اخترنا لكم
مارلين كنعان: مكسيم دلبْيار.. ابن سينا وخلاصات "الحكمة الشرقية"

في التجديد الذي تشهده الدراسات الإسلامية الحديثة في أوروبا، يأتي كتاب الباحث الفرنسي مكسيم دلبْيار الصادر حديثاً، إثرَ تراجع الخطاب الذي كان سائداً لفترة طويلة، والذي كان يرى في ابن سينا أحد آخر ورثة التقليد الفكري اليوناني الذي أعلن عن أفول الفلسفة في أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي.
ويلقي كتابه "نصير الدين الطوسي، فيلسوف التقدّم، عودة إلى معنى ابن سينا" (منشورات فران، باريس، 2025)، ضوءاً جديداً على عمل من الأعمال الفلسفية الكبرى في الإسلام: شرح عالم الكلام والفلك والطب والفيلسوف نصير الدين الطوسي لكتاب "الإشارات والتنبيهات" للشيخ الرئيس ابن سينا، المعروف باسم "حل مشكلات الإشارات". الطوسي عاش في زمن مضطرب سياسياً، شهد اجتياحات المغول وتدمير مكتبة ألموت الكبرى وسقوط بغداد عام 1258، وهي أحداث هزّت عصره وأثّرت في مسيرته. أما ابن سينا فيعدّ كتابه "الإشارات والتنبيهات" من أهم كتبه. لذا تناوله الكثيرون من علماء المسلمين بالشرح والتحليل، ولعل أهم هذه الشروح إلى جانب شرح الطوسي شرح فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي وغيرهما.
يدافع الكتاب عن أطروحة مفادها أن الطوسي لا يُؤسّس لتقليدٍ تفسيري لفلسفة ابن سينا فحسب، بل يكرّس صورةً "عرفانية" لهذه الفلسفة، سرّعت في تشكُّل فلسفة "ابن سينيّة فارسية" التقت فيها تيارات فلسفية ولاهوتية وروحية متعددة داخل الإسلام كالشيعة والتصوف، وغيرها. وإذ يعتبر أن الصراع التأويلي الذي خاضه الطوسي مع المتكلم الأشعري فخر الدين الرازي صراع حاسم، فإنّه يرى أن الدفاع عن ابن سينا اقترن بمشروع أوسع لتأسيس لاهوت فلسفي شيعي، سرعان ما كرّس بدوره سلطة الطوسي كمرشد روحي لعصره. ولأن فكرة التقدّم كانت تخترق، كخيط ناظم، حياة الطوسي وأعماله في خضمّ فوضى الغزوات المغولية وسقوط الخلافة العباسية، فذلك لأنه تصوّر الفكرَ أيضاً بوصفه تقدّماً.
ينطلق دلبْيار من مسلمة تؤكد أن شرح الطوسي يُعدّ شرحاً مهماً لأنه غدا برأيه تمريناً مدرسياً لا غنى عنه في تكوين أجيال من الطلبة في القرون الأولى لما بعد ابن سينا؛ ولأنه أصبح معياراً للحقيقة في ما ينبغي أن يُفهَم من فلسفة ابن سينا، بحيث فرض، من ناحية المعنى، تأويلاً قوياً لهذه الفلسفة، ومن ناحية المبنى، منهجاً خاصاً؛ ولأن الفلاسفة الذين ساروا على نهج ابن سينا رأوا في فلسفته الأخيرة، أي "الحكمة المشرقية"، خلاصة فلسفته كلّها. فصار شرح كتاب "الإشارات" النصَّ المرجعيَّ في التعليم الفلسفي، لا بل النصّ الرائج في الأوساط العلمية وبين النخب المثقفة. فشكّل هذا الكتاب لحظة فاصلة في تاريخ الفكر الإسلامي، إذ رسم "صورة جديدة للفكر" تُعرف باسم "العرفان"، وجعل من "العارف" نموذجاً لما يمكن تسمّيته بتحفّظ، "الفيلسوف الجديد".
ينبه الباحث الفرنسي قرّاء كتابه إلى أن شرح الطوسي لـ "الإشارات" ظهر في وقت نشأت فيه تقاليد جديدة في التفسير وصيغت فيه صور مختلفة للأفلاطونية والمشّائية السينية، وأن المعنى الحقيقي الذي بيّنه الطوسي لفلسفة ابن سينا أظهر في الوقت عينه سوء تأويل هذه الفلسفة. إذ رسم إلى جانب تأويله صورة لتأويلات "زائفة" تبدت بحسبه في قراءة فخر الدين الرازي، جازماً أن معنى هذه الفلسفة هو كما قرأها هو، لا كما قرأها الرزاي. وهذا برأي دلبْيار موقف شارحٍ متمكن يدفع كل قارئ إلى اختيار واحد من اثنين لا ثالث لهما.
