أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: حضارة الكذب.. المأزق الأخلاقي لعالم اليوم؟

يكشف سلافوي جيجيك(1) المفارقة السياسية للكذب. ما تسمى مفارقة الكاذب Liar paradox statement مثل القول "كل ما أقول هو كذب" جرى نقاشها دائما من جانب الفلاسفة بدءاً من فلاسفة اليونان والهند حتى فلاسفة القرن العشرين. المفارقة هي اذا كان هذا القول صادق عندئذ فهو كاذب (كل ما أقول ليس كذبا)، والعكس صحيح. وبدلا من الضياع اللامتناهي في حجج وحجج مضادة، سوف نستفيد من جاك لاكان 1901-81)، الذي يقدم حلا فريدا من خلال التمييز بين محتوى التعبير enunciation والموقف الذاتي المتضمن في هذا التعبير enunciated: بين محتوى ما تقول والموقف المتضمن بما تقول. في اللحظة التي نستخدم فيها هذا التمييز، نرى فورا ان القول "كل ما أقول هو كذب" يمكن ان يكون ذاته صادقا او كاذبا. القول"انا دائما أكذب" يمكنه ان يجعل بشكل صحيح او غير صحيح التجربة الذاتية لكامل وجودي غير أصيلة وزائفة. لكن العكس ايضا صحيح.
لماذا نبذل وقتا في النقاش اللامتناهي بمثل هذه المفارقات؟ لأن في عصرنا عصر"ما بعد الحقيقة" للشعبوية اليمينية، بلغ تطبيق هذه المفارقة حدوده القصوى. لذا فان خطاب السياسيين اليوم لا يمكن فهمه بدون التمييز بين التعبير من جهة وما ينطوي عليه من جهة اخرى.
بعد إعادة انتخاب ترامب عام 2024، ناشدت الكسندريا اوكاسيو علنا (التي احتفظت بمقعدها في الكونغرس) اولئك المصوتين لها والذين ايضا صوتوا لترامب ان يوضحوا لماذا قاموا بهذا التصويت الغريب وغير المنسجم. قيل لها ان السبب هو انه بالمقارنة مع التلاعب الانتخابي لكاميلا هاري والديمقراطيين الاخرين، هي وترمب كلاهما بديا أكثر ثقة. هذا ايضا يفسر لماذا، عندما يقع ترامب في فخ اللاانسجام او الكذب الصريح، فان مثل هذا الافصاح يساعده: أنصاره يأخذون من كذبه كبرهان على انه يتصرف ككائن بشري عادي لايثق فقط بخبرائه المختصين وانما يقول رأيه بصراحة. ان اللاانسجام والكذب في المحتوى المنطوق لأقوال ترامب يعمل كإشارة بانه في مستوى موقف النطق، يتحدث ترامب كانسان أصيل وصادق. هذا يثبت ان الموقف المتضمن في النطق يمكن ان يكون أيضا مزيفا.
ستراتيجية الكذب
الحقيقة الذاتية هي في تضاد مع الحقيقة الواقعية factual truth بطريقة مشابهة للتضاد بين الهيستيريا والعصاب الوسواسي: الاول هو حقيقة في شكل كذبة، والثاني هو كذبة في شكل حقيقة. الهيستيري يقول الحقيقة في شكل كذبة بحيث ما يقال ليس صحيح تماما وانما الكذب يعبر بشكل زائف عن شكوى حقيقية، امّا ما يدّعيه العصابي الوسواسي هو في الواقع صحيح لكنه حقيقة تخدم الكذب.
