قضايا
غالب المسعودي: سرديات السلام بالقوة والأخلاق النيتشوية

هناك أبعاد فلسفية مهمة في السرديات التاريخية وفلسفة الأخلاق عند فريدريك نيتشه، من الموضوعات المركزية في فلسفة فريدريك نيتشه هي الأخلاق، حيث تتسم بالتحدي للأخلاق التقليدية والدين، دعا نيتشة إلى ما يسميه "الأخلاق السيادية" أو "أخلاق الأسياد"، والتي تركز على القوة والإرادة الفردية، حيث يُعتبر الفرد هو المعيار الأخلاقي، تعتبر "إرادة القوة" مفهومًا أساسيًا في فلسفته، حيث يعتقد أن الدافع الأساسي للإنسان هو السعي نحو القوة والتفوق، يرى أن القيم ليست ثابتة، بل تتغير وفقًا للثقافات والسياقات المختلفة، و يدعو إلى إعادة النظر في القيم التقليدية كما روج نيتشه لفكرة (الإنسان الأعلى) الذي يتجاوز القيود الأخلاقية التقليدية ويعيش وفقًا لقيمه الخاصة كما يرى نيتشة ان التاريخ كعملية خلق مستمرة، حيث يمكن للأفراد أن يكون لهم دور فعال في تشكيل قيم ومعاني جديدة، يمثل نيتشه تحولًا في فلسفة الأخلاق والتاريخ، حيث يدعو إلى إعادة التفكير في القيم والمفاهيم التقليدية، ويشجع الأفراد على البحث عن معاني جديدة في سياق تاريخي جديد.
السلام بالقوة وفلسفة نيتشة
هناك علاقة يمكن استكشافها بين فلسفة السلام بالقوة في الفكر الرأسمالي وفلسفة الأخلاق عند نيتشه، اذ اعتبر نيتشه (إرادة القوة) دافعًا أساسيًا في الطبيعة البشرية، في سياق الرأسمالية، يمكن أن يُفهم السعي وراء القوة الاقتصادية والسيطرة على الموارد كامتداد لهذا المفهوم، أطروحة (السلام بالقوة) تشير إلى أن السلام يمكن تحقيقه من خلال القوة العسكرية أو الاقتصادية، هذه الفكرة تتماشى مع تفكير نيتشه حول القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف، ويراها وسيلة لإعادة تشكيل العالم، نيتشه يشدد على أهمية الأفراد الأقوياء القادرين على خلق قيم جديدة(سوبر مان)، في الرأسمالية الأفراد أو الشركات القوية يمكن أن يسهموا في تشكيل الاقتصاد والمجتمع وفق رؤاهم، مما يعكس فكرة نيتشه عن الاخلاق، في السياق الرأسمالي، يمكن أن يُفهم السعي نحو النجاح الاقتصادي كوسيلة لتحقيق الذات، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى تناقضات أخلاقية، لذلك يمكن القول إن هناك تداخلًا بين فلسفة نيتشه وفلسفة السلام بالقوة في الرأسمالية، حيث كلاهما يتعامل مع مفهوم القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف دون النظر بعناية في الآثار الأخلاقية والاجتماعية لهذه الأفكار.
السرديات الثورية وفلسفة السلام بالقوة
السرديات الثورية غالبًا ما تحمل مفهومين، مفهوم الحرب العادلة وفلسفة السلام بالقوة، الثورات عادة تُعتبر ناتجة عن ظلم أو قمع، مما يجعلها تُصنف في بعض الأحيان كحرب عادلة، حيث يسعى الثوار لتحرير أنفسهم أو الدفاع عن حقوقهم، الثورات تتضمن استخدام القوة لتحقيق التغيير، مما يتماشى مع فكرة السلام بالقوة، الثوار يرون أن القوة ضرورية لإجبار النظام القائم على الاستجابة لمطالب الشعب، في بعض الحالات تؤدي الثورات إلى فوضى وصراعات مستمرة، مما يتناقض مع الهدف المتمثل في تحقيق السلام، و قد ينتهي الأمر إلى استبداد جديد، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الحرب كانت (عادلة) حقًا .
