تجديد وتنوير
بدر الفيومي: مقولة القرآن والسنة بفهم سلف الأمة بين التهافت والتألف

رؤية نقدية
إنّ المتأمِّل في الخطاب الديني السائد عند جل الجماعات الجانحة المتشددة يلحظ نزعةً متكرّرة إلى ترديد شعارٍ لطالما رُفعوه في ساحات الدعوة والمناظرة، ألا وهو قولهم (قرآن وسنة بفهم سلف الأمة). وهو شعارٌ ظاهره الحرص على الأصالة والتمسك بالثوابت والأصول، وباطنه انغلاقٌ إطاحي، يُلبس الفهم البشري ثوب العصمة، ويجعل من اجتهادات الأوّلين وُجهةً نهائية لا يجوز تجاوزها، فيتحوّل بذلك الدين من خطابٍ مفتوحٍ للهداية والتجديد إلى منظومةٍ مغلقةٍ تُحاكم الناس لا بالوحي؛ بل بتأويلاتٍ بشرية أضحت عندهم معياراً للحق والباطل.
وما يثير القلق أنّ هذه المقولة لم تبقَ شعارًا تنظيريًا فحسب، بل غدت أداةً لتكريس الوصاية الفكرية، وشرعا يُكفر به ويُقصى مخالفيه، إذ تتّخذها جل الجماعات المتطرفة المعاصرة كـ (داعش والقاعدة ... وغيرهما)؛ ذريعة لتبرير عنفها ورفضها لكل اجتهادٍ لا يوافق تصوراتها، ومن ثم؛ تجعل من مخالفيها خصومًا للوحي، مع أنّهم في الحقيقة خصومٌ لفهمها الخاص للسلف، لا للسلف أنفسهم.
فالإشكال الجوهري في هذه المقولة لا يكمن في ظاهرها الاصطلاحي، بل في بنيتها المعرفية، إذ تفترض أنّ الحقيقة الدينية قد اكتملت وتجلّت نهائيًا في أذهان السلف، وأنّ الفهم الذي صدر عنهم يُمثّل المطابقة التامة لمقاصد الوحي، فيُلغى بذلك دور العقل الناقد، وتتهم أي قراءة جديدة للنصوص بالجنوح والاجتراء، فتُغلق بذلك كل أبواب الاجتهاد التي أمر بها الشرع. وهذا -من منظور فلسفة المعرفة- يمثل نموذجًا جامدًا يُقصي التفاعل الزمني بين النص والعقل والواقع، ويحوّل الدين إلى تراثٍ منغلقٍ لا يتطور.
ومن خلال التأمل في تلك المقولة التي يتشدّق بها مردّدوها، ويتخذونها شعارًا يخفون خلفه قصورَهم في الفهم وضيقَ أفقهم في النظر، يتبدّى بوضوح أنّ الخلل الجوهري في تصورهم إنما يكمن في خلطٍ فادحٍ بين الفهم الذي هو ـ في جوهره ـ نتاجٌ بشريّ محدود بأطر الزمان والمكان، ومشروط بحدود اللغة والعلم والعرف والسياق السياسي والاجتماعي، وبين المنهج الذي هو أرقى من ذلك، إذ يمثل طريقة النظر والاستنباط، والقدرة على الجمع بين النصوص ومقاصدها، واستحضار عللها وأبعادها المقاصدية. حيث كان السلف، في نهجهم الأصيل، أصحابَ عقلٍ راشدٍ ونظرٍ ثاقب، لم يغلقوا باب الاجتهاد، بل مارسوه بوعيٍ مقاصديٍّ راجح، ووازنوا بين النص والمصلحة، وجعلوا العقل خادمًا للوحي لا سجينًا له. ولم يدّعِ أحدٌ منهم العصمة أو احتكار الصواب؛ إذ قال الإمام مالك: (كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا صاحب هذا القبر ـ أي النبي صلى الله ليه وسلم)، وقال الشافعي: (رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب)، وقال أحمد بن حنبل: (لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي، ولكن خذ من حيث أخذوا)، بل قال في تواضعٍ عالٍ حين خالفه عبدُ الله بن المبارك في مسألةٍ فقهية (ابن المبارك لم ينزل من السماء)، أي أنّه وإن كان عالمًا جليلًا، فليس معصومًا من الخطأ. وهكذا كان أبو حنيفة — إمام مدرسة الرأي والاجتهاد العقلي — يرى أن باب النظر لا يُوصب أبدا ما دام الإنسان يفكر ويدبر. فكيف، بعد ذلك كله يُعقل أن يُرفع فهمهم البشريّ المختلف فيه إلى مرتبة النص، ويُعامل كالوحي الذي لا يأتيه الباطل؟.