اليوم، كلا اليمين الشعبوي واليسار الليبرالي اللذان يدعوان للتصحيح السياسي يمارسان هذين الشكلين التكميليين للكذب. اولاً كلا المجموعتين تستخدمان الكذب الواقعي عندما يخدم هذا الكذب ما يتصورونه كحقيقة عليا لقضيتهم. فمثلا، بعض الاصوليين الدينيين يدعون الى "الكذب من أجل يسوع": لكي تُمنع الجرائم المرعبة للاجهاض، يُسمح للمرء بنشر "حقائق" علمية كاذبة حول الأجنة والمخاطر الطبية للاجهاض، او لكي يساعدوا في اشاعة الرضاعة الطبيعية، يُسمح للمرء بعرض ادّعاء كـ حقيقة علمية بان الإمتناع عن الرضاعة الطبيعية يسبب سرطان الثدي. الشعبويون المناوئون للهجرة يتداولون بلا خجل قصصا غير واقعية حول الاغتصاب والجرائم الاخرى للاجئين لكي يعطوا مصداقية لرؤاهم بان اللاجئين يشكلون تهديدا "لإسلوبنا في الحياة". في كثير من الاحيان، ليبراليو التصحيح السياسي يعملون بنفس الطريقة لهدف مضاد، هم يعملون بصمت حول الاختلافات الفعلية بين طرق حياة اللاجئين والاوربيين، طالما يُنظر الى ذكرها كتعزيز للمركزية الاوربية. ونتذكر حالة روثرهام في المملكة المتحدة، حيث قبل عقد تقريبا، اكتشف شرطي ان عصابة من الشباب الباكستانيين كانوا يحضرون منهجيا لإغتصاب الاف الشابات الاوربيات الفقيرات، البيانات جرى تجاهلها في البدء او قُلل من شأنها لكي لاتثير الاسلامفوبيا.
الاستراتيجية المضادة ايضا مورست على نطاق واسع في كلا القطبين. الشعبويون المناوئون للهجرة لا ينشرون فقط اكاذيب واقعية وانما ايضا يستخدمون بمهارة اجزاءً من الحقيقة الواقعية ليضيفوا هالة من الصدق على أكاذيبهم العنصرية، كما ان انصار الحزب الشيوعي ايضا مارسوا هذا النوع من الكذب في صراعهم ضد العنصرية والتمييز الجنسي، هم كثيرا ما أعلنوا عن حقائق يمكن التحقق منها لكنهم يقدمونها بطريقة مشوهة. اليمين الشعبوي ينقل إحباطه الحقيقي وإحساسه بالخسارة الى عدو خارجي، بينما اليسار الشعبوي يستعمل قضاياه الصحيحة (اكتشاف التمييز الجنسي والعنصرية في اللغة) ليعيد الزعم بتفوقه الاخلاقي (وهكذا يمنع التغير الاجتماعي الاقتصادي الحقيقي). المفارقة الكبرى هي ان اليمين الشعبوي يمارس النسبية التاريخية بوحشية اكثر من اليسار، حتى عندما يدينونها في نظريتهم. مع ذلك، الموقف الصحيح هو ليس فقط التمسك بالحقيقة الواقعية، بمعنى ان، هناك "حقائق بديلة" – رغم انها ليست بالمعنى الذي حدث فيها الهولوكوست او لم يحدث. (بالمناسبة، جميع المحققين في الهولوكوست من ديفد ايرفينغ فصاعدا، الذين يدّ عون التحقق من البيانات بطريقة تجريبية صارمة – لا أحد منهم يستحضر نسبية ما بعد الحداثة).
البيانات تقدم ميدانا شاسعا وغير قابل للاختراق، ونحن دائما نقترب من زاوية ما تسميه التأويلات "افق الفهم"، مفضلين بعض البيانات ومتجاهلين اخرى. كل تاريخنا هو بالضبط – قصص يمكن القول عبارة عن مجموعات من بيانات منتقاة في قصص منسجمة بدلا من نسخ فوتوغرافية للواقع. فمثلا، مؤرخو اللاسامية يمكنهم بسهولة كتابة رؤية لدور اليهود في الحياة الاجتماعية للألمان في العشرينات من القرن الماضي، مشيرين الى الكيفية التي سيطر بها اليهود على مهن مثل المحاماة والصحافة والفن، وبغض النظر عن مدى صحتها، فهي من الواضح تعمل في خدمة الكذب. اكثر الكذب كفاءة هو الكذب الذي يعيد انتاج فقط البيانات الواقعية.
