أقلام فكرية

سامي عبد العال: العقل خارج الرأس

ليس العقلُ مَلكةً ولن يكون، بل خطأ اعتباره (حاسةً خفيةً) تشرفُ على الحواس الأخرى. فذلك يعني أنَّ دوره فارغ الدلالة لا محالة، وأنَّه ليس مناطَ الفهم والفعل في حياة الإنسان. يسُوق تراث اللغة العربية "تعريفاً ثقافياً" عجيباً للعقل، من حيث كونه (رابطاً للأفكار) لا أَكثر ولا أقل. رَبطَ الرجلُ الناقةَ.. أي أوثقها ساكنةً دون الحركة مخافة الشُرود. وجذرُ العقل في العربية آتٍ من العِقَال دالاً على"عِقَال البعير". أي ثنائية (العَقْل والعِقَال) تجاه قدرات البشر طالما ثمة إمكانية للهيمنة. ذلك من باب قيادة الكائنات البشرية سائرةً بحسب التقاليد الغالبة. يعقل الإنسانُ الأحوال ... يتدّبرها وفقاً لمرجعيةٍ ما، يقلّبُها ربطاً بكافة الأبعادَ والجوانبَ.

ولكن السؤال: ألَاَ يُجدد التبادل الدلالي بين(البعير) و(الإنسان) إشكاليةَ الفكر والسلطة لدينا؟! ما وجه الطرافة في اعتبار العقل عِقَالاً في المجال العام؟ ما معنى أنْ يخرج العقل من الرأس؟!

عقال بعير

عِقال البعير حبلٌّ مصنوعٌ لغرضٍ يومي: هو استعمال قدرتنا على ترويض الحيوانات الشاردة. وعندما يقوم العقلُّ بمهمةٍ كهذه للجانب الحيواني من الإنسان، فهناك إسقاط لترويض غرائزه وحواسه بالطريقة ذاتها. وهذا دور أخلاقي مُسيَّس في غير موضعه. فكل ترويض لطبائع الحيوان داخلنا لا يخلُو من سياسةٍ ما أيا كانت الأنظمة الاجتماعية الواقفة بالخلف. أشارت الثقافة العربية: أنّ العقل يحُول دون انحراف الإنسان ويُهذّب رغباته. أي يشكل العقل لوناً من سياسة الكائنات البشرية إزاء قدراتها الجسدية والنفسية. إلى تلك الدرجة، جاء الإنسان كالدّابة الموثوقةِ، بينما جاء (عقدُ العِقَال) إزاء الآخرين بوصفه دوراً منتظراً للعقل. فهو (رابط عام) يتعيّن له تحديد مشروعية الفكر وماهية الأشياء والعلاقات بين الناس.

عمليّاً تقول الفكرة السابقة: ليكُن العقلُّ رابطاً لوجودنا، حتى يضع الإنسان عقله في رأسه لا مكان آخر. أي يضع مصدر المشاكل والدهشة والانتباه في تلافيف رأسه منعاً للازعاج. والرأس هي الحاملة للوعي، رمز الشموخ والخُيلاء، وكذلك علامة مُعلنة كمحلٍّ للإدانه. خلال التراث العربي الاسلامي، عندما كان يتم الاقتصاص من شخصٍ قاتل، يجري جز رقبته بالسيف. علامة تنال منه مثلما قتل هو انساناً غيره. ثمَّ إنَّ هناك استعمالاً متعدداً لكلمة الرأس، فيقال: رأسُ الأمر.. أي لبهُ وجوهره. رأسُ الحكمة.. أي منبع التدبُر والقرار القويم. ورأس التفكير.. أي مركز توجه الإنسان ومحرك أفعاله. المثل الشعبي يُردد:" اللي عقله في راسه يعرف خلاصه". حينما تفكر تجاه الاحداث حولك، ستُدرك حينها كيف تكسر الدائرة؟ دائرة ترسم مجالات الفعل ورد الفعل بلا طائل. حيث تكون مقيداً بما يُملى عليك لتُردد الأفكار جيئةً وذهاباً، ثم لا تتطلع إلى أكثر من ذلك!!

