المعرفة

المتلقي الذات الإنسانية الباحثة

المساعد البصيرة، الشعر، العشق

المعارض اللغة الجاهزة، الطَرق، العمى

2. محور الرغبة

الرغبة ليست في الدخول، بل في الفهم دون وساطة.

سابعًا: تحليل المفردات – اشتغال اللغة بوصفها دلالة لا زخرفة

1. «ساحر»

نقل اختراع الباب من العقل الهندسي إلى الخيال السحري.

2. «صبابة»

ليست حبًا عاديًا، بل:

شوق موجِع

تعلق يهدد الذات

3. «خرساء»

إسقاط الصوت عن الباب = إسقاط الحوار = انسداد المعنى.

4. «قابلية للاحتراق»

المعرفة هنا نار، لا طمأنينة

ثامناً: المستوى الجمالي – اقتصاد الصورة وكثافة الرمز

النص:

١- لا يفرط في الاستعارة

٢- يعتمد التركيب الدلالي

٣- يشتغل على المفارقة لا الزينة

٤- الجمال هنا وظيفي: يخدم الفكرة، لا يزاحمها.

تاسعًا: الأنساق المعرفية الحاكمة للنص

1. نسق صوفي: البصيرة قبل الطقس

2. نسق وجودي: الإنسان ككائن سؤال

3. نسق إنساني: نفي الاحتكار الديني للمعنى

4. نسق نقدي: تفكيك السلطة الرمزية للأبواب.

عاشراً: مقارنة المستويات

1. المستوى الانفعالي

١- توتر هادئ

٢- شغف غير صاخب

٣- قلق معرفي

2. المستوى التخييلي

تخييل ذهني لا بصري

صور ذهنية فلسفية

3. المستوى العضوي

النص يتنفس كوحدة واحدة

لا قفزات مفتعلة

انسجام داخلي بين الفكرة والصورة

4. المستوى اللغوي

لغة شفافة

مفردات قليلة، دلالات كثيفة

غياب الزخرف البلاغي لصالح العمق

خاتمة تأويلية:

قصيدة «باب الله» ليست عن الدخول إلى المقدّس، بل عن التحرر من وهم الأبواب. إنها نصّ يُعيد الاعتبار للبصيرة، للشعر، للعشق، بوصفها طرقًا غير مؤسساتية نحو المعنى.

باب الله لا يُطرق،

لأن الطرق اعتراف بالمسافة،

والبصيرة إلغاء لها.

وهو بذلك نص فلسفي–شعري عميق، يضع القارئ أمام امتحان وجودي:

هل تريد أن تدخل، أم أن تفهم؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم