قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسَّعة لقصيدة أمل دنقل بعنوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"

في زمنٍ تتكشّف فيه الهزائم لا بوصفها انكسارًا عسكريًا فحسب، بل كعارٍ معرفيٍّ وأخلاقيٍّ يصيب الوعي الجمعي في جوهره، تنهض قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» لأمل دنقل بوصفها نصًّا مفصليًّا في تاريخ الشعر العربي الحديث، ونقطة اشتباك حادّة بين الشعر والتاريخ، وبين الكلمة والسلطة، وبين الرؤية والعمى. فهي ليست مجرّد تعبير شعري عن لحظة انكسار قومي، بل بناءٌ جماليٌّ مركّب يشتغل على مساءلة الوعي العربي في لحظة سقوطه، وعلى تفكيك آليات التزييف، والصمت، وإنكار الحقيقة.

تستعيد القصيدة رمز زرقاء اليمامة من عمق الذاكرة التراثية، لا لتعيد إنتاجه بوصفه أسطورة سردية، بل لتحوّله إلى أداة نقدية كاشفة، وإلى ضمير معرفيٍّ مُهمَلٍ يرى الكارثة قبل وقوعها ولا يجد من يصغي إليه. ومن هنا، تتجاوز القصيدة حدود الرثاء والبكاء، لتغدو خطاب إدانة أخلاقية، ومحاكمة رمزية لتواطؤ الجماعة مع العمى، ولعلاقة السلطة بالحقيقة، وللمسافة الفاصلة بين الرؤية والفعل.

تنطلق هذه الدراسة من مقاربة نقدية شاملة، تتكامل فيها المناهج الأسلوبية والجمالية والفكرية والتأويلية، من أجل تفكيك بنية النص في مستوياتها اللغوية والبلاغية والإيقاعية، والكشف عن رؤيته الفنية، وأبعاده الفكرية والفلسفية، وسياقاته التاريخية والثقافية، وبُناه النفسية والسوسيولوجية والسيميائية. ولا تسعى هذه القراءة إلى إسقاط أحكام خارجية على النص، ولا إلى اختزال القصيدة في ظرفها السياسي المباشر، بل تهدف إلى قراءة النص بوصفه كيانًا دلاليًّا مستقلًّا، قادرًا على توليد معانٍ متجددة، والانفتاح على تأويلات متعددة، دون أن يفقد توتّره الأخلاقي والإنساني.

وعليه، فإن هذه الدراسة تحاول أن تبرهن أن «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» ليست قصيدة عن الهزيمة فحسب، بل عن شروطها العميقة؛ ليست نصًّا في الحزن، بل في المساءلة؛ وليست صوت شاعر منفرد، بل صدى ضمير جمعي مأزوم، ما زال راهنًا في أسئلته، وملحًّا في نداءاته، وقادرًا – إلى اليوم – على تعرية العمى كلما أعاد التاريخ إنتاجه بأقنعة جديدة.

أولاً: الأسس اللغوية والبلاغية

1. سلامة اللغة وبنية الأسلوب:

لغة دنقل في القصيدة فصيحة، مشدودة، صارمة، تخلو من الترخّي الزخرفي.

التراكيب تتأسس على:

١- جمل قصيرة، تقريرية أحيانًا، لكنها مشحونة بالتوتر

٢- هيمنة الفعل المضارع، بما يمنح النصّ طابع الاستمرار والآنـية

٣- استخدام المقاطع الندائية والخطابية:

أيتها العرّافة المقدّسة…

الانزياح هنا ليس لغويًا زخرفيًا، بل انزياح دلالي: الكلمات مألوفة، لكن علاقاتها غير مألوفة، تُنتج صدمة الوعي لا متعة السطح.

2. فصاحة اللفظ ووجاهة التعبير:

يتحقق التوازن بين اللفظ والمعنى عبر:

اقتصاد لغوي حاد.

كلمات ذات حمولة تاريخية وأخلاقية: المدينة – السيوف – العيون – الزيف – الصمت

اللغة ملائمة تمامًا لموضوع التحذير، الاتهام، والفضح، ولا تسعى إلى الغنائية المجردة، بل إلى إدانة الواقع.

3. الإيقاع والمعمار الصوتي

القصيدة مكتوبة على شعر التفعيلة، بإيقاع متكسّر، يوازي انكسار المعنى والتاريخ

التكرار (النداء – الاستفهام – الصيغ الاحتجاجية) يؤدي وظيفة نفسية وسيميائية

الموسيقى الداخلية ناتجة عن:

١- التوازي التركيبي

٢- الجناس الخفي

التقابلات الصوتية (الحدة/الخمود).

