أوركسترا
عدنان حسين أحمد: "حنين" الذات المغتربة إلى الوطن الذي لا يغيب

لا يحتاج المُشاهد اللمّاح إلى جهد كبير لمعرفة ثيمة فيلم "حنين" للمخرجة الدنماركية من أصول عراقية رانيا محمد توفيق فالعنوان الصريح "حنين" يفضح كل شيء دفعة واحدة ولكنّ المتلقي هنا يحتاج لمعرفة هذا النوع من الحنين وطبيعته التي تهزّ الراوية والكائنة السيرية التي تروي الأحداث بضمير الشخص الأول أو المتكلم، وهو، كما نعرف ضمير يُعبّر بصدق عن الذات الحميمة التي تقول كل شيء بلسانٍ فصيح لا يعتوره الخلل ولا تعوزه السلاسة وملامسة قلوب المتلقّين. ولكي لا نتشعّب في الإجابات المحتملة