ترجمات أدبية
فرجينيا وولف: الأرملة والببغاء
تاليف: فرجينيا وولف
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
قبل حوالي خمسين عامًا، كانت السيدة غيج، أرملة مسنة، تجلس في كوخها في قرية تدعى سبيلزبي في يوركشاير. على الرغم من كونها عرجاء وضعيفة البصر، كانت تبذل جهدها لإصلاح زوج من الأحذية الخشبية، إذ لم يكن لديها سوى بضعة شلنات تعيش عليها أسبوعيًا. وبينما كانت تدق على الحذاء، فتح الباب ساعي البريد وألقى بريدًا في حجرها. كان الخطاب موجهًا إلى: "السادة ستاغ وبيتل، 67 الشارع الرئيسي، لويز، ساسكس."
فتحته السيدة غيج وقرأت:
"عزيزتي السيدة، نكرمك بإبلاغك بوفاة أخيك السيد جوزيف براند."
قالت السيدة غيج: "يا للهول! أخي جوزيف العجوز رحل أخيرًا!"
وتابع الخطاب: "لقد ترك لك كل ممتلكاته، والتي تشمل منزل سكنى، وإسطبل، وأكواخ الخيار، وآلات تقطيع، وعربات يدوية، وما إلى ذلك في قرية رودميل، قرب لويس. كما أوصى لك بكامل ثروته؛ أي: 3000 جنيه إسترليني.
كادت السيدة غيج أن تقع في النار من شدة الفرح. لم تَرَ أخاها منذ سنوات طويلة، وبما أنه لم يرد حتى على بطاقات عيد الميلاد التي كانت ترسلها له كل عام، ظنت أن عاداته البخيلة، التي عرفتها منذ الطفولة، جعلته يبخل حتى بطابع رد عليها. لكن الآن، تحول كل شيء لصالحها. بثلاثة آلاف جنيه، ناهيك عن المنزل وما إلى ذلك، يمكنها وعائلتها العيش في رفاهية إلى الأبد.
قررت زيارة رودميل فورًا. أقرضها قس القرية، القس صموئيل تالبويز، جنيهين وعشرة جنيهات إسترلينية لدفع أجرة سفرها، وفي اليوم التالي اكتملت جميع الاستعدادات لرحلتها. كان أهمها رعاية كلبها شاج أثناء غيابها، فرغم فقرها، كانت مولعة بالحيوانات،وغالبًا ما كانت تقتطع من طعامها كي لا تحرم كلبها من عظمه.
وصلت إلى لويز في وقت متأخر من ليلة الثلاثاء. في تلك الأيام، يجب أن أخبرك، لم يكن هناك جسر فوق النهر في ساوثيز، ولم يكن الطريق إلى نيوهيفن قد شُق بعد. للوصول إلى رودميل، كان يجب عبور نهر أوز عبر مخاضة، لا تزال آثارها موجودة، لكن هذا كان ممكنًا فقط عند انخفاض المد، عندما تظهر الحجارة في قاع النهر فوق الماء. كان المزارع السيد ستيسي متجهًا إلى رودميل بعربته، وعرض عليها أن يأخذها معه. وصلا إلى رودميل حوالي التاسعة مساءً في ليلة نوفمبر، وأشار السيد ستيسي بلطف إلى المنزل في نهاية القرية الذي تركه لها أخوها.
طرقت السيدة غيج الباب. لم يجب أحد. طرقت مرة أخرى. صرخ صوت غريب جدًا وعالٍ: "ليس في المنزل!" اندهشت لدرجة أنها لو لم تسمع خطوات قادمة لفرت هاربة. ومع ذلك، فتحت الباب امرأة عجوز من القرية تدعى السيدة فورد.
سألت السيدة غيج:
"من الذي صرخ 'ليس في المنزل'؟"
أجابت السيدة فورد بضيق، مشيرة إلى ببغاء رمادي كبير:
"اللعنة على هذا الطائر! يكاد يصم أذني بصراخه. يجلس طوال اليوم منحنيًا على مجثمه مثل تمثال يصرخ 'ليس في المنزل' كلما اقتربت منه."
كان طائرًا جميلًا، كما رأت السيدة غيج، لكن ريشه كان مهملًا. قالت:
"ربما يكون حزينًا، أو جائعًا."