لو أخذنا تاريخ بلد ما، يمكن لأحد ما شرح ذلك التاريخ من وجهة نظر سياسية، مركزا على تقلبات السلطة السياسية، او ربما شخص آخر يمكنه التركيز على التنمية الاقتصادية، على الصراعات الايديولوجية، على البؤس الشعبي والاحتجاجات .. أي واحد من هذه الاتجاهات يمكه ان يكون دقيقا واقعيا لكنه ليس "صحيحا" بالمعنى الصارم البعيد عن الشك. لا يوجد هناك شيء "نسبي" حول حقيقة ان تاريخ الانسان دائما قيل من وجهة نظر معينة، جرى الحفاظ عليها بواسطة مصالح ايديولوجية. الشيء الصعب هو ان تبيّن كيف ان وجهات النظر النفعية هذه ليست صحيحة ايضا. بعضها اكثر صدقا من غيرها. فمثلا، عندما يعرض أحد قصة المانيا النازية من وجهة نظر معاناة اولئك الذي اضطُهدوا منها – أي، اذا تأثرنا في سردنا بمصلحة الانعتاق الانساني العالمي – هذه ليست فقط مسألة وجهة نظر ذاتية مختلفة، هذا السرد للتاريخ هو دائما "اكثر صحة" طالما هو يصف بكفاءة ديناميكية الكلية الاجتماعية التي أفرزت النازية. جميع "المصالح الذاتية" ليست نفس الشيء، ليس فقط بسبب ان بعضها مفضلة اخلاقيا على الاخرى، وانما ايضا بسبب ان "المصالح الذاتية" لاتقف خارج التكامل الاجتماعي، بل هي ذاتها أهداف للتكامل الاجتماعي، تكونت بواسطة مشاركين نشطين "او سلبيين" في العمليات الاجتماعية. ذلك يفسر لماذا لا يوجد هناك "ابلاغ "محايد" او "موضوعي" في حرب الشرق الاوسط، ولا حول القمع الروسي ضد اوكرانيا. يستطيع المرء قول الحقيقة حولها فقط من وجهة نظر الضحية . كتاب يورغن هابرماس (المعرفة والمصالح الانسانية، 1968)، هو اليوم الاكثر ملائمة من أي وقت مضى.
الكذب السلبي والكذب النشط
لكي نوضح هذا البُعد، يجب ان نوظف فكرة اخرى تلعب دورا حاسما في تحليل ايديولوجية اليوم: فكرة التداخل السلبي interpassivity التي طورها روبرت فولر. التداخل السلبي هو المضاد لفكرة هيجل في (دهاء العقل)، التي نكون بها نشطين من خلال الاخرين.
فكرة هيجل هي اني هل استطيع البقاء سلبيا، أجلس بارتياح في الخلف، بينما يقوم الاخرون بالعمل لي. بدلا من ضرب المعدن بمطرقة، تستطيع الماكنة القيام بذلك لي، بدلا من ان أقوم بتشغيل الطاحونة بنفسي، يستطيع الماء القيام بذلك. هنا انا احقق هدفي بطريقة التداخل بيني وبين الشيء الذي فيه أعمل شيء طبيعي آخر. لكن نفس الشيء يمكن ان يحدث على المستوى الشخصي. بدلا من ان أهاجم العدو مباشرة، انا استطيع اثارة قتال بينه وبين شخص آخر، بذلك انا استطيع ان اشاهد بارتياح الاثنين يحطمان بعضهما البعض. في حالة التداخل السلبي، على العكس، انا سلبي من خلال الآخر. انا أعترف للاخر بالمظهر السلبي – التمتع – بتجربتي، بينما انا ذاتي أبقى منخرطا بنشاط. انا استطيع الاستمرار بالعمل مساءً، بينما مسجل الفيديو يستمتع سلبيا بالتلفزيون لي، انا استطيع عمل ترتيب مالي لثروة المتوفي بينما الباكون يحزنون.