الإمبريالية ومفهوم الحرب العادلة
تعتبر الإمبريالية فلسفة اقتصادية استغلالية تتعارض في كثير من الأحيان مع مفهوم الحرب العادلة والأخلاق. الإمبريالية تعتمد على استغلال الموارد البشرية والطبيعية في الدول الضعيفة لتحقيق مكاسب اقتصادية. هذا يتعارض مع المبادئ الأخلاقية التي تدعو إلى العدل والمساواة، مفهوم الحرب العادلة يتطلب وجود أسباب مشروعة للدفاع عن النفس أو حماية الضعفاء. الإمبريالية غالبًا ما تستخدم القوة لتحقيق مكاسب اقتصادية، مما يجعلها تتعارض مع فكرة الحرب العادلة التي تتطلب أسبابًا أخلاقية، رغم ان نيتشه كان ناقدًا للأخلاق التقليدية التي تروج للضعف وكان يدعو إلى القوة والإرادة، إلا أن استغلال الضعفاء باسم القوة يتناقض مع فكرة (الإنسان المتفوق) الذي يسعى لخلق قيم جديدة، ان استخدام القوة لتحقيق أهداف اقتصادية في سياق الإمبريالية يمكن أن يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان، مما يتعارض مع الأخلاق التي تركز على القوة الفاعلة والإبداع كما تتعارض الإمبريالية مع مفهوم الحرب العادلة، حيث تروج للاستغلال بدلاً من العدالة، تحتاج المجتمعات إلى التفكير في كيفية تحقيق القوة والإرادة بطريقة تتماشى مع القيم الإنسانية، بدلاً من تعزيز الأنظمة الاستغلالية.
الماركسية والسرديات التقليدية
قدم ماركس تحليلًا عميقًا للعلاقات الاقتصادية، مشيرًا إلى أن الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ، توقع أن الرأسمالية ستؤدي إلى تفاقم التناقضات الاجتماعية، مما ينتهي إلى ثورات عمالية بينما تركز السرديات التاريخية التقليدية على الأحداث الكبرى، فإن ماركس ينظر إلى الصراع الطبقي كعنصر أساسي في تشكيل التاريخ. هذا يوفر إطارًا لفهم تطور الرأسمالية بشكل أكثر شمولاً، ماركس اعتبر الرأسمالية مرحلة تاريخية ضرورية، تليها الاشتراكية، هذا التحليل يتيح فهمًا أفضل للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي قد لا تكون واضحة في السرديات التقليدية بينما كان العديد من المؤرخين التقليديين يصفون الأحداث، كان ماركس يسعى للتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، هذا التحليل النقدي يعكس فهمًا عميقًا لكيفية تأثير الديناميات الاقتصادية على المجتمع، يمكن القول إن السرديات التاريخية التقليدية لم تكن قادرة على توقع التطور الرأسمالي بالعمق الذي قدمه ماركس، تركيزه على العلاقات الاقتصادية والصراع الطبقي يوفر إطارًا أعمق لفهم التغيرات التاريخية، مما يجعله أكثر قدرة على التنبؤ بتطورات المستقبل.
(السلام بالقوة) والسياق التاريخي
قد يُعتبر (السلام بالقوة) نوعًا من الاستقرار المؤقت، حيث يتم فرض السلام من خلال القوة العسكرية أو الهيمنة. هذا النوع من السلام قد يؤدي إلى هدوء سطحي، لكنه لا يعالج الأسباب الجذرية للنزاع، مما يجعله هشًا، يمكن أن يُنظر إلى (السلام بالقوة) كاستسلام للظروف السياسية أو الاقتصادية. في حالات معينة، قد تقبل الأطراف المعنية الاستسلام لمجموعة من الظروف القهرية، مما يؤدي إلى سلام غير حقيقي، السلام الذي يُفرض بالقوة غالبًا ما يفتقر إلى العدالة، إذا كان السلام يأتي على حساب حقوق الأفراد أو الجماعات، فإنه لا يُعتبر سلامًا حقيقيًا، بل هو نوع من السيطرة، فرض السلام بالقوة يمكن أن يؤثر سلبًا على الهوية الثقافية والاجتماعية للأفراد، هذا النوع من السلام قد يؤدي إلى مشاعر الاستياء والرفض، مما قد يُشعل النزاعات مرة أخرى في المستقبل. يتطلب فهم (السلام بالقوة) النظر إلى السياقات التاريخية والسياسية، في بعض الحالات، قد يكون السلام بالقوة ضروريًا لوضع حد للصراعات، لكن يجب أن يكون مصحوبًا بخطط طويلة الأمد لتحقيق العدالة والاستدامة، السلام الذي يُفرض بالقوة قد يواجه تحديات مستقبلية، حيث يمكن أن يؤدي إلى إعادة إشعال النزاعات بعد فترة من الوقت، إذا لم تُعالج القضايا الأساسية، فإن السلام سيكون عرضة للتفكك، بينما يمكن أن يقدم (السلام بالقوة) نوعًا من الاستقرار، فإنه غالبًا ما يكون غير مستدام ويفتقر إلى العدالة. السلام الحقيقي يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المعنية، تلعب الذاكرة الجماعية دورًا محوريًا في تشكيل سرديات الثورة والعنف، حيث تؤثر في كيفية فهم المجتمعات لتجاربها التاريخية. حيث تؤثر في الهوية الجماعية والفهم التاريخي، من خلال تحليل هذه الذاكرة، يمكننا فهم كيفية تشكلت الأحداث التاريخية وتأثيرها على المجتمعات الحالية.
***
غالب المسعودي – باحث عراقي