لكن السيدة فورد قالت إنه مجرد طباع سيئة؛ فهو ببغاء بحار تعلم لغته في الشرق. ومع ذلك، أضافت أن السيد جوزيف كان شديد التعلق به، وأطلق عليه اسم جيمس، ويُقال إنه كان يتحدث معه كما لو كان عاقلًا.
سرعان ما غادرت السيدة فورد. على الفور، ذهبت السيدة غيج إلى حقيبتها وأحضرت بعض السكر الذي كان معها وقدمته للببغاء، قائلة بألطف نبرة أنها لا تقصده بأذى، بل هي أخت سيده القديم، جاءت لتمتلك المنزل، وسوف تتأكد من أنه سعيد قدر الإمكان. ثم أخذت فانوسًا وتجولت في المنزل لترى نوع الممتلكات التي تركها لها شقيقها.
كانت خيبة أمل مريرة. كانت هناك ثقوب في جميع السجاد. سقطت قيعان الكراسي. ركضت الفئران على طول رف الموقد. كانت هناك فطريات كبيرة تنمو في أرضية المطبخ. لم يكن هناك قطعة أثاث بقيمة سبعة بنسات ونصف بنس؛ ولم تفرح السيدة غيج إلا بالتفكير في الثلاثة آلاف جنيه إسترليني الموجودة بأمان في بنك لويز.
قررت أن تتوجه إلى لويز في اليوم التالي للمطالبة بمالها من المحاميين ستاج وبيتل، ثم تعود إلى منزلها بأسرع ما يمكن. عرض عليها السيد ستيسي، الذي كان ذاهبًا إلى السوق ببعض الخنازير من سلالة بيركشاير الجيدة، أن يأخذها معه مرة أخرى، وحكى لها قصصًا مرعبة عن شباب غرقوا أثناء محاولتهم عبور النهر عند المد العالي.في مكتب السيد ستاج، كانت خيبة أمل كبيرة تنتظر المرأة المسكينة. قال لها بجدية:
"تفضلي بالجلوس، سيدتي. الحقيقة هي أنه يجب عليك الاستعداد لسماع أخبار غير سارة للغاية. منذ أن كتبت إليك، راجعت أوراق السيد براند بعناية. أأسف لأنني لم أجد أي أثر للثلاثة آلاف جنيه. ذهب شريكي، السيد بيتل، بنفسه إلى رودميل وفتش المكان بدقة. لم يجد شيئًا على الإطلاق – لا ذهبًا ولا فضة ولا أي أشياء ثمينة – باستثناء ببغاء رمادي جميل أنصحكِ ببيعه بأي ثمن. لغته، كما قال بنجامين بيتل، شديدة الوقاحة. لكن هذا ليس مهمًا الآن. أخشى أن رحلتك كانت دون جدوى. العقار متداعٍ، وبالطبع نفقاتنا كبيرة."
هنا توقف، وعرفت السيدة غيج أنه يريدها أن تغادر.
كانت على وشك الجنون من خيبة الأمل. لم تكن قد اقترضت جنيهين وعشرة شلنات من من القس صموئيل تالبويز فحسب، بل ستعود إلى منزلها خالية الوفاض، إذ ستضطر لبيع الببغاء جيمس لدفع أجرتها. كان المطر يهطل بشدة، ومع ذلك يضغط عليها السيد ستاج للبقاء، وكانت غارقة في الحزن لدرجة أنها لم تهتم بما تفعله. على الرغم من المطر، بدأت تمشي عائدة إلى رودميل عبر الحقول.