وإنّ نظرةً فاحصة إلى تاريخ الفهم الإسلامي تُظهر بجلاء أن السلف لم يتفقوا على رأيٍ واحد في كثيرٍ من المسائل؛ ففي الفقه مثلا، اختلف ابن عباس وابن عمر في ميراث الجد والإخوة، فقد كان ابن عباس يرى أن الجد يُسقط الإخوة من الميراث؛ لأن الجد عنده أبٌ يُعامل معاملة الأب في الميراث، فلا يرث معه الإخوة. بينما كان ابن عمر يرى أن الجد والإخوة يشتركون في الميراث بحسب القسمة الشرعية، وأن الجد ليس كالأب تمامًا، بل هو وارثٌ مستقلّ، له نصيبٌ مخصوص لا يُسقط الإخوة مطلقًا. وفي العبادات، اختلف عمر وابن مسعود في متعة الحج، حيث كان عمر بن الخطاب يميل إلى المنع من متعة الحج، ورأى أن الأفضل إفراد الحج عن العمرة، مستندًا إلى مقاصد الشريعة في التيسير والتنظيم وإلى أن بعض الناس اتخذوا المتعة ذريعة لتكرار النسك بغير حاجة. بينما كان ابن مسعود يرى جواز التمتّع. أما في التفسير، فقد اختلفوا في معنى (القُروء) في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، أهو الحيض أم الطهر؟. بل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أقرّ تعدد الفهم حين أمرهم في غزوة بني قريظة (لا يُصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، ففريقٌ فهم اللفظ على ظاهره، فأجّل الصلاة حتى الوصول، وفريقٌ فهم الغرض، فصلّى في الطريق، ولم يُنكر النبي على أحدٍ منهما، بل أقرّهما، ليؤكد أنّ النص يحتمل تعدد الفهم ما دام منضبطًا بالنية والمقصد.
بل أزيدك ـ أيها المتشبّث بتقديس فهم السلف ـ أن الصحابة ـ وهم الجيل الأقرب إلى التنزيل ـ قد اختلفوا في بعض المسائل العقدية والفكرية الدقيقة، غير أنّ اختلافهم ظلّ في دائرة التأويل والفهم والتفسير، لا في أصول الإيمان الكبرى كالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر. وكان اختلافهم منضبطًا بحدود الاجتهاد المشروع، محكومًا بروح البحث عن الحق لا بروح التنازع والتبديع؛ إذ أدركوا أنّ مقاصد الدين أوسع من أن تُحصر في فهمٍ واحد، وأنّ النصّ يحتمل من المعاني بقدر ما يحتمل العقل من النظر. ومن أبرز أمثلة ذلك اختلافهم في فهم بعض آيات الصفات، كقوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، وقوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)؛ إذ مال ابن عمر وأبو هريرة إلى الإثبات الظاهري مع تفويض الكيفيّة، فكانوا يقولون: نؤمن بها كما جاءت بلا كيف، بينما فسّر ابن عباس الآية الثانية تفسيرًا تأويليًا راعى فيه السياق والمقصد، فقال: أي عن شدّة وكربٍ عظيم، ولم يحملها على ظاهر الجارحة، منزهًا الله عن الحدّ والجسد.
فهذا اختلافٌ تأويليٌّ مشروع، يُظهر سعة أفقهم في التعامل مع النصّ، وإدراكهم أنّ التنزيه لا يُناقض الإيمان، وأنّ الإيمان لا يلغي إعمال العقل. ومثل ذلك اختلافهم في مسألة رؤية الله تعالى في الآخرة؛ فقد قال ابن عباس: إنّ المؤمنين يرون ربّهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر، بينما تردّد بعض الصحابة في الخوض في الكيفية أو إمكان الرؤية الدنيوية، واكتفوا بالتسليم لظاهر النصّ القرآني: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، دون الدخول في تفصيلٍ يجرّ إلى التوهم أو التشبيه.