ويبيّن دلبْيار كيف أن شرح الطوسي أعطى نَفَساً جديداً لفلسفة ابن سينا، وأسهم في نشرها في الأوساط الشيعية، حيث لم تكن تحظى بعدُ بقبول واسع. غير أن إعادة الاعتبار إلى هذه الفلسفة لم تكن أمراً بديهياً. ولهذا نرى الطوسي يبذل جهداً كبيراً في محاولة التوفيق بين مقولات ابن سينا وبعض العقائد الإسماعيلية، حتى ولو كان ذلك على حساب "التواءات" مذهلة محاولاً المواءمة بين الفلسفة السينية والعقيدة الاثني عشرية الناشئة، سعياً لإنقاذ فكرٍ مُهاجَم من خصوم عديدين: الأشاعرة (فخر الدين الرازي)، والصوفيون (صدر الدين القونوي تلميذ ابن عربي)، والإسماعيليون أنفسهم (كما في حالة الشهرستاني)، وهم من أشد الخصوم خطراً لأن علاقتهم بابن سينا لم تكن بالضرورة علاقة رفض، بل كانت ممزوجة أحياناً بشيء من التعاطف. ويجوز القول إن شرح الطوسي قد مكّنه من ضرب عصفورين بحجر واحد: إفشال محاولة الرازي للاستيلاء الأشعري على ابن سينا، والتمهيد لاستيلاء شيعي على فكره. ويبدو أن الطوسي وجد في التربة الشيعية الإسماعيلية أولاً، ثم في الاثني عشرية، البيئة المثلى لزراعة هذا المشروع.
يقارب المؤلف شرح كتاب "الإشارات" من زاوية المنظور التعاقبي التاريخي الذي يضعه ضمن سلسلة التقليد التأويلي الممتد عبر الزمن، مؤكداً أن الاهتمام المتجدد في السنوات الأخيرة بكتاب "الإشارات" يعود بالدرجة الأولى إلى اتباع المنظور التاريخي، الذي أعاد النظر في مكانة "الإشارات" ضمن تاريخ الفلسفة السينية ومكانتها في الفلسفة الإسلامية، مبيناً أن أبرز التيارات الحالية في البحث حول تاريخ فلسفة ابن سينا تتجه إلى دراسة "الإشارات" بوصفها المنبع المؤسِّس لهذا التقليد الفلسفي. لكنه بالتوازي يشير إلى النزعة التنظيرية المنهجية التي حلّت محلّ روح الجدل والخصومة، مغلبةً روح الفهم والاستيعاب والتي استثمرت بدورها في مراجعة دور فخر الدين الرازي في نشأة هذا التقليد التفسيري وفي صياغة إحدى صور الفلسفة السينية نفسها.
يشدد دلبْيار على أن تاريخ الفلسفة وعلم الكلام في الإسلام شهد في القرن الثاني عشر الميلادي تحولاً جوهرياً بدأ مع الغزالي وانتهى مع الرازي. فمن جهة، لدينا "القدماء"، ومن جهة أخرى لدينا "المحدثون". والمحدثون هم أصحاب فكر جديد وُلِد من تفاعل علم الكلام الكلاسيكي وفلسفة ابن سينا التي شكلت أعمال الرازي أولى تحوّلاتها، فأفرزت ما يمكن تسميته "أشعرية ذات نزعة سينية" أو "لاهوتاً فلسفياً"، له من الأهمية في علم الكلام الإسلامي ما لابن سينا في الفلسفة العربية. يتجاوز الكتاب الأحكام المسبقة التي كرّستها دراسات صدرت في القرنين الماضيين، والتي صورت الرازي على أنه "غزالي" جديد جاء ليقضي على ابن سينا، قبل أن يأتي الطوسي، حامي حمى الفلسفة السينية، ليتحدى الأشعري ويتغلب عليه.