هذا يقودنا الى فكرة الفعالية الزائفة: الناس لا يتصرفون فقط لكي يغيروا شيئا ما، هم يستطيعون ايضا التصرف لمنع شيء ما من الحدوث او لكي لايتغير اي شيء. هنا تكمن الاستراتيجية الاساسية للعصاب الوسواسي. هو نشط بشكل محموم لكي يمنع الشيء الحقيقي من الحدوث. لنتصور، في موقف جماعي يحصل توتر يهدد بالانفجار، المهوسون يتحدثون كل الوقت لكي يمنعوا اللحظة المحرجة للعلم التي سوف تقنع المشاركين ليواجهوا علنا التوتر الاساسي.
ونفس الشيء، يحصل في علاجات التحليل النفسي، المصاب بالوسواس العصبي يتحدث باستمرار، يغرق المحلل بالحكايات والأحلام والرؤى. هذا النشاط المتواصل مدعوم بالخوف الاساسي بانهم لو أوقفوا الحديث للحظة، فان المحلل سوف يسألهم السؤال الخطير الذي يهم حقا. بكلمة اخرى، هم يتحدثون لكي يجعلوا المحلل ساكنا. حتى في الكثير من السياسات التقدمية اليوم، الخطر ليس السلبية وانما في النشاط الزائف المتحفز ليكون نشطا ومشاركا حتى لو بدون انتاجية. الناس يتدخلون كل الوقت، محاولين القيام بشيء ما، الاكاديميون يشاركون في نقاشات بلا معنى، الصعوبة الحقيقية هي التراجع خطوة الى الوراء والانسحاب. اولئك الذين في السلطة عادة يفضلون المشاركة النقدية على الصمت – لإشغالنا في حوار فقط للتأكد من كسر السلبية المشؤومة. التأكيد اللامتناهي على ضرورة الفعل، القيام بشيء ما، عادة يخون الموقف الذاتي في عدم القيام بأي شيء. كلما تحدثنا كثيرا حول كوارث بيئية وشيكة، كلما كنا أقل استعدادا للعمل. بالضد من نموذج التدخل السلبي الذي نكون به نشطين كل الوقت لضمان ان لا يتغير شيء، اول خطوة حاسمة في معارضته هي الانسحاب الى السلبية ورفض المشاركة. هذه الخطوة الاولى تمهد الطريق لنشاط حقيقي. الاشياء تصبح اكثر تعقيدا في عملية الإعتذار.عندما أتسبب بأذى لشخص ما، الشيء المناسب الذي أقوم به هو ان اقدم له اعتذارا رقيقا، والشيء الملائم له للرد هو قول شيء مثل "شكرا، انا اقدر شعورك لكني لم أكن منزعجا، لذا انت حقا لا تدين لي بأي اعتذار". المسألة بالطبع، انه رغم ان النتيجة النهائية هي ان لا اعتذار مطلوب، لكن المرء يجب ان يمر من خلال كامل عملية تقديم الاعتذار: "انت لا تدين لي باعتذار" يمكن قولها فقط بعد ان اقدم الاعتذار. لذا بالرغم من عدم حدوث شيء رسمي – لأن تقديم الاعتذار اعلن انه غير ضروري – هناك في نهاية العملية ربما يتم الاحتفاظ بالصداقة. الاعتذار نجح بالضبط من خلال اعلانه زائد عن الحاجة.
