أقلام ثقافية
رافد القاضي: البياض الذي يتقدّم وحده
في زمنٍ تتسارع فيه الخطوات نحو المجهول، وتتزاحم فيه الأصوات على منابر السياسة، ويعلو الضجيج فوق كل نبرة هادئة، يبقى هناك شيء صغير، بسيط متواضع، يخرج كلّ فجرٍ من قلب المدينة.. كأنه رسالة غير مكتوبة تقول إن هذه البلاد مهما طال ليلها، ما زالت قادرة على أن تنجب بياضاً خالصاً لا تشوبه شوائب الدنيا.
ذلك الشيء هو قيمر السدّة؛ ليس طعاماً، بل أثرٌ من آثار الروح العراقية، وقطعة من ذاكرة البلاد التي تتوهج كلما حاول اليأس أن يخفت الضوء.
1- البياض الذي ينهض من المدينة فهناك في أطراف المدن، حيث تختلط الحياة بالفطرة، ينشأ القيمر مثل معجزة صغيرة
لا يحتاج إلى إعلان، ولا يطلب شهرة، ولا يصرخ ليثبت وجوده.
وهو يعرف تماماً أن الأشياء الكبيرة لا تحتاج إلى ضجيج، وأن الجواهر الحقيقية لا تُرفع على منصات التصفيق.
ويكفيه أنه يولد من تعب أيدٍ ريفية أمينة من صبر ماشية عرفت معنى الجوع والمطر ومن قلب أرضٍ ما زالت رغم الخراب تتنفس صدقاً.
في كل فجرٍ، حين تُفتح الدكاكين الأولى وتبدأ الشمس بمدّ أصابعها الخجولة نحو الطريق، يخرج القيمر كأنه تحية بيضاء إلى يومٍ جديد :
“لا تخف.. لا يزال في البلاد ما يستحق التمسّك به.”
2- القيمر.. مرآة دولة لم تُعلن فالغريب أن هذا الطعام البسيط، الذي يشبه براءة الأطفال، تحوّل عبر السنين إلى مرآة يرى فيها العراقيون أنفسهم.
وهو ليس أكلاً فحسب؛ إنه بوصلة صدق في زمنٍ اختلط فيه كل شيء بينما تتعثر الحكومات في خطواتها، ويتأرجح الاقتصاد بين شائعة وأخرى، ويغرق الناس في تفاصيل يومية ثقيلة.. يبقى القيمر صريحاً واضحاً، نزيهاً ولا يعرف الغشّ؛ فالغش يفضحه فوراً ولا يعرف السياسة؛ فالسياسة تعجز عن تلويثه.
فهو لا يعرف الانقسام؛ فالناس جميعاً يتفقون على ذوقه كما يتفقون على حب أوطانهم في أعماقهم، حتى وإن كان الوجع يغطي ذلك الحب بطبقات من التعب.
فالقيمر هو النموذج الوحيد الذي استطاع أن يحافظ على هيبته وسط انهيار الهيبات الكبرى فلا وزير فوقه، ولا مسؤول فوقه ولا قرار يستطيع أن يمسّ صفاءه.
3- حين يضيق الوطن.. يفرش القيمر مساحة من الطمأنينة فالناس لا يتوجهون إلى السدّة بحثاً عن طعام فقط؛بل يذهبون بحثاً عن معنى عن لحظة هدوء تشبه الصلاة وعن طاولة صغيرة تجمع بين غرباء يلتقون بلا انتماءات، بلا ضغائن، بلا لافتات.
وتجد العامل الذي عاد من وردية ثقيلة، إلى جانب موظف أنهكته معاملات طويلة، إلى جانب شيخٍ يبحث عن طعم شبابه، إلى جانب طالبٍ يهرب من صخب المدينة..
وكلّهم يغمسون رغيفهم في القيمر، وكأنهم يغمسون قلوبهم في شيء من السلام الداخلي.
ذلك الصحن الأبيض الصغير هو استراحة وطن، لحظةٌ ينزل فيها الضجيج درجة ويتذكر الناس أنهم بشر قبل أن يكونوا أرقاماً في سجلات الدولة.
4- القيمر.. ذاكرة تُكتب بالحليب لا بالحبر
القيمر ليس وليد اليوم.
وهو حكاية تمتد إلى طفولة المدن، إلى زمن كانت فيه الحياة بسيطة، ووجوه الناس مكشوفة، وأصواتهم صافية مثل صباح ريفي وهو جزء من ذاكرة العراقي :
ذاكرة أمّ كانت تضع أمام أولادها صينية الفطور قبل أن تصحو الشمس.
ذاكرة أبٍ يقسم لقمةً واحدة بين أطفاله.
ذاكرة قريةٍ كانت الحياة فيها تقاس بالصدق لا بالمظاهر ولأن الذاكرة لا تموت، يظل القيمر يقاوم حروباً، أزمات، تغيّرات انهيارات..ويظل واقفاً في مكانه، مثل نخلة لا تهزمها الرياح مهما اشتدت.
5- شيء أبيض في زمنٍ تغيّر لونه
ما الذي يجعل القيمر رمزاً ؟
ليس الطعم وحده بل قدرته على الثبات في عالم يتغير بسرعة قدرته على البقاء ناصعاً حين يصبح كل شيء رمادياً وقدرة هذا الشعب العجيب على تحويل الأشياء البسيطة إلى رموز كبرى، حين تعجز المؤسسات الضخمة عن تقديم ما يقدمه طبق صغير من الحليب.
في زمن كثرت فيه الوعود.. القيمر لا يعد
وفي زمن غابت فيه الثقة.. القيمر لا يخون
وفي زمن أصبح فيه كل شيء قابلاً للتزييف.. القيمر لا يتزيّف، لأن نقاءه فاضح.
6- البياض الذي يشبه ما نريد أن نكون عليه حيث يبقى القيمر ليس طعاماً فقط بل درساً صغيراً في معنى الصدق.
درساً في أن البلاد يمكن أن تنهض من أبسط تفاصيلها، من حليبٍ يُغلى على نار خفيفة ومن يدٍ تعرف معنى التعب، ومن بياضٍ ينبت في مكان لم يعد يتوقع الناس منه شيئاً.
ربما لن يغيّر القيمر شكل الدولة
لكنّه يغيّر شكل الصباح.
والصباح.. هو بداية كل شيء.
ولهذا حين نقول إن قيمر السدّة “رمز” فنحن لا نبالغ،إنما نقول الحقيقة :
إنه البياض الأخير الذي ينجو كلّ يوم في بلدٍ امتلأ بالتناقضات، لكنه ما زال يحتفظ بجذوة حياة لا تنطفئ.
***
د. رافد حميد فرج القاضي