وهذا تنوع في مدى الخوض والتفصيل، لا في أصل الإيمان. ومما اختلفوا فيه أيضا الموقف السياسي العقدي من الفتنة بين علي ومعاوية، حيث رأى فريق أن عليًّا هو الإمام الحق الواجب طاعته. وفريق آخر رأى وجوب الاعتزال حتى ينجلي الأمر. وفريق اجتهد في التأويل فقاتل مع أحد الطرفين. والخلاف هنا له أبعاد عقدية في مفهوم الطاعة والولاء والبراء، لكنه كان اجتهادًا سياسيًا دينيًا، لا انشقاقًا في التوحيد.
وهكذا يتجلى من خلال ما أوردناه أن اختلافهم لم يكن اختلاف تضادٍّ أو خصومة، بل اختلاف تنوّعٍ وتكاملٍ في مناهج الفهم، مما يؤكد أنّ السلف لم يُجمّدوا النصّ، بل أحيوه بتعدّد أنظارهم، وأنّ الجمود على فهمٍ واحدٍ إنما هو نقيض نهجهم لا امتداده. وذلك لأن التنوّع في الفهم بين الصحابة يثبت أن العقيدة الإسلامية لم تُفهم فهمًا واحدًا جامدًا. وأن الاجتهاد في بعض المسائل الاعتقاد كان مشروعًا مقبولًا. فلم يجعلوا فهم أحدهم حجة على غيره، بل ظلّ المرجع الأعلى هو النص المعصوم، والفهم البشري نسبيّ، اجتهاديّ، قابل للنقد والمراجعة.
فهذه الوقائع التي سقناها في جملتها تُبرهن أنّ الوحي مفتوح على الفهم المتعدد، وأنّ حصره في تأويلٍ واحدٍ خيانةٌ لمراده. فالنصّ القرآني خطابٌ للإنسان في كل عصر، ومن ذلك قوله تعالى(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)، والخطاب بـ(ليدبروا) عامٌّ لكل مؤمنٍ قادرٍ على النظر، ولم يُخصّصه الله بجيلٍ دون جيل، بل جعل التدبّر فريضةً دائمة، والاختلاف في الفهم سنّةً لا مَطعنًا.
ولئن كان السلف قد اجتهدوا في ضوء معارفهم، فواجب الخلف أن يجتهدوا في ضوء ما أُتيح لهم من علومٍ وأدوات، إذ تتبدل النوازل وتتنوع الوقائع، وما لم يتجدد الفهم سقطت الشريعة في الجمود. وقد قال عمر بن الخطاب —رضي الله عنه— في عام الرمادة حين عطّل حدّ السرقة (لا قطع في مجاعة)، مخالفا بذلك ظاهر النص مراعاةً لمقاصده، وإدراكًا أنّ الغاية هي حفظ النفس لا استئصالها، وأنّ الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا. أليس هذا نهج السلف في الاجتهاد؟. فكيف يُعقل أن يُتّهم أي مجتهد معاصر بالابتداع حين يسير على طريقتهم في النظر إلى المقاصد لا الحروف؟.
لذا فالمقولة —في صيغتها الحصرية— تُحوِّل النص إلى كيانٍ جامدٍ فاقدٍ للروح وتُفرغه من حيويّته، وتحوّله إلى أداةٍ لشرعنة السلطة المعرفية. فهي لا تقول (اتبعوا منهج السلف)، بل (كرّروا أفهامهم )، فتغفلُ أنّ السلف قد اختلفوا، وأنّهم مارسوا الاجتهاد في ضوء زمانهم. ومن ثمّ، فإنّ الدعوة إلى فهم السلف ليست إلا ادّعاءً باحتكار التأويل، الأمر الذي يُنتج استبدادًا مليا يفرض على العقول قراءةً واحدة، ويُقصي من خلالها كل محاولة للتجديد أو المراجعة.