الحزب الشيوعي الصيني وفر نموذجا مشابها لإستغلال الفجوة بين المنطق والمنطوق. هو تعلّم درسا من فشل غورباشوف في ان الاعتراف التام علنا بـ "الجرائم التأسيسية" للنظام لن تؤدي الاّ الى سقوط النظام بأكمله. لذا فان تلك الجرائم يجب ان تبقى غير معروفة. حقا، بعض أخطاء وتجاوزات الماويين تم التنديد بها (القفزة الكبرى للامام والمجاعة المدمرة التي تبعتها، والثورة الثقافية)، وتقييم دينغ لدور ماو كـ 70% ايجابي و 30% سلبي، هو تكريس للصيغة الرسمية. لكن هذا التقييم يعمل قصداً كإستنتاج رسمي يجعل أي توضيح مفصل آخر غير ضروري. حتى عندما كان ماو سيئا بنسبة 30%، فان التأثير الرمزي لهذا الإعتراف هو محايد، لكي يستمر الاحتفال به كأب مؤسس للامة، لايزال جسده في ضريح وصورته على كل ورقة نقدية.
نحن نتعامل هنا مع حالة واضحة لإنكار يشبه انكار الشذوذ الجنسي. رغم اننا نعرف جيدا ان ماو ارتكب اخطاءً كبيرة وسبّب معاناة هائلة، لكن شخصيته تم الحفاظ عليها بطريقة اسطورية غير ملوثة بهذه الحقائق. بهذه الطريقة، يمكن للشيوعيين الصينيين امتلاك حصتهم من الكعكة، وان التغيرات الراديكالية التي أدت الى تحرير اقتصادي يمكن دمجها في استمرارية نفس الحزب الحاكم كما في السابق.
العملية هنا هي عملية تحييد (او كما يسميها فرويد "عزل"): انت تعترف باشياء فضيعة، لكنك تمنع جميع ردود الافعال الذاتية عليها (رعب مما حدث). ملايين الوفيات اصبحت حقيقة محايدة. اليوم، عندما يعلن إعلام اسرائيل وبعض الغرب عن تدمير غزة، هل انهم لا يمارسون نفس الحيادية؟ ارهابيو حماس يعذبون ويقتلون، بينما ضحايا جيش الدفاع الاسرائيلي تتم تصفيتهم وابادتهم ..
الشائعات والكذب
هناك شائعات تعمل بطريقة غريبة فيما يتعلق بالحقيقة: الحقيقة الواقعية للشائعة يتم تعليقها او تُعامل كشيء غير مادي (انا لا أعرف ان كانت حقيقية لكن هذ ما سمعته)، بينما محتوى الشائعة يحتفظ بكامل فاعليته الرمزية – نحن نستمتع بها، إعادة سردها بشغف (يمكن الوثوق هنا بكتاب الشائعات، للكاتب ملادن دولار، 2024).
لذا انه ليس نفس الشيء كإنكار الشذوذ الجنسي، التي تشبه كثيرا "انا أعرف جيدا انها ليست صحيحة لكن مع ذلك انا اعتقد بها"، بل هو عكسها – شيء مثل "انا لا استطيع القول باني اؤمن بان هذا صحيح، هذا حدث حقا لكن مع ذلك هذا ما أعرفه".
وفيما يتعلق بممارسة السلطة، يبدو حيز الشائعات غامضا. الشائعات القذرة يمكن ان تحافظ على السلطة (من أتاتورك الى تيتو) لكن الشائعات ايضا تلعب دورا حاسما في الاضطرابات بما في ذلك الاضطرابات المناوئة للمهاجرين (كما ذكرنا ان اوربا الآن مليئة بالشائعات ضد المهاجرين الذين يغتصبون النساء، وكيفية مراقبة السلطات للاخبار حول تلك الاغتصابات). هناك ايضا ما يرغب المرء تسميته "شائعات جيدة" – تلك التي تكون مطلوبة لإثارة انفجار ثوري. مثال تاريخي هو الخوف الكبير، الرعب العام الذي حدث بين السابع عشر من جولاي والثالث من اغسطس عام 1789 في بداية الثورة الفرنسية .