مَنْ قيّدَ العقل؟

كلُّ هذا دون إثارة الأسئلة المزعجة: من وضَع العقل ثقافياً في الرأس؟ مَنْ صنع الحدثَ محل الخلاص أصلاً؟ مَنْ رسمَ الدائرة للإنسان ابتداءً؟ ولماذا علينا الالتزام بها حتى نكون عقلاء؟ ولماذا يحمل الخلاص إدانة سلفاً لصاحب العقل؟ كأنّه ينبغي لمَنْ يعقل من الناس: أنْ يقع متهماً قبل أنْ يفعل أي شيء. وينبغي له السقوط في دائرة ليس صانعاً لها، وعليه البحث عن خلاصٍ كان في انتظاره بشكلٍّ ما. ولكن ما نوع الإدانة التي نقع نحن البشر تحتها ثقافياً؟ وأيُّ اتهامٍ هذا الذي ينطلق فجأةً دون جُرم واضحٍ؟! هل استعمال العقل جريمة في سياقٍ ثقافيٍّ معين؟ هل حرية العقل تعني الوعي بقيوده أولاً؟! وفي هذه الحالات: ما نوع العقوبة المفترضة تجاه العقل؟ هل ستتم العقوبة من جنس العمل أم أنها ستجري دون أنْ نشعر؟ لماذا تهجس اللغة العربية بهكذا جريمة وعقاب بينما يغيب الإنسان عنها؟

بكلمات واضحةٍ: تريد بعض جوانب الثقافة العربية إمساك العقل عن الحركة. ويأتي- في الأخير- كي يسير وفقاً لقواعد منضبطةٍ اجتماعياً دون سواها. بالطبع لن يستطيع العقلُ التخلص مما يُوضع له طالما هناك وجود رمزي للحقائق. من تلك الزاوية، ظهرت فكرة السلطة داخل جوانب الثقافة العربية التي ترسّخ كيانها فوق أي عقل. جاءت السلطة مع كل تعريف للعقل بحكم وجودها في منبت اللغة التي نعرّف بها الأشياء والعالم. ولكن فيما يبدو حدثت هناك حيلةٌ ثقافيةٌ لطيفة. فبدلاً من القول: إنّ العقل في مرتبةٍ أدنى وهذا أمر غير مستقيم، اسندت الثقافة العربية وظيفة الرباط (التربيط/ التشبيك/ التثبيت) إلى العقل نفسه. أي تمَّ حصر وظيفة العقل في تلك العملية كأساس مرهون به. قالت عليك أنْ تقوم بتقييد نفسك، حتى لا يظهر أنك ضعيف (بيدي لا بيد عمرو)!!

بدا الأمر كأنه تنازل ظاهري من السلطة بالخارج لتكون حاضرة داخل العقل. هي آلية كل سلطة حين تريد الاختباء ثقافياً في التفاصيل، وأنْ تقول لك أن َّالاشياء تجرى على علتها لا علةً أخرى. أي تمّ استدراج معنى العقل ليعمل الأخير مندُوباً عن السلطة كما تبُوح اللغة العربية، سواء أكانت سلطة الاعتقاد أم سلطة المجتمع أم سلطة السياسة...الآلية واحدة والأثر الواقع على الإنسان مماثل.

هذا تسليم مسبق مؤدّاه أنَّ قواعد عمل العقل لدينا لن يصنعها (العقل) لنفسه، ولا يمثل مرجعاً ولا معياراً للحكم عليها. والأخطر أنَّه لن يتمكن من تغييرها شاءَ أم أبى. إليس العقل مجرد رباط عام وفقاً للنسق المُشار إليه؟! وعليه أنْ يربط التصورات على هيئة أفكار أو عقائد ليس إلاّ. إنّ ربط الأفكار يعني صناعةَ عقدةً صلدة حولها. لقد تبلورت حقيقة معتقداتنا نحن البشر خلال بقعتنا من العالم في هذا الاتجاه. أفكار بلغت درجة اليقين نتيجة العقدة المغلّظة عليها. ولذلك سُميّت المعتقدات بهذا الاسم، نتيجة وجود أشياء معقود عليها بواسطة المشاعر والتصورات والأحاسيس والأخيلة. كلُّ ذلك يعبر عن قدرة العقل العاكسة إزاء ما لدينا من قناعاتٍ سابقةٍ. وكأنَّ العقل يؤدي دور (الحفظ والتوثيق والترديد) عبر الثقافة الطاغية. وهذا أحد وجوه الأزمة التي أصابت مسارات العقلانية في تاريخ ثقافتنا العربية الاسلامية.