وقد رأينا آثار هذا الفكر في تلك الجماعات الجانحة الجامحة التي نصّبت نفسها وصية على الدين، تحكم على الناس بالكفر والضلال إن خالفوا فهمهم، مع أنّها في حقيقتها لا تمثل السلف بل فهمًا خاصًا متعسّفًا نُسب إليهم ظلمًا. ومن زاويةٍ أخرى، فإنّ هذا الاتجاه يُعيد إنتاج نموذج فكريٍ منغلق يرى الحقيقة ملكًا لجماعةٍ بعينها، ويُقصي الحوار، حيث يُكرّس نوعين من العنف أولهما/ العنف الرمزي الذي يفرض على أتباعه فهما واحدا باسم الحق، وتبديع وتفسيق كل من خالفه، وتجريمه فكريًا. وثانيهما/ العنف المادي-كالقتال، والتكفير، واستحلال الدماء، والإقصاء الجسدي، والاغتيال. مخالفين بذلك الإسلام الذي جاء ليُحرّر العقل، ويُطلق ملكة الاجتهاد، ويُقوّم النظر بالوحي لا بالوصاية البشرية. وقد قال تعالى(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فجعل الحرية الفكرية أساسًا للتكليف، وأمر بالتدبّر والتفكر لا بالتقليد الأعمى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
فمن الوفاء للسلف أن نسير على نهجهم في النظر، وأن نُفعّل أدواتهم في ضوء واقعنا. لأن الاجتهاد المستمر هو روح الشريعة، كما قال الشاطبي (الاجتهاد لا ينقطع حتى ينقطع التكليف). فكل محاولة لحصر الفهم في الماضي إنما هي مفارقةٌ لمنهج السلف أنفسهم، الذين خالف بعضهم بعضًا، وفتحوا باب الاجتهاد للأمة.
إنّ الخطأ كامنٌ في دلالة مصطلح السلف من حيث الإجراء والتطبيق، إذ إنّ من يُطلق عليهم هذا الوصف كانوا مجدّدين ومجتهدين ونقّادًا ومبدّلين لما يقتضيه صلاحُ الزمان والمكان، لا مبدّدين للثوابت أو مغيّبين للعقل. فإلى أيّ فريقٍ منهم يُراد لنا أن نقتفي الأثر؟. لاسيما وأنّ مقاصد الشريعة ـ في جوهرها ـ لا تتحقّق إلا بفهمٍ متجدّدٍ يوازن بين النص والواقع، ويُقيم العدل ويُحقق المصلحة. فالدعوة إلى الاقتصار على فهم السلف تُفضي ـ في حقيقتها ـ إلى تعطيل المقاصد الكلّية للشريعة: حفظ النفس والعقل والدين والعِرض والمال؛ لأنها تُقدّم الشكل على الجوهر، والحرف على الروح، وهو ما لم يكن من منهج السلف في شيء، بل نقيضُه تمامًا. لذا فالمقولة في صيغتها المغلقة تمثّل خلطًا بين الوحي والفهم، وانحرافًا عن منهج السلف الحقيقي، وتُنتج جمودًا فكريًا واستبدادًا دينيًا يُقوّض الاجتهاد ويُقصي التنوع الذي جعله الله رحمة.
وإذا ما انتقلنا إلى أدعياء السلفية المعاصرة ومشكلتهم مع الفهم الأحادي الملتبس، فسوف نجد أن الإشكال في مقولتهم (القرآن والسنة بفهم سلف الأمة) لا يقف عند حدودها اللغوية أو مقصدها الدعوي المعلن، بل يتجاوز ذلك إلى ما تنطوي عليه من دلالاتٍ مضمَرة تمسّ بنية الحقيقة الدينية ذاتها؛ إذ توحي ـ في عمومها ـ بأنّ سلف الأمة هم فصل الخطاب ومناط العصمة، وأنّ على المؤمنين التسليم لفهمهم والانضواء تحت تأويلهم، لا مراجعتهم أو نقدهم أو الاجتراء على مساءلتهم، وهذا في ميزان المعرفة الإسلامية، يمثل خللًا جوهريًا، لأنها تُسوّي بين الوحي المعصوم والفهم البشري النسبي، وتجعل من الاجتهاد التاريخي معيارًا مطلقًا، في حين أنّ النص الإلهي – من حيث طبيعته – يتجاوز الأفهام المحدودة بزمان أو مكان، ويتسع لتجدد المعاني بتجدد القراءات والسياقات.
