أقلام حرة
شاكر عبد موسى: مرحلة الطفولة.. أحلى مراحل العمر
يولد الإنسان في مساحة صغيرة، بين دفء أحضان والدته وسريره الخشبي. في هذا العالم المصغر، لا تتجاوز مداركه حدود غرفته المزينة برسومات كرتونية للدببة والأرانب. هنا فقط يجد الأمان والحب، صوت الأم الذي يهدئ جوعه ودموعه، ويد الأب الذي يرفعه عاليًا ليلاعبه ويُضحكه.
مع مرور الأيام، يبدأ هذا العالم الصغير بالتوسع، تنمو عضلات الطفل وتتطور قدراته الذهنية، ليستكشف بيئته شيئًا فشيئًا بفضول لا يعرف الحدود. من الحبو إلى المشي، ومن مسك الأشياء إلى رميها واستكشافها. وفي يوم ما يكتشف أن ما وراء جدران غرفته عوالم أخرى مليئة بالدهشة والوجوه الجديدة. وقتها يسأل بحيرة وبراءة: هل العالم أكبر مما أراه؟
ويأتي دور اللغة، لتصبح أداته لفهم ما حوله والتواصل مع محيطه. الكلمة تربط بين الأشياء ومعانيها: تفاحة، بسكوتة، ألوان وصور. يبدأ بمحاكاة أصوات أمه وأبيه وهما يوجهان فضوله العارم: كل طعامك، انتبه! تدريجيًا تتحول هذه الإرشادات اليومية إلى روابط ذهنية يبني بها الطفل عالمه الإدراكي.
يكبر الطفل، ويبدأ في الجمع بين الكلمات والمعاني الأكثر تعقيدًا. النار خطرة، الخضروات مفيدة، وقواعد الأدب واضحة أمام الغرباء. تتفرع هذه المفاهيم وتتعمق مع اتساع التجارب والتفاعل مع المحيط الأوسع: الأقارب، الأصدقاء، الجيران والمعلمون. لكن ليست كل الروابط التي تتكون طفولية الطابع وساذجة في تفسيرها.
ذات يوم، يتوقف الطفل أمام باب المنزل المفتوح-عالم جديد مغرٍ ينتظره بالخارج، لكنه سرعان ما يُردع بصوت جدته وهي تحكي حكاية عن وحش يلتهم الأطفال الذين يغادرون البيت دون رفقة الكبار. في مخيلته الصغيرة، يُرسخ الطفل مفهوم جديد: خروجٌ وحيد يعني خطر مُحدق. ورغم الطابع المروع لهذه القصة، إلا أنها تحمل مأمنًا مشروطًا بحماية الكبار.
تثبت الأبحاث أن ترسخ هذه الروابط في الطفولة ليس نهائيًا؛ فمع مرور الزمن وتجريب الحياة بأنفسهم، يعيد الإنسان تشكيل هذه الروابط بما يتوافق مع واقعه الحقيقي. يكبر الطفل ليفهم أن جده خُلق الوهم عن "الوحش" لمجرد حماية لازمة لتلك السن.
ومن هنا يضع العلماء فرضية مثيرة مفادها: الحكايات المجتمعية هي عبارة عن دليل سردي يرشد إلى التعامل مع التحديات الثقافية بطريقة موجهة ومعقدة. القصص التي تُروى للأطفال تبدو بريئة وهادئة في ظاهرها لكنها تخدم غايات مجتمعية عميقة—محاولات لنقل خبرات الماضي وإعدادهم للمستقبل.
مع التقدم في مراحل الحياة العمرية واكتساب رؤية أعمق للعالم تتغير هذه القصص البسيطة. إذ تكشف التعقيدات المنبثقة عن الأنظمة الاجتماعية والهوامش الخفية للعلاقات البشرية عن وجه آخر وأكثر تعقيدًا للمجتمع. ينغمس الفرد في طبقات متعددة من السرديات التي تعكس واقع السياسة والحياة الفكرية والانتماءات المختلفة.
خذ مثالًا الفتى الذي يشاهد والده يومًا ما يتحدث بازدراء عن أشخاص فقط بسبب جنسيتهم. أو الشاب المرتبك الذي يخوض نقاشات جانبية مع زملائه عن النساء بناءً على قصص نمطية متوارثة. أو آخر قرر الغوص أكثر في آرائه السياسية مدفوعًا بتاريخ أعيد تفسيره وفق رؤية منحازة. هذه الأحداث اليومية تعكس كيف يتم غرز الأفكار وربطها بالأشخاص والسلوكيات وتكوين تصورات ذات امتدادات مجتمعية طويلة الأمد.
صحيحٌ أن الإنسان لا يتلقى كل تلك السرديات بصدر رحب أو دون تساؤل! عند التفاعل مع مجتمعات جديدة أو تجارب مغايرة، تتحدى الحقائق المكتسبة ما غُرز في داخله سابقًا. القراءة والنقاش والأسفار والمواجهات تحمل تأثيرًا متبادلًا يعيد تشكيل هذه التصورات، فيتكون لدينا مع الوقت نظام قيمي مرن وديناميكي يتفاعل باستمرار مع المستجدات.
***
شاكر عبد موس – العراق - باحث وكاتب