الإيقاع هنا ليس للإنشاد، بل للإنذار.

ثانياً: الأسس الجمالية والفنية

1. البنية الفنية للنص.

القصيدة تقوم على بنية درامية خطابية:

١- متكلم: الشاعر/الضمير الجمعي

٢- مخاطَب: زرقاء اليمامة (بصفتها رمز الرؤية)

٣- غائب/مدان: السلطة – الجماعة الصامتة – التاريخ الكاذب

لا سرد خطي، بل مشاهد احتجاجية متقطعة، تشبه المحاكمة الرمزية.

2. الرؤية الفنية:

رؤية دنقل تراجيدية أخلاقية:

العالم لا يسقط بسبب القوة، بل بسبب العمى المختار

الشكل (القصيدة الصارخة) منسجم تمامًا مع المضمون (فضح الكذب الجمعي).

3. الطابع الإبداعي والانزياح الجمالي:

الإبداع هنا يتجلى في:

إعادة توظيف الرمز التراثي (زرقاء اليمامة) في سياق معاصر

تحويل الأسطورة من حكاية إلى أداة مساءلة سياسية وأخلاقية

تجاوز الرثاء إلى الاحتجاج الجمالي

ثالثاً: الأسس الفكرية والفلسفية

1. الموقف الفكري:

القصيدة تطرح أسئلة:

١- من المسؤول عن الهزيمة؟

٢- هل العمى قدَر أم خيار؟

٣- ما قيمة الرؤية إن لم تُصدَّق؟

إنها قصيدة إدانة أخلاقية للوعي الزائف.

2. الأفق المعرفي:

يتقاطع النص مع:

١-التراث العربي (زرقاء اليمامة)

٢- الفكر النقدي الحديث (تفكيك خطاب السلطة)

٣- روح الحداثة العربية الملتزمة

3. البنية العميقة للمعنى (الهيرمينوطيقا):

زرقاء اليمامة ليست:

١- شخصية أسطورية فقط

بل:

٢- ضميرًا معرفيًا مغيَّبًا

٣- صورة للمثقف الذي يرى ولا يُصغى إليه

٤- البكاء ليس ضعفًا، بل اعتراف متأخر بالجريمة.

رابعاً: الأسس التاريخية والثقافية

1. سياق النص

كُتبت بعد نكسة 1967

في مناخ عربي مشحون بالشعارات الكاذبة والانتصارات الوهمية.

2. تطوّر النوع الأدبي.

القصيدة تمثل:

انتقال الشعر من الغنائية إلى القصيدة-الموقف

من التعبير الذاتي إلى الخطاب الجمعي النقدي

3. الارتباط بالتراث

التفاعل مع التراث:

١- ليس تمجيدًا

٢- بل إعادة مساءلة التراث هنا يُستدعى ليُدين الحاضر.

خامساً: الأسس النفسية

1. البنية الشعورية:

القصيدة مشبعة بـ:

١- الغضب

٢- القهر

٣- الشعور بالذنب الجمعي

2. تحليل الشخصيات:

١- زرقاء اليمامة:

٢- تمثل الذات العارفة المعزولة

الجماعة:

٣- مثل اللاوعي الجمعي المقموع أو المتواطئ

3. النبرة النفسية:

النبرة العامة:

١- حتجاجية

٢- مريرة

٣- خالية من التعزية

سادساً: الأسس الاجتماعية والسوسيولوجية

1. علاقة النص بالواقع الاجتماعي

النص ينتقد:

١- الاستسلام

٢- تقديس السلطة

٣- ثقافة الصمت

2. الخطاب الاجتماعي يفكك:

١- خطاب الانتصار الزائف

٢- أخلاق القطيع

3. الشاعر كفاعل اجتماعي:

١- دنقل:

٢- لا يهادن

٣- لا يبرر

٤- يقف ضد الجماعة حين تخون الحقيقة

سابعاً: الأسس السيميائية

1. الرموز

زرقاء اليمامة: الرؤية/المعرفة

العيون: الإدراك

السيوف: العنف الأعمى

2. شبكات التقابل

١- الرؤية / العمى

٢- الصدق / الزيف

٣- التحذير / الإنكار

3. النظام الرمزي

الفضاء الشعري:

١-؛فضاء تهديد

٢- فضاء محاكمة تاريخية

ثامناً: الأسس المنهجية

1. المنهج

الدراسة تعتمد:

١- المنهج الأسلوبي

٢-المنهج التأويلي

٣- التحليل السيميائي ضمن مقاربة تكاملية.