فالنص القرآني — بوصفه كلام الله — ليس رسالة تاريخية منتهية، بل خطابٌ حيٌّ مستمر، يفيض بالمعاني التي تتكشف عبر تفاعل العقل والواقع.
وكل محاولة لحصر فهمه في عقلٍ واحد أو جيلٍ محدد هي مصادرة لفاعليته، وتعطيل لمقصوده في الهداية والتجديد. وقد نبّه الأصوليون إلى هذه الحقيقة بقولهم (النصوص متناهية، والوقائع غير متناهية، فلا يُستغنى عن الاجتهاد)، وهو ما قرّره الشاطبي في الموافقات حين جعل الاجتهاد فريضةً دائمة لاستمرار الدين في الواقع.
لذا يمكننا القول أنّ هذه المقولة تُعيد ـ في جوهرها ـ إنتاجَ نموذجٍ جديدٍ من الاستبداد الديني، على نحوٍ يُذكّر بما مورس في العصور الوسطى حين تماهت السلطة مع المقدّس، وتحولت النصوص إلى أدواتٍ للهيمنة والقمع، كما حدث في محاكم التفتيش التي جعلت من التأويل وسيلة لإقصاء المخالف واضطهاده. فالمقولة، في صيغتها المعاصرة، تمنح سلطةَ التفسير لطائفةٍ بعينها تدّعي الوصاية على النص، وتُنصّب نفسها ممثّلًا حصريًّا للإسلام، وهو ما تجلّى في الجماعات الجانحة المتشددة التي سمت نفسها أهل الحلّ والعقد أو أرباب الرأي، فاتخذت من شعار (فهم السلف) ستارًا لممارسة الهيمنة الفكرية وإقامة سلطة التكفير العملي.
وهذا النمط من التفكير يعيد إلى الأذهان نهج الخوارج الذين تمسكوا بظواهر النصوص وأعرضوا عن مقاصدها، وكفروا دونه، فوقعوا في الغلوّ الذي حذّر منه النبي ﷺ بقوله) يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم (أي أنهم لا يُدركون معانيه ومقاصده. والتاريخ يعيد نفسه حين يتحوّل النص إلى شعارٍ يُستعمل لتصفية المخالف، لا وسيلة للهداية. فالمقولة في يد هؤلاء تُصبح حجرًا على العقول، وتُنتج عقلًا نقليًا جامدًا، يُفرغ الدين من طابعه الإنساني المقاصدي، ويُحوّله إلى منظومة أوامر جامدة لا تتفاعل مع عللها ومآلاتها. وسيف على رقاب المبدعين.
فالسلف الذين نجلّهم ونحترمهم لم يدّعوا العصمة، ولم يغلقوا باب الاجتهاد، ولم يُقدّموا فهومهم على مقاصد الشريعة، بل سعوا بكل إخلاص إلى استنباط الحقّ من النص، وهم يعلمون أنّ الفهم يتجدّد بقدر ما يتجدّد النظر. وإنّ أصدق وفاءٍ لهم أن نسير على طريقهم، لا أن نُقيم جدارًا بيننا وبينهم منهم يفصلنا عن حركة الحياة. لأنّ الإسلام دينٌ عالميٌّ خالد، لا يمكن أن يُحبس في فهمٍ بشريٍّ، والوحي أكبر من الزمان والمكان. والسلف أنفسهم كانوا يدركون ذلك، فاجتهدوا لعصرهم، وتركوا الباب مفتوحًا لمن يأتي بعدهم. فمن أغلقه باسمهم، فقد أساء إليهم، وألغى أعظم ما ورّثوه لنا) المنهج).
وختاما، فإن النقد الذي وجّهناه إنما هو تحرير للدين من القيد التاريخي، لا طعن في السلف، واستعادة للمنهج المقاصدي الاجتهادي الذي هو جوهر نهجهم. فالإسلام لا يُختزل في فهمٍ، بل يُستوعب بمنهجٍ حيٍّ، والعقل لا يُقصى بل يُكرَّم، والوحي لا يُجمّد بل يُستنطق في كل عصرٍ بما يُحقّق الرحمة والعدل والمصلحة.
***
د. بدر الفيومي