أقلام ثقافية
نورا حنفي: من تحت الأرض

كانت لفتة طيبة من إحدى صديقات الطفولة لحضور "عزومة" على الغداء تجمعنا من بعد زمن المدرسة والامتحانات، كل الذكريات اجتمعت في مكان واحد وبنفس الشغف، سلامات وأحضان وأجواء من الألفة وربما العبث الذي كنا بحاجة إليه بعدما وقعنا في فخ المسؤوليات.
وبعد الترحيب بنا في منزلها المختنق بروائح مما لذ وطاب، وقع اختياري على مقعد بجانب صديقة لي من أيام "ابتدائي"، ومن هُنا تبدأ قصة أغرب من الخيال!
حين شعرت أن روح ما تتفحصني بنظراتها بشيء من الدهشة والسعادة، عينها على "نورا" رغم الزحام والصخب من حولنا، لم تلتفت لأي مخلوق، أنا فحسب، وهو ما زاد من توتري لدرجة أني كدت أسحب جسدي وأرحل بهدوء، ولكنها سرعان ما اقتربت مني كما لو أنها تحاصرني قبل تنفيذ خطة الهروب، وبالفعل، التصقت بي من الجانب الآخر، لأقع أنا في الوسط، بين ملامح أعرفها وأخرى مجهولة الهوية!
لقد فهمت من تلك النظرة أن لها هدف واضح.. أنا ولا شيء غيري!
فما العمل وأنا مهددة من المجهول؟!
قلبت الوجوه التي أعرفها في ذاكرتي، فهل هي منهم؟
كل الإجابات رفضت الاعتراف بها، إنها لا تنطبق على دائرة معارفي لا من قريب ولا بعيد، لا لون البشرة ولا الطول ولا الوزن، ليست في عالمي من الأساس، فمن تكون تلك الجميلة الغامضة؟!
ورغم الخوف الذي شل حركتي وقتها، طلبت من إحداهن تبديل الكراسي بسرعة، لتفعل هي الأخرى أسرع مني!
كانت مطاردة سينمائية مضحكة ومملة!
حاولت أن أتجاهلها وأنغمس في "نميمة" البنات، ولا جدوى من المحاولة.. أنا تحت المراقبة، وإنه لأمر مزعج أن تحاصرك روح لا تعرفها!
بدأت أشعر بحرارة جسدها يقترب أكثر، تصببت عرقاً وتجمدت حواسي، فلم أستطع حتى الصراخ في وجهها بأن تبتعد عني وللأبد.. كل العلامات لا تُبشر بالخير، وأنا حتماً مستهدفة من عصابات الخطف ومافيا السرقة.
تسرب القلق إلى أعماقي بجرعات أعلى، دمي يغلي ومليون سؤال وسؤال يفترس عقلي، تساءلت حينها بصوت خفي يمتزج بالندم: لمَ خرجت من بيتي هذا الصباح؟!
آه يا متهورة!
ها أنا أحارب سلبيات الانسلاخ من عزلتي مجدداً!
قررت أخيراً أن ألتقطت أنفاسي وأواجهها بلا تردد، وقبل أن أسألها عن مبررات ذلك الفيلم الهندي، باغتتني هي بالصدمة!
سألتني عن أخباري، عن سفري لدولة عربية فجأة، وعن أسباب انقطاع رسائلي عنها، لقد لمست في كلماتها لهفة صادقة، ولكن ما أثار حيرتي أنها كانت تناديني بغير اسمي بين الكلمة والكلمة!
تركتها تنطق بما في جوفها من عتاب وحنين واستفهامات لم أجد لها إجابة ولو من باب جبر الخواطر، وبعد أن هدأت العاصفة، أكدت لها بأنه مجرد سوء تفاهم:
"لست هي، فرصة سعيدة."
اصفر وجهها، ارتبكت بشدة، وأصرت أني هي وهي أنا..
رسمة العين والضحكة ورفعة الحاجب وحتى الانفعال، اشتعلت حيرتي أكثر بما قالته لي عن تفاصيل شخصية جداً جعلتني عاجزة عن التصرف!
يا ذاكرتي..
هل سافرت لتلك الدولة أو حتى فكرت فيها؟!
هل سبق وغيرت اسمي؟!
أم أنه برنامج مقالب رمضان وأنا أول ضحاياه؟!
ذاكرتي قوية، ولكنها ليست مُدربة على تسجيل أحداث من وحي خيال المؤلف وحده!
أو ربما مررت بتلك الأيام دون وعي مني!
انفصام مثلاً؟!
ولكن كيف ومتى وأنا أقضي ليلي ونهاري بغرفتي المغلقة بالضبة والمفتاح؟!
لقد حاولت في الحياة كثيراً، وهي أول محاولة للدفاع عن وجودي لهذه الدرجة، أُقسم أني "نورا" حتى لو تمنيت أن أتحرر منها في أوقات الألم، ولكني اخترتها في النهاية!
"لست هي!!"
نطقتها بحزم هذه المرة، ربما تفقد الأمل وتتركني وشأني، وليرتاح ضميري للمرة الأخيرة، طلبت منها أي إثبات يخرج بنا من المأزق، فلا الوقت ولا المكان يسمح بتلك الصراعات الوجودية!
الغريب أنها وافقت على الطلب دون تفكير، وبعد لحظات أخرجت صورة من هاتفها للفتاة، أو أنا؟!
يبدو أنها أنا!!
هالاتي السوداء، الفراغات بين الأسنان، الرموش الكثيفة.. ولكني استطعت التعرف عليها بعدما استعدت توازني، فلم تنجذب لها روحي، وهي النقطة الفاصلة في الخلاف.
استسلمت بطلة القصة أمام الواقع، واعتذرت لي على وقتي وتعكير مزاجي في سهرة لن تُعوض بسهولة.
مسكينة!
كيف لها أن تجد اختلافاً بيننا لم أجده أنا؟!
إنني وحتى اللحظة لا أعرف من أكون حقاً!
أنا من تكتب إليكم، أم تلك في استديو الهاتف؟!
وهُنا فهمت المعنى..
حين تُصادفك في جسد آخر، ستدفع نصف عُمرك لحماية وجودك، لكي تعلنها بصوت يهز العالم: "أنا هو أنا!"
أدركت كذلك أن للإنسان أبعاد أخرى، فقد يصارع أحدهم الأرق على ضوء القمر، ونسخته هُناك تحتفل بذكرى زواجها، وغيرها تقاتل المرض، وأخرى ماتت!
ولحُسن الحظ ستجد أن شبيهك لا ينتمي إليك إلا في ظاهره فقط، أنت إنسان مستقل بذاته، له إحساسه وفكره الخاص، وهو أيضاً..
ببساطة.. أنتما خطان متوازيان.. لا يلتقيان.
لن أنكر أني اضطربت بعد إدراك حقيقة "يخلق من الشبه أربعين"، صحيح أني سمعت عنها مراراً من "حواديت" الأجداد، ولكن الأمر اختلف بعد أن عشتها بنفسي، وسرعان ما سعدت بها!
الآن اطمأنت روحي بأن الدنيا لن تحكم على وجودي بالإعدام طالما أن هُناك ملامح تنبض بي حتى وإن ابتلعني العدم، وكلما نالت الدنيا مني، خرجت أرواح من تحت الأرض تقتص لي منها.. وهو كل المطلوب.
"ممكن رقم تليفونك؟"
كانت آخر كلماتي لها قبل أن ينفض المجلس، وأنا الآن صديقتها الجديدة، بدلاً من نسختي الضائعة!
***
بقلم: نورا حنفي - كاتبة مصرية