أقلام ثقافية

جمال العتابي: بائع الشاي الأخير

في ظهيرة خريفية من أيام تسعينات القرن الماضي، كان شارع المتنبي يتنفس بصعوبة، ينوء بثقل الحصار، الشارع بين موت وفراغ موحش، يعتاش على ما يحمله الأبناء من مكتبات آبائهم الذين توفوا غارقين في الحزن، كانت الكتب كالأشلاء تئن من الجوع معروضة على أرصفة الشارع، من يشتري الكتب، وبغداد نهر طافح بالأسى؟

الظهيرة بساط يخدّشه الضوء والظل، تسطع الشمس حيناً وتتوارى خلف دكنة الغيوم، ضوء باهت على أجزاء المدينة، الأجزاء الأخرى كامدة، واجهات شاحبة، كان حسن يخطو ببطء محاذياً باعة افترشوا أرض الرصيف، وآخرون يمرون بصمت. يتفحص وجوه البائعين، كمن يفتش عن وجوه غابت منذ عقود من الزمن، يبحث عن ظل قرب ناصية الدار العصرية للنشر لمح وجهاً لا تخطئه الذاكرة:

ـ مرحباً كاظم، أنا غير مصدّق أن أراك بعد هذه السنين الطويلة التي مرّت!

التفت الرجل ببطء، نظر إليه بعينين غائمتين، ثم عاد وجهه يتفحص عناوين الكتب المفروشة بعناية على الرصيف.

كاظم ! قالها حسن مرة أخرى بشيء من الرجاء، لكن الآخر ظل صامتاً، لم تصدر عنه أية إشارة تدلّ على أدنى استحسان أو قبول لتحية غير متوقعة، تحرك قليلاً، ثم غاب بين الزحام.

أعرف كاظم جيداً، هو بلحمه ودمه، انحناءة ظهره، سائق مطبعة الرواد اليساري، كان حريصاً على أن يوصلنا إلى أبواب بيوتنا آخر الليل، لا نغادر المطبعة إلا بعد الاطمئنان التام على اكتمال المرحلة الأخيرة لصفحات الجريدة المعدّة للطبع بشكل نهائي، كانت الطرق خالية، وصامتة مثل قلوبنا المتعبة، ساكنة أشبه بسكون وجه كاظم الأسمر، لكن الحديث معه لا ينقطع، كانت لديه أحلام، يتحدث عن العدالة، وطريق التطور اللارأسمالي صوب الاشتراكية، يتحدث عن عالم بلا استغلال، عالم قرأ عنه في الكتب والنظريات، وحلقات التثقيف الحزبي، في درج سيارته يحتفظ بكتاب عن تجربة المجر، والآخر عن الصراع الطبقي في البرتغال، تآكلت حواشي الكتابين وعلا غلافهما التراب، لم يكمل دراسته، لكنه كان يقرأ، قال ذات مرة:

هذه الكتب تعطيني أمل في الحياة.

كان كاظم يأخذ في السر كأساً من المستكي آخر الليل كي يقود السيارة بأعصاب باردة كما يزعم ويواصل الضحك. ثم يعود إلى بيته مع أول ضوء من خيوط الفجر.. لينام.

كنا نحفظ من ذكريات تلك الليالي الكثير، بينما كانت تلوح في ليل العراق سموم راعفات، وتتسع فيه ساحات زنازين الطغاة.

تفرقنا وراح كل منا يبحث عن ملاذ، كانت البلاد تضيق، والخوف يكبر، والبطش لا يرحم، ودّعنا كاظم  ذات ليلة، بعينين فيهما حزن وأسى. ودّعنا وفي داخله نار لم تطفئها السنين، وأحلام أوسع من المدينة التي تضيق بنا يوماً بعد يوم.

كان الوداع قصيراً، لكنه ثقيل، اختصره بعبارة واحدة:

ـ إذا غبت لا تسألوا عني، الحي منكم يذكرني بين الحين والآخر.

لم يفصح عن أي شيء، إلى أين يا أبا جواد ؟ إلى أية أرض ستقودك خطاك المتعبة، إلى أي مقام، وأية وهاد ستعبر؟ اختفى كما يختفي الحلم عند أول استفاقة.

في ظهيرة أخرى من تموز جلس حسن إلى جوار رجل يرتدي نظّارات داكنة، وقميص بأكمام طويلة، وجسد الرجل يتصبب عرقاً من شدة الزحام في باص المصلحة الأحمر ذي الطابقين، في يد الرجل اليمنى جريدة مطوية كان يحركها  بسرعة يميناً وشمالاً من أجل نسمة هواء تخفف من لهب الصيف الذي يلفح الوجوه.