العقل والسلطة

في هذا الاطار، جرى الافصاحُ عن أسرار التعريف السابق إزاء العقل كالتالي:

1- يأتي العقل مُتأخراً عن محتوى الفكر والمعرفة والحقائق. وهذا نتيجة غلبة العادات الثقافية التي تقف كسلطة عميقة إزاء الفكر.

2- أثرُ العقل بمثابة الختم البرّاق الذي يُمرر الأشياء. فقط يترك بصمته من الخارج. وكأنَّ رقابته على كل وضع موجود ثقافياً لا محل لها من الاعراب. والمغزى يقول على العقل أنْ يدرك الأشياء ويميز بينها، ولكنه يعجز تماماً عن التغيير والتطوير.

3- هناك سلطة ما فوق قدرة العقل على تحديد الأشياء وخارج التأثير فيها. والمقصود أن العقل كلما بدا خارج الدائرة، عليه العودة إليها ثانيةً. وأنَّ السلطة تأتيه مباشرةً عن كثبٍ. فأهم ما تمّ هو استحضار السلطة لذاتها مع حركة العقل. ولذلك فإن الخوف والرقيب يسكنان عقول الأفراد بهذا المعنى.

4- طالما ربط العقل الأفكار بصورة سلبيةٍ، فلا يتساءل إزاءها ولا يكتشف جوانبها. ثمة خط مفهوم ضمناً أن العقل يتقبل دون أن يصدر شيئاً، لا يتساءل ولا يقفز على الطوق.

5- سيظل دورُ العقل مهمشاً، لأنه يحضر شاهداً بالإنابة ليس أبعد. ومن ثمَّ لا يتم النظر إلى العقل بوصفه مستقلاً ولكنه تحت الوصاية. فالناس يُوضعون تحت الوصاية بهذا المنطق. الابن تحت وصاية الاب، العامل تحت وصاية مرؤوسيه، الزوجة تحت وصاية زوجها، المجتمع تحت وصاية نظامه المهيمن.

6- الغريب أن العقل سيتحمل مسئوليةَ أشياءٍ لم يفعلها. مسئولية عامة دون مسئول من جنسها، إذ تبدو المسئولة الفكرية فارغةً من مضمونها.

7- يتم القصاص من العقل بفعل فاعل مجهول الهوية. لأنّ العقل يحضر ليربط الأشياء المُقدمة له فقط. وبالتالي فإنّ اعتباره مجرد وسيلة شأن يقلل منه ويعتبره محط عقوبة نافذة. وهذا ما جرى مع أغلب المبدعين العرب قديماً وحديثاً.

8- إن هناك تاريخاً للتأخُر الفكري وأن هناك تراثاً وراء وظيفة العقل الثانوية في بعض جوانب الثقافة العربية. الغاية من التاريخ هو اقناع العقل بكونه موضوعاً في مكانه الصحيح، وأن هناك ميراثاً غير قابل للتفاض حول الأمر، فليكن استعماله كما كان طوال الوقت.

9- العقل بوصفه قيداً وراء قيدٍ هو أمر يصعب الوعي بأنه كذلك. لأن البديل في تلك الحالة هو اللاعقل، أي الجنون. وإنه مثلما تتم صناعة العقل، كذلك يتم تصنيع الجنون ثقافياً باعتباره خروجاً عن السلطة.

10- اخطر شيء أن يُنتزع العقل من نظامه العام، والنظر إليه معلقاً على سترة نظام آخر ومنفذاً لترتيبات سلطوية مغايرة لآلياته.