كانت السيدة غيج، كما ذكرتُ سابقًا، تعاني من عرج في ساقها اليمنى. في أفضل الأوقات، كانت تمشي ببطء، والآن، مع خيبة أملها والوحل على الضفة، كان تقدمها بطيئًا للغاية. بينما كانت تسير ببطء، أظلم النهار أكثر فأكثر، حتى بالكاد استطاعت البقاء على الطريق المرتفع بجانب النهر لعلك سمعتها تتذمر وهي تمشي، وتشكو من أخيها الماكر جوزيف، الذي سبب لها كل هذا العناء. قالت: «أرسلني في مهمة خاصة فقط ليضايقني، كان دائمًا طفلًا قاسيًا عندما كنا صغارًا. كان يستمتع بتعذيب الحشرات المسكينة، وقد رأيته بعيني يقص شعيرات يرقة بشعة بالمقص أمامي مباشرة. وكان بخيلًا لدرجة لا تُحتمل. كان يخفي مصروفه في شجرة، وإذا قدّم له أحدهم قطعة كعك مغطاة بالسكر في الشاي، كان يقطع الجزء المسكّر ويحتفظ به لعَشاءه. لا أشك لحظة في أنه الآن يتلظى في نار جهنم، ولكن ما الفائدة من ذلك بالنسبة لي؟»
وبالفعل، لم يكن هناك عزاء يذكر، إذ اصطدمت فجأة ببقرة كبيرة كانت تسير على الضفة، وسقطت في الوحل.
نهضت بقدر ما تستطيع وواصلت السير. شعرت كما لو أنها تمشي منذ ساعات. كان الظلام الآن دامسًا، وبالكاد تستطيع رؤية يدها أمام أنفها. فجأة تذكرت كلمات المزارع ستيسي عن المخاضة. قالت: " يا إلهي، كيف سأجد طريقي للعبور؟ إذا عاد المد، فسأدخل في مياه عميقة وأُجرف إلى البحر في لمح البصر! غرق الكثيرون هنا؛ ناهيك عن الخيول والعربات وقطعان الماشية وأكوام القش."
في الواقع، مع الظلام والوحل، وجدت نفسها في مأزق صعب. بالكاد كانت ترى النهر نفسه، ناهيك عن معرفة ما إذا كانت وصلت إلى المخاضة أم لا. لم تكن هناك أضواء مرئية في أي مكان، لأنه، كما قد تعلم، لا يوجد منزل أو كوخ على ذلك الجانب من النهر أقرب من "آشام هاوس"، مقر السيد ليونارد وولف سابقًا. بدا أنه ليس لديها خيار سوى الجلوس وانتظار الصباح. لكن في عمرها، ومع الروماتيزم في جسدها، قد تموت من البرد القارس. ومن ناحية أخرى، إذا حاولت عبور النهر، فمن شبه المؤكد أنها ستغرق.كانت في حالةٍ من البؤس لدرجة أنها لَتَتمنى لو أصبحت بقرةً في الحقل! لم يكن في مقاطعة ساسكس كلها عجوزٌ أكثر بؤسًا منها؛ واقفةً على ضفة النهر، لا تدري أيَخيرٌ تختار: أن تجلس، أم تسبح، أم تتقلب في العشب المبتلّ وتنام – أو تتجمد حتى الموت – فليكن ما قدّر القدر!
في تلك اللحظة، حدث شيء عجيب. انطلقت في السماء كتلة ضخمة من النور، كشعلة هائلة، أضاءت كل عشبة، وكشفت لها عن المخاضة التي لم تكن تبعد عنها أكثر من عشرين ياردة. كان المد منخفضًا، وكان العبور سيكون سهلاً لو لم ينطفئ الضوء قبل أن تعبر.
قالت وهي تتعثر عبر الطريق:
"لا بد أن هذا مذنب أو شيء غريب من هذا القبيل!"
استطاعت أن ترى قرية رودميل بوضوحٍ أمامها.. صاحت:
"يا ربنا! هناك منزل يحترق – الحمد لله!"
فقد حسبت أن احتراق المنزل سيستغرق دقائق على الأقل، وفي ذلك الوقت ستكون قد وصلت إلى القرية.قالت وهي تسير ببطء على الطريق الروماني:
"حتى الريح العاصفة تنفع بعض الناس."
وبالفعل، كانت ترى كل شبر من الطريق، وكانت على وشك الوصول إلى شارع القرية عندما خطر لها لأول مرة: "ربما يكون منزلي أنا هو الذي يحترق أمام عيناي!"وكان حدسها صحيحًا تمامًا.طفل صغير يرتدي بيجامة نوم قفز نحوها صارخًا:
"تعالي وانظري إلى منزل جوزيف براند العجوز يحترق!"