ـ مرحباً كاظم! قالها حسن هذه المرة بثقة عالية، وهو يضع يده على كتفه.

لكن الرجل انتفض كمن لدغته ذاكرته:

ـ أخي أنا لست (كاظم) أنت متوهم! هذا غير بلاء! ابتعد عني، ماذا تريد مني تلاحقني؟ أرجوك كفّ عن السؤال، أنا لا أعرفك.

سكت حسن مبهوتاً، وهو يرى الرجل ينزل مسرعاً، عند أول موقف لباص المصلحة، كأن شيئاً يطارده، يريد الإمساك برقبته.

في ربيع عام 2003، كانت الديكتاتورية قد سقطت كتمثال على رؤوس العابرين، التقيا حسن وكاظم في مبنى الجريدة، كان لقاءً جنونياً، تعانقا بشدة، غرقا بالبكاء والضحك.

قال كاظم  وهو يمسح دموعه بكمّه:

ـ كنت أخشى حتى من اسمي يا حسن، صار ظلي يلاحقني، كنت في كردستان، يقتضي الواجب الحزبي النزول إلى بغداد  بين الحين والآخر في احتياطات عالية السريّة . أضحك في سري، وأنت تلحّ عليّ في السؤال (لا تفك ياخة مني)، ليس أمامي خيار، إلا أن أنكرك، وأنكر حتى مذهبك، أي خطأ أرتكبه يقودني إلى مقصلة الإعدام كما حصل مع رفاق لي آخرين. هربت إلى الجبال، والتحقت بالمقاتلين، كان الجبل بالنسبة لي وعد بالخلاص. واجهت الموت أكثر من مرة، وها أنا بلحمي ودمي، أمامك بلا خوف.

ضحكا معاً، واستعادا ذكريات جميلة، وأخرى حزينة عن شركاء لهما غابوا، صمت كاظم قليلاً، ثم عاد يتحدث بألم وهو يحمل حنيناً غامضاً إلى صوت المطبعة القديمة، وصوت محرك سيارته التي صادرها أمن النظام:

ـ ظننت أنني سأعود بطلاً.. لكن الوطن نسي البطولة. ثم ردّ حسن مبتسماً:

ـ وظلك بقي في قلبي، يمشي معي كل يوم.

ـ في أحد الليالي، قال لي رفيقي المقاتل وهو يحتضر: كاظم... في يوم ما ستعود، لا تبحث عنّا، نحن دفنّا أحلامنا تحت الثلج، احفظ أسماءنا فقط! كنت أبكي يا حسن! ها أنا أبدأ مرحلة جديدة في حياتي، اسميها " مرحلة البحث عن الخبز" لم أجد عملاً يليق بي، أو يسد رمقي، لا أحد يسأل عني، لا مطبعة تنتظرني. ولا …!

ـ ما الحل يا صديقي؟ سأله حسن ولسانه يتعثر بالكلمات.

ـ عدت إلى وطن غريب لا شيء أملك فيه، حتى الأحلام تلاشت، والأحزاب تقاسمت السلطة، تقاسمت الغنيمة، ليس أمامي سوى زاوية صغيرة في ساحة الميدان، اتفقت مع مالكها أمس، أحولها إلى دكة لبيع الشاي  للفقراء، لقاء أجور بسيطة.

يرتدي كاظم  قرب سوق الهرج معطفاً شتوياً قديماً رغم الحر، يجلس على صندوق خشبي ويحدًق في المارة طويلاً، كأنه يرى فيهم نسخاً متكررة من نفسه.

زبون يطلب شاياً:

استكان شاي ثقيل، لا تنس النعناع!

كاظم: النعناع لا يخفي مرارة الحقيقة.. لكننا نحاول.

الزبون متضايقاً: شنو عمي ؟!

ـ لا شيء اشرب شايك بالهنا.

في يوم ماطر، يجلس كاظم وحده، لا زبائن، لا صوت إلا المطر. هو بصوت مسموع:

حسن.. لو جئت لي غداً، وقلت لي مرحباً كاظم، سأردّ، أعدك... سأردّ، لكن لا تتأخر، فأنا بدأت أنسى شكل الحلم!

بعد أيام، غاب كاظم، بقي صندوق العدّة وحده، وبقايا شاي متجمد في قعر الاستكانات.

***

د. جمال العتّابي

في المثقف اليوم