صحيح أن الرأي السائد بين المتخصصين كان يعتبر الرازي، الوريث الشرعي للغزالي، ناقداً بلباس المتكلم الأشعري لابن سينا، بينما نُظِرَ إلى الطوسي كمدافعٍ عن شيخه دفاع الجندي الصغير المخلص للفلسفة السينية. وقد سلطت أولى الدراسات المقارنة الضوء على أوجه الخلاف بين الشخصيتين في طبيعة المكان والجسم وقدم العالم وعدد السماوات وطبيعة المعرفة الإلهية والإنسانية ووجود العقل المفارق وإمكانية التوبة وطبيعة العقاب الإلهي وطبيعة الإيمان. لكن هذا الرأي أصبح اليوم أكثر تعقيداً. إذ يبدو أن البحث الحديث في التقليد السيني بدأ يركّز من الناحية المنهجية على الفيلولوجيا وتاريخ النصوص، ومن ناحية الموضوع على الدور التأسيسي لفخر الدين الرازي، وذلك على الأقل لسببين: اختياره "الإشارات" نصاً مرجعياً في الفلسفة السينية، ومحاولته بناء هذه الفلسفة كنظام فكري متكامل.
إلا أن كتاب دلبْيار يسلك اتجاهاً معاكساً للاتجاه الذي تسلكه الدراسات الرازية: فأسطورة "صراع الأبطال" المنتمين إلى معسكرين متقابلين، ليست برأيه وليدة القرنين الماضيين، بل هي بالضبط ما أراد الطوسي تأسيسه وصياغته. لذا اختار هذا الباحث النظر إلى فلسفة ابن سينا من منظور الطوسي، لكي يفهم، ولو جزئياً، منطقه وخلفياته. فإن كان فهم الموقف الحقيقي للرازي يتطلب فصله عن الصورة المشوّهة التي رسمها له الطوسي، فإن فهم الموقف الحقيقي للطوسي، على العكس، يتطلب الاحتفاظ بهذه الصورة. ويتطرق الكتاب كذلك إلى تأويلات المستشرقين وعلماء الإسلاميات الفرنسيين في القرن العشرين الذين منحوا كتاب "الإشارات" وتأويلاته المختلفة مكانة بارزة، ليس فقط داخل المتن السيني، بل في تكوين الفلسفة السينية ذاتها. ويشدد على أن هذه الأبحاث قد أهملت وبشكل كبير القيمة الفلسفية لشرح الطوسي، مكتفيةً باعتباره تابعاً أو مقلداً لامعاً ليس أكثر.
يمثل رأي الباحث الفرنسي نقطة تحول جديدة في الدراسات السينية، حدّدت بعض الاتجاهات الحاسمة في تلقي فكر هذا الفيلسوف في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً. كان من أبرز مظاهرها صدور الترجمة الفرنسية لكتاب "الإشارات والتنبيهات" سنة 1952 والذي اختارت مترجمته أن تزود نص ابن سينا بجهاز حواشٍ، ركزت فيه بشكل كبير على شروحات الطوسي ووظفتها في خدمة فهم كتاب ابن سينا. وقد كان خيارها برأي دلبْيار موفقاً في كثير من الأحيان. وإيلاء هنري كوربان اهتماماً خاصاً بالحكاية الرؤيوية عن "سلامان وأبسال" التي ترد في بداية الفصل التاسع من كتاب "الإشارات" والتي فُقِد نصّها الأصلي، فدرسها العالَم الفرنسي من خلال نسخة مختصرة نقلها الطوسي، واصفاً إياها بخاتمة القصص الرؤيوية والمعرفة العرفانية لدى ابن سينا، مبيّناً الفرق بين السينية الفارسية والسينية اللاتينية. ولئن اهتم كوربان بشروحات الطوسي لكتاب "الإشارات"، فإنه، برأي دلبْيار، لم يمنحه حقه من التقدير، بل أنصفه إنصافاً جزئياً.
من هذه الزاوية يأتي كتاب دلبْيار ليبيّن قدرات الطوسي الإبداعية في التأويل، انطلاقاً من فرضية أنه إذا كان تعليق الطوسي قد استُخدم مراراً لخدمة قراءة نص ابن سينا، فإنه على الباحث اليوم أن يجرب العكس، أي أن يجعل من نص ابن سينا أداة لقراءة شروحات الطوسي، لا باعتبارها ملحقاً ثانوياً، بل عملاً مستقلاً بذاته. فشروحات الطوسي برأي الباحث لعبت دوراً تأسيسياً في نشوء النزعة الصوفية في قراءة ابن سينا، وهي النزعة التي ستشكّل الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لكل قراءة لاحقة كالدراسات والترجمات التي وقعها كريستيان جامبي وروجيه أرنالديز في فرنسا وجواد بداخْشاني في بريطانيا.
***
مارلين كنعان - كاتبة وأكاديمية من لبنان
عن جريدة االعربي الجديد، يوم: 21 يوليو 2025