كسر الدماغ

إذا تأملنا الأمر السابق، سنجد هناك بارقة أمل مختلفة إلى حدٍ ما. لأنّ (الإنسان العاقل/ المتعقل) هو من يحمل مفارقة رفض هذا الرباط غير المقدس. العاقل هو مَنْ يشب على الطوق محطماً الحدود التي تعوق الحياة الحُرة. العقل يتمرد تجاه الدوائر المحرمة. إن تاريخ العقل يكشف قدرته المدهشة على كسر الحواجز لا الاستكانة لها وإلّا لما ثار البشر وتطورت المجتمعات!! وإذا كان (عقال البعير) مرتهناً ببعض الرواسب الثقافية، فالعقل يبني ذاته في فضاء الحياة، ينضُو عن نفسه العوالق البيئية. هناك مفكرون في التراث العربي أمثال: عمرو بن بحر الجاحظ، أبي حيان التوحيدي، أبي منصور الحلاج، ابن عربي، ابن رشد قد دفعوا العقل للتحليق بعيداً. التحليق في آفاق من التجارب المعرفية والروحية التي تساءل سلطة الفكر.

الجانب الآخر للمسألة هو الحث على استحضار العقل إزاء كل شيءٍ بالخارج. لأنّه ليس متصوراً تفريغ رأس الإنسان من عقله مجاناً. طبيعي أنَّ رأساً بلا عقل لهي رأس بلا كرامة، رأس بلا حقيقةٍ، رأس بلا معنى، رأس بلا إنسانيةٍ. ولكن الفكرة الطريفة أنَّ الانسان عليه أنْ يتحسس عقله مثلما يتحسس مسدسه عند المخاطر. في هذا الحال، يستطيع التصرف ويتجاوز العقبات بحنكة فائقة. فالإنظمة الاجتماعية عبارة عن تراكم من المعضلات صغرت أم كبرت، يسير الأفراد خلالها كأنّهم يتوغلون في حقول ألغام. ومن ثمّ، فإن اهمال التساؤل والفهم أمور لا تُحمد عقباها.

وَرَدَ في بعض الشعر النبطي:

..." مالي على عقل المخاليق سلطان

كلّ في راسه عقل يعرف خلاصه

درع المبادئ يفرق إنسان وإنسان

واللي نزع درعه تجيه رصاصه.."

لم يعد العقلُّ اكسسواراً كما يُقال عن عقل المرأة المُعطل عن الانتاج في البيئات الشرقية. العقل فعالية حُرة قادرة على النقد والتجديد بكافة المجالات. إنه سبب النجاحات الوظيفية والعملية والسياسية إلى أخر الفضاءات. والثقافة العربية خضعت لظروف تاريخية عطلت العقل عن اطلاق طاقاته الكامنة.

لا يعني ذلك أنَّ وضعاً يُقلل من شأن العقل قرارٌ نافذ الحكم. لعلّ الثقافة العربية، حين رفضت وظيفة معينةً للعقل مثل النقد وتفكيك العادات والتقاليد ومساءلة الموروثات ونقض السلطة، لم تستطع تحجيم قدراته على التحرر. العقل بأشكاله هو طوق النجاه الذي تنتظره مجتمعاتنا العربية. ليس العقل جراباً مثل (جراب الحاوي)، لكنه ضربٌ من القدرات القابلة للصقل والتدريب والتطور لإنجاز الاعمال. إنه إبداع منفتح لم يكن مُتاحاً من أول وهلةٍ، إبداع يمارس دوره الفعال دون توقف. وستكون هناك مفاجأة للعقل الحيوي بهذا المعنى، لأنه يوجد بالزخم نفسه في أي مجال سواه. كما أنه يستثمر الفُرص لقطع أشواط من الحركة والممارسة. إنَّ احياء دور العقل نقدياً هو البُعد المنتظر لرسم خريطة المستقبل لمجتمعات أرهقها الماضي حد الانهاك.