الشائعات يُنظر اليها باعتبارها تنسجم تماما مع مأزق اليوم والذي يصفه العديد من الناس بـ "موت الحقيقة" – توصيف هو بالتأكيد خاطئ. ما يقصده اولئك الذين يستعملون هذه العبارة هو انه في السابق (لنقل حتى الثمانينات من القرن الماضي)، رغم كل الاستغلال والتشويهات، ظلت الحقيقة سائدة بطريقة او باخرى، بحيث ان عبارة "موت الحقيقة"هي نسبيا ظاهرة حديثة. لكن نظرة عامة سريعة تخبرنا ان هذه ليست هي الحالة: كم من الانتهاكات لحقوق الانسان والكوارث الانسانية بقيت غير مرئية، من حرب فيتنام الى غزو العراق؟ فقط لنتذكر فترات حكم ريغن ونكسون وبوش ... الفرق لم يكن ان الماضي كان اكثر صدقا وانما ان سيادة الايديولوجية كانت اكثر قوة، بحيث، بدلا مما نراه اليوم من صراع كبير ملتبس في الحقائق المحلية، فان حقيقة واحدة (او كذبة كبيرة) بقيت اساسا هي السائدة.
في الغرب، كانت هذه هي حقيقة الديمقراطية الليبرالية (مع اليسار او اليمين).ما يحدث اليوم هو انه مع موجة الشعبوية التي زعزعت استقرار المؤسسة السياسية، نجد ان الحقيقة/الكذب التي خدمت كأساس ايديولوجي لهذه المؤسسة هي ايضا تنهار. والسبب الحتمي لهذا التفكك هو ليس ظهور نسبية ما بعد الحداثة وانما فشل المؤسسة الحاكمة في كونها لم تعد قادرة على الحفاظ على سيادتها الايديولوجية.
نستطيع ان نرى الآن ماذا يعارض حقا اولئك الذين يحزنون على "موت الحقيقة". تفكك قصة واحدة كبيرة مقبولة بدرجة ما من جانب الاغلبية جلبت استقرار ايديولوجي للمجتمع. ان سر اولئك الذين يلعنون "النسبية التاريخية" هو انهم يفتقدون الموقف الآمن الذي به توفر حقيقة كبرى واحدة (حتى لو كانت كذبة كبرى) الخرائط المعرفية الاساسية للجميع. باختصار، ان الذين ينددون بـ "موت الحقيقة" هم اكثر الاشخاص الراديكاليين لهذا الموت: شعارهم الضمني المنسوب الى غوتة" اللاعدالة افضل من الاضطراب" يعني كذبة كبيرة أفضل من واقع مزيج من صدق وكذب.
لذا عندما نستمع الى ادّعاءات بان المجتمع ينهار مع الإنهيار المستمر للنظام البيئي، يجب ان نكون واضحين جدا حول ما تعنيه تلك الادّعاءات: ليس فقط ان الاكاذيب تنتشر بكثرة وانما ان الكذبة الكبرى التي هي حتى الان تحافظ على التماسك الاجتماعي هي تتفكك. ان "موت الحقيقة" يفتح إمكانية لحقيقة أصيلة جديدة او لكذب كبير أكثر سوءاً. ألمْ يحدث هذا اليوم مع تراجع الديمقراطية الليبرالية والتي تدريجيا طغت عليها شخصيات متعددة من الفاشية الجديدة، بدءاً من الشعبوية الإقطاعية حتى الإستبداد الديني؟
***
حاتم حميد محسن
..........................
Philosophy Now June/July2025, issue 168
(1) سلافوي جيجيك Slavoj Zizek مدير معهد بيركيك للانسانيات في جامعة لندن، استاذ زائر في جامعة نيويورك، باحث أقدم في قسم الفلسفة بجامعة Ljubljana في سلوفانيا.