كان كل القرويين واقفين في حلقة حول المنزل، يمررون دلاء الماء المملوءة من بئر مطبخ "منزل الرهبان"، ويرمونها على النيران. لكن النار كانت قد اشتدت، وفي اللحظة التي وصلت فيها السيدة غيج، سقط السقف.
صاحت:
"هل أنقذ أحد الببغاء؟"
قال القس جيمس هوكسفورد:
"كوني ممتنة أنكِ لستِ داخل المنزل، سيدتي. لا تقلقي على المخلوقات البكماء. لا أشك أن الببغاء قد اختنق برحمة على مجثمه."
لكن السيدة غيج كانت مصممة على أن تتأكد بنفسها. اضطر القرويون إلى منعها، وقالوا إنها لا بد أن تكون قد جنَّت لتعرض حياتها للخطر من أجل طائر.
قالت السيدة فورد:
"المسكينة العجوز، لقد فقدت كل ممتلكاتها، ما عدا صندوقًا خشبيًا قديمًا به ملابس نومها. لا شك أننا كنا سنصاب بالجنون لو كنا في مكانها."
وهكذا، أخذت السيدة فورد بيد السيدة غيج وأخذتها إلى كوخها، حيث ستبيت الليلة. وقد انطفأت النيران، وذهب الجميع إلى منازلهم ليناموا.
لكن السيدة غيج المسكينة لم تستطع النوم. ظلت تتقلب في فراشها، تفكر في حالتها البائسة، وتتساءل كيف ستعود إلى يوركشاير وتسدد للقس صموئيل تولبويز المال الذي تدين به. وفي الوقت نفسه، كانت أكثر حزنًا على مصير الببغاء جيمس. فقد أعجبت بالطائر، وظنت أنه لا بد أن يكون لديه قلب حنون ليكون حزينًا إلى هذا الحد على وفاة جوزيف براند العجوز، الذي لم يفعل معروفًا لأحد في حياته. لقد كان موتًا فظيعًا لطائر بريء، فكرت؛ ولو أنها وصلت في الوقت المناسب، لخاطرت بحياتها لإنقاذه
كانت مستلقية على السرير تفكر في هذه الأمور، عندما فاجأها صوت طرق خفيف على النافذة. تكررت الطرقة ثلاث مرات. نهضت السيدة غيج من سريرها بأسرع ما يمكن وتوجهت إلى النافذة. هناك، ولدهشتها البالغة، كان هناك ببغاء ضخم يجلس على حافة النافذة.
كان المطر قد توقف، وكانت ليلة مقمرة جميلة. شعرت بالذعر في البداية، لكنها سرعان ما تعرفت على الببغاء الرمادي، جيمس، وغمرتها السعادة بنجاته. فتحت النافذة، وداعبت رأسه عدة مرات، وأمرته أن يدخل. لكن الببغاء رد بهز رأسه بلطف من جانب إلى آخر، ثم طار إلى الأرض، ومشى بضع خطوات، والتفت كما لو كان يتأكد من أن السيدة غيج ستتبعه، ثم عاد إلى حافة النافذة حيث كانت تقف مذهولة.
قالت لنفسها: "هذا المخلوق يفهم أكثر مما نعرف." ثم قالت بصوت عالٍ، وكأنها تخاطب إنسانًا:
"حسنًا يا جيمس، سأتبع إرشادك. فقط انتظر لحظة حتى أرتدي شيئًا مناسبًا."
وهكذا، ربطت مئزرًا كبيرًا، ونزلت بهدوء على أطراف أصابعها، وخرجت دون أن توقظ السيدة فورد.
كان الببغاء جيمس راضيًا تمامًا. بدأ يقفز بضع ياردات أمامها في اتجاه المنزل المحترق. تبعته السيدة غيج بأسرع ما تستطيع. قفز الببغاء، وكأنه يعرف طريقه تمامًا، إلى الجزء الخلفي من المنزل، حيث كانت المطبخ في الأصل. لم يبقَ منه الآن سوى الأرضية من الطوب، التي كانت لا تزال تقطر بالماء الذي أُلقِيَ لإخماد الحريق.