2. التوثيق

القصيدة موثقة في:

ديوان البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

3. الموضوعية

التحليل ينطلق من:

النص.

لا من سيرة الشاعر أو نواياه.

تاسعاً: الأسس الإنسانية والجمالية العليا

1. قيم الحرية والجمال

النص:

١- يدافع عن حق الإنسان في الرؤية

٢- يرفض تزييف الوعي

2. الانفتاح التأويلي

القصيدة قابلة لقراءات:

١- سياسية

٢- معرفية

٣- وجودية

3. البعد الإنساني الشامل:

ليست قصيدة عن هزيمة عربية فقط،

بل عن سقوط الإنسان حين يخون الحقيقة.

خاتمة:

«البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» ليست مرثية، بل لائحة اتهام،

وليست صرخة شاعر، بل محاكمة وعي،

نصٌّ يذكّرنا أن الهزائم الكبرى لا تبدأ في الميدان،

بل في العيون التي ترفض أن ترى.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..............................

البكاء بين يدي زرقاء اليمامه

أيتها العرافة المقدَّسةْ..

جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ

أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة

منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.

أسأل يا زرقاءْ..

عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء

عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة

عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء

عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..

فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسة!

عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!!

أسأل يا زرقاء..

عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ!

عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ؟

كيف حملتُ العار..

ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!

ودون أن يسقط لحمي.. من غبار التربة المدنسة؟!

تكلَّمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي.. باللهِ.. باللعنةِ.. بالشيطانْ

لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان..

تلعق من دمي حساءَها.. ولا أردُّها!

تكلمي... لشدَّ ما أنا مُهان

لا اللَّيل يُخفي عورتي.. كلا ولا الجدران!

ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها..

ولا احتمائي في سحائب الدخان!

.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين.. عذبةُ المشاكسة

( كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي.. ونحن في الخنادْق

فنفتح الأزرار في ستراتنا.. ونسند البنادقْ

وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة..

رطَّب باسمك الشفاه اليابسة..

وارتخت العينان!)

فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان؟

والضحكةَ الطروب : ضحكتهُ..

والوجهُ.. والغمازتانْ!؟

* * *

أيتها النبية المقدسة..

لا تسكتي.. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً..

لكي أنال فضلة الأمانْ

قيل ليَ "اخرسْ.."

فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيان!

ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان

أجتزُّ صوفَها..

أردُّ نوقها..

أنام في حظائر النسيان

طعاميَ : الكسرةُ.. والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسة.

وها أنا في ساعة الطعانْ

ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ.. والفرسانْ

دُعيت للميدان!

أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن..

أنا الذي لا حولَ لي أو شأن..

أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،

أدعى إلى الموت.. ولم أدع الى المجالسة!!

تكلمي أيتها النبية المقدسة

تكلمي.. تكلمي..

فها أنا على التراب سائلٌ دمي

وهو ظمئُ.. يطلب المزيدا.

أسائل الصمتَ الذي يخنقني :

" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "

أجندلاً يحملن أم حديدا..؟!"

فمن تُرى يصدُقْني؟

أسائل الركَّع والسجودا

أسائل القيودا :

" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "

" ما للجمال مشيُها وئيدا..؟! "

أيتها العَّرافة المقدسة..

ماذا تفيد الكلمات البائسة؟

قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ..

فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!

قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار..

فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!

وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا..

والتمسوا النجاةَ والفرار!

ونحن جرحى القلبِ ،

جرحى الروحِ والفم.

لم يبق إلا الموتُ..

والحطامُ..

والدمارْ..

وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ

ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،

وفي ثياب العارْ

مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة!

ها أنت يا زرقاءْ

وحيدةٌ... عمياءْ!

وما تزال أغنياتُ الحبِّ.. والأضواءْ

والعرباتُ الفارهاتُ.. والأزياءْ!

فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها

كي لا أعكِّر الصفاء.. الأبله.. المموَّها.

في أعين الرجال والنساءْ!؟

وأنت يا زرقاء..

وحيدة.. عمياء!

وحيدة.. عمياء!

 

في المثقف اليوم