أقلام ثقافية
ربى رباعي: روابط الفكر والروح في شعر أنسي الحاج

تعريف بالشاعر: أنسي الحاج (1937–2014) شاعر وصحافي لبناني يُعدّ من أبرز رموز الحداثة الشعرية العربية، ومن أوائل من كتبوا قصيدة النثر بالعربية. أسّس مع يوسف الخال ومجايليه مجلة "شعر"، وأصدر أول مجموعة شعرية نثرية بعنوان "لن" سنة 1960، فكانت إعلانًا شعريًا لعصر جديد يُحرر القصيدة من الأوزان والقوافي التقليدية. عُرف بأنسي الحاج انغماسه في الروحانية والتأمل الفلسفي واللغوي، وابتعاده عن المباشرة أو الخطابية، مما جعله أحد أكثر الشعراء العرب تعقيدًا وعمقًا في التعبير عن الذات والوجود.
قصيدة النثر في تجربة أنسي الحاج:
قصيدة النثر عند أنسي الحاج ليست مجرّد تحرّر من الشكل، بل تحرّر من التصنيف كله: من الوزن، من الموضوع، من التقاليد البلاغية. إنها صوت داخلي مشبع بالتوترات الفكرية والروحية، لغة مفتوحة على الغموض الخلّاق الذي يوقظ القارئ لا ليَفهم، بل ليشعر.
لنأخذ مثالاً من مجموعته "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":
"أحبك أكثر
من تموّج الحقول
من بكاء العشب تحت المطر
من خوف الطفل إذا أغلق الباب وحده
أحبك أكثر من رغبة الكلمات أن تُقال"
التحليل:
هذه المقاطع ليست سردًا عاطفيًا بسيطًا، بل حالة تأملية تمزج الفكر بالروح، والمحسوس بالمجرد. نلاحظ كيف يربط الحب، وهو شعور روحي، بمظاهر حسية دقيقة جدًا: تموّج الحقول، بكاء العشب، خوف الطفل... هنا، الروح تعبر عن ذاتها في صور مادية، وكأن الشعر عند أنسي هو وسيلة ليُحوِّل الباطني إلى مرئي.
روابط الفكر والروح في شعره:
1. الفكر كأداة تفكيك للواقع: في شعره، لا يقدّم أنسي الحاج إجابات بل أسئلة مفتوحة، تنبع من تأملات عميقة في الحياة، الموت، الحب، والوجود. كأنه يكتب من موقع "المندهش الأبدي"، فيقول:
"أصغي إلى الصمت أكثر مما أصغي إلى الكلام، لأن الصمت يُحرّضني على التفكير"
(من "الوليمة")
2. الروح كطاقة كشف ورجاء: شعره مليء بالإشارات الصوفية، لكنها لا تنتمي إلى طريقة تقليدية في التصوف. هي روحانية فردية تبحث عن خلاص داخلي. في قصيدته "الولد الضائع"، يكتب:
"يا إلهي، لماذا تركتني في منتصف الطريق؟
لم أعُد أنا، ولا أنا الآخر."
هنا يمتزج القلق الوجودي مع نبرة روحية تقف على تخوم الإيمان والشك، التسليم والتمرّد.
انعكاسات الفكر والروح على لغته:
لغة إيحائية مشحونة بالرموز:
فبدلاً من الوضوح، يعتمد أنسي الحاج على الغموض كأداة جمالية، لأنه كما قال في أحد لقاءاته:
"الكلمة إن لم تقل شيئًا جديدًا فهي ليست جديرة بالقول."
تفكيك اللغة التقليدية:
اللغة عنده تُغادر المعجم المألوف وتُعيد تشكيل العلاقات بين الكلمات لتوليد دلالات جديدة.
الاقتصاد في العبارة والانفتاح على البياض:
كثير من قصائده تتنفس في الفراغ، تُترك بيضاء من دون علامات ترقيم أو نهايات واضحة، كما في "الرسولة..."، وكأن الشكل نفسه يحمل توتر الروح.
الشواهد والمقارنات:
بالمقارنة مع الشاعر السوري أدونيس، نلاحظ أن كليهما ينتمي إلى الحداثة، لكن أدونيس أكثر فلسفية وتجريدًا، في حين أنسي الحاج أكثر حسيّة وانغماسًا في اللغة كتجربة روحية.
أما مع الشاعر الفرنسي سان جون بيرس، فقد تأثر أنسي الحاج بقدرته على خلق شعر كوني، حيث يقول:
"سان جون بيرس جعلني أفهم أن الشعر قد يكون رياحًا، غبارًا، وانبهارًا لا يُفسَّر."
خاتمة:
أنسي الحاج شاعر تتكثّف في نصوصه تجارب الفكر والروح، في لغة شديدة الذاتية، متجاوزة للوظيفة التقريرية أو الجمالية التقليدية للشعر. إنه شاعر القلق الجميل، والمعنى الذي لا يُقال إلا حين يُلامس الروح مباشرة.
***
ربى رباعي - الاردن
...........................
مراجع ومصادر:
أنسي الحاج، "لن"، دار الجديد، 1960
أنسي الحاج، "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع", دار النهار، 1975
حوارات مع أنسي الحاج في مجلة "الكرمل" ومجلة "النهار"
د. خالدة سعيد، "قراءة في تجربة أنسي الحاج الشعرية", مجلة شعر، العدد 12
بول شاوول، "أنسي الحاج والثورة الصامتة", دار النهار
Jean Starobinski, Poetry and the Inner Voice, Gallimard, 1982