وقفت السيدة غيج مذهولة بينما كان جيمس يقفز هنا وهناك، ينقر بمنقاره، كما لو كان يختبر الطوب. كان منظرًا غريبًا، ولولا أن السيدة غيج اعتادت العيش مع الحيوانات، لربما فقدت صوابها وهربت عائدة إلى المنزل.
لكن أغرب الأشياء لم تحدث بعد. طوال هذا الوقت، لم ينطق الببغاء بكلمة واحدة. فجأة، دخل في حالة من الإثارة الشديدة، رفرف بجناحيه، ونقر الأرض بمنقاره مرارًا، وصاح بصوت حاد: "ليس في المنزل! ليس في المنزل!" لدرجة أن السيدة غيج خافت أن يستيقظ كل سكان القرية.
قالت وهي تهدئه: "لا تبالغ يا جيمس، ستؤذي نفسك." لكنه كرر هجومه على الطوب بعنف أكبر من قبل.
قالت السيدة غيج وهي تفحص أرضية المطبخ بعناية:
"ما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟"
كان ضوء القمر ساطعًا بما يكفي ليريها عدم انتظام بسيط في وضع الطوب، كما لو أنه نُزِع ثم أُعيد وضعه بشكل غير مستوٍ. كانت قد ثبتت مئزرها بدبوس أمان كبير، فاستخدمته لتحريك الطوب، ووجدت أنه كان مرصوصًا بشكل غير محكم. سرعان ما رفعت أحد القوالب بيديها.
ما إن فعلت ذلك حتى قفز الببغاء إلى الطوبة المجاورة، ونقرها بمنقاره بذكاء، وصاح: "ليس في المنزل!" مما فهمت السيدة غيج أنه يأمرها بنزعها أيضًا. وهكذا، استمرا في نزع الطوب تحت ضوء القمر، حتى كشفا مساحة طولها ستة أقدام وعرضها أربعة أقدام ونصف.
بدا أن الببغاء يعتقد أن هذا يكفي. لكن ماذا بعد؟
استراحت السيدة غيج، وعقدت العزم على أن تتبع سلوك الببغاء جيمس تمامًا. لكنها لم تُترك لترتاح طويلاً. بعد أن خدش الأرض الرملية لبضع دقائق – كما تخدش الدجاجة الأرض بمخالبها – كشف عن شيء بدا في البداية ككتلة صفراء مستديرة.
أصبح الببغاء في غاية الإثارة، لدرجة أن السيدة غيج ساعدته. ولسوءتها، وجدت أن المساحة التي كشفوها كانت مليئة بلفائف طويلة من هذه الحجارة الصفراء المستديرة، مرصوصة بانتظام لدرجة أن تحريكها كان مهمة صعبة. لكن ما هذه؟ ولماذا خُبئت هنا؟ لم يعرفا الحقيقة إلا بعد أن نزعا الطبقة العليا بأكملها، ثم وجدا تحتها قطعة من القماش المشمع. عندها ظهر أمام أعينهما منظر معجز – آلاف الجنيهات الذهبية الجديدة اللامعة، مصفوفة في صفوف متتالية، تلمع تحت ضوء القمر!
كان هذا، إذن، مكان اختباء البخيل؛ وقد تأكد من أن لا يكتشفه أحد من خلال اتخاذ احتياطين استثنائيين: أولا بنى موقدًا فوق المكان الذي خبأ فيه كنزه، بحيث لا يمكن لأحد أن يخمن وجوده إلا إذا دمر الحريق الموقد.وثانيا غطى الطبقة العليا من الجنيهات بمادة لزجة، ثم لفها بالتراب، بحيث لو كُشِفَت واحدة بالصدفة، لظنها أي شخص حصاة عادية.وهكذا، لم يُكتَشَف خداع جوزيف العجوز إلا بفضل المصادفة الغريبة – الحريق وذكاء الببغاء.
عملت السيدة غيج والببغاء بجد، ونقلا الكنز كله – الذي كان ثلاثة آلاف جنيه بالضبط – إلى مئزرها المفروش على الأرض. وعندما وُضِعَت القطعة الأخيرة، طار الببغاء في الهواء منتصرًا، وحط برفق على رأس السيدة غيج. وهكذا عادا إلى كوخ السيدة فورد، بخطى بطيئة جدًا، لأن السيدة غيج عرجاء، كما قلت من قبل، والآن كان مئزرها مثقلاً بالذهب. لكنها وصلت إلى غرفتها دون أن يعلم أحد بزيارتها للمنزل المحترق.
في اليوم التالي، عادت إلى يوركشاير. قام السيد ستيسي مرة أخرى باصطحابها إلى لويز، وكان مندهشًا بعض الشيء من ثقل الصندوق الخشبي للسيدة غيج. لكنه كان رجلاً هادئًا، فخلص إلى أن أهل رودميل الطيبين أعطوها بعض الأشياء المتفرقة لمواساتها في خسارتها الفادحة لجميع ممتلكاتها في الحريق.بدافع من طيبة قلبه،عرض السيد ستيسي شراء الببغاء منها بنصف كراون؛ لكن السيدة غيج رفضت بعنف، قائلة إنها لن تبيع الطائر حتى لو عُرض عليها كل ثروات الهند. مما جعله يستنتج أن العجوز قد فقدت صوابها من شدة ما مرّت به من مصائب.
كل ما تبقى قوله هو أن السيدة غيج عادت إلى سبيلسبي بسلام، وأخذت صندوقها الأسود إلى البنك، وعاشت مع الببغاء جيمس وكلبها شاج في راحة وسعادة حتى سن متقدمة.
لم تُخبر رجل الدين (ابن القس صموئيل تولبويز) بالقصة كاملة إلا وهي على فراش الموت، مضيفة أنها متأكدة أن الببغاء جيمس هو الذي أشعل النار في المنزل عمدًا، الذي أدرك الخطر الذي يتهددها على ضفة النهر، فطار إلى المطبخ وقلب موقد الزيت الذي كان يُبقي بعض الفتات دافئًا لعشائها. بهذا الفعل، لم ينقذها من الغرق فحسب، بل كشف عن الثلاثة آلاف جنيه، التي لم يكن من الممكن العثور عليها بأي طريقة أخرى. قالت:
" إن هذا هو جزاء الإحسان إلى الحيوانات."
ظنّ القسّ أن عقلها قد بدأ يذهب. ولكن المؤكد أنه في اللحظة ذاتها التي فارقت فيها أنفاسها الحياة، صرخ الببغاء جيمس بصوت عالٍ: «ليس في المنزل! ليس في المنزل!» وسقط عن مجثمه ميتًا كالحجر. أما الكلب شاغ، فقد مات قبل ذلك بعدّة سنوات.
يمكن لزوار رودميل اليوم أن يروا أنقاض المنزل الذي احترق قبل خمسين عامًا.
ويقول البعض إنك إذا زرته في ضوء القمر، قد تسمع ببغاءً ينقر بمنقاره على المصنوعة من الطوب، بينما رأى آخرون امرأة عجوز تجلس هناك مرتدية مئزرًا أبيض.
(تمت)
***
...................
المؤلفة: أديلاين فرجينيا وولف (25 يناير 1882 - 28 مارس 1941) كاتبة إنجليزية، تُعدّ فرجينيا وولف من أبرز كُتّاب الحداثة وأكثرهم غزارة في الإنتاج، حيث كتبت تسع روايات، ومسرحية واحدة، وأكثر من خمسة مجلدات من المقالات والبورتريهات والمذكرات والمراجعات، وأكثر من أربعة عشر مجلدًا من اليوميات والرسائل، وستًا وأربعين قصة قصيرة. طوّرت وولف في رواياتها أسلوبًا في الكتابة يُتيح للقارئ التفاعل مع بنية الرواية ومحتواها. منذ اللحظة التي بدأت فيها الكتابة، وضعت وولف خطةً لمسيرتها الأدبية: إعادة صياغة الرواية كما كانت تُعرف آنذاك. وتُعدّ كل رواية من رواياتها شاهدًا على التطور الواعي لفرجينيا وولف ككاتبة تجريبية. اشتهرت بتطوير تقنية "تيار الوعي" في السرد الأدبي، والتي غيّرت شكل الرواية الحديثة. . من أبرز أعمالها الروائية: السيدة دالواي (1925) و إلى المنارة (1927و أورلاندو (1928) وغرفة تخص المرء وحده (1929) .