من الأهمية معرفة أنَّ عقلاً خارج الرأس دعوة للتفكير الحر، دعوة للتحليق بعيداً عن الأُطر الصارمة. ورغم كونّها حالة بدهية: أن نُدرك وجود العقل في المنطقة العليا من جسمنا، لكنها حالة معقدة إزاء ثقافة مجتمعاتنا الشرقية. لأن الأخيرة تريد أنْ يسير الناس وأرجلهم بالأعلى بينما تنغرس الرؤوس بالأرض. أحياناً تعدُّ البديهيات أكثر صعوبةً من الأشياء العادية حين تحتاج مجهوداً لاثباتها. والخلاص يمكن تأويله بخلاف ما سبق من ضعف مسئولية الفكر. الخلاص قدرتنا على بناء التاريخ باستعمال العقل. الحضارة عقل، التكنولوجبيا عقل، المدنية عقل، الديمقراطية عقل، الذوات عقول متحركة، المجتمع عقل. الخلاص هو تأويل تراث العقل لصالح الإنسانية وارتياد أبعادها الرحبة.

هل العقل يمكن أنْ يقع خارج ذاته؟ بالقطع: إنَّ عقلاً خارج الرأس يعني أنه يتحرك في المجال العام. إن تاريخ الاستبداد يتبلور في مقولة واحدة: ضّع عقلك في رأسك واصمت. ولكن العقل خارج الرأس يدل على النقد. العقل خارج الرأس يعني التطور المعرفي. العقل خارج الرأس يعني العقلانية التي تزن الأمور وتقيم السياسات. العقل خارج الرأس يعني نظاماً بين الذوات القادرة على العيش المشترك والاعتراف بالتعددية والاختلاف والتنوع. العقل خارج الرأس يدل على بناء وعي متطور وطرح الأسئلة دون خوف.

حين تكون عقولنا خارج الرأس، ستُخصب الرؤى لا مجرد رابط سلبي يستحضر القمع والتسلط. بينما تردد الثقافات المغلقة عليكم حفظ عقولكم داخل الرؤوس. فلا نحتاج في مجتمعاتنا العربية إلى حشو العقول في الأدمغة، فهي موجودة بالفعل، ولكننا نحتاج إلى إلقاء العقول في أرجاء وتفاصيل الشأن العام. وإذا كانت السلطة هي الدماغ الكبير الذي يحوي كافة التفاصيل، فلا مجال غير كسر هذا "الدماغ البيو سياسي الكبير"brain biopolitical Big. دماغ يتوسّع باستمرار في أي وقتٍ، ولا يرى بديلاً عن مناطحة من يقف في مرمى توجُهاته. دماغ عبارة عن خليط من السياسة والدين والفن والرؤى الشعبية ليتكتل أمام كل الرؤوس المغايرة.

لقد تكونت مجتمعات داخل هذا " الدماغ الضخم " الذي تصفُر فيه رياح الخواء والقهر والتسلط. في المقابل لم تكن هناك أية قيمة لعقول الأفراد، حتى ولو كانت عقولاً عبقرية ومبدعةً. المهم أنْ يعيش" الدماغ الضخم" على حساب كل الأدمغة الأخرى، وأنْ يقتات على حياة الجماهير المغلوب على أمرها. وذلك كان سبباً كافياً لخنق العقل الثائر داخل رأس الفرد، وعلى كل إنسان أنْ يشترى خلاصه الشخصي بأي ثمن. وإذا كان أغلب تاريخ الثقافة العربية يدورُ حول العقل داخل الرأس (الحِكّم / الخطابة / الأشعار/ السيّر/ المناقب/ القصص / الروايات)، فنظراً لأن الإحساس بالواقع ضعيف بفعل فاعل.

آن الآوانُ ليخرج العقل خارج الرأس. ليس خياراً ولا رفاهية بل ضرورة. فالإنسان قد يجد رأسه مسروقةً أو مستباحةً تحت عناوين شتى. وتلك هي تجارة الأنظمة المعتادة على سرقة الأعضاء الثقافية. تماماً مثل تجارة الأعضاء البشرية، أكبر عملية سطو حدثت في تاريخ المجتمعات هو سطو الأنظمة على أدمغة مواطنيها. فجأة سيكتشف الناس: أنّهم يحملون رؤوساً ليست لهم رغم كونها واقفة على الأكتاف. وهناك من لا يكتشف طوال حياته أنَّ عقله خارج السيطرة، وأنَّه يتحرك بمثيرات وشروط ليس متحكماً فيها. أقوى علاقة انتماء هو انتماء الرأس لحاملها، انتماء الأنا إلى الإنسان قبل أن يقول للأخر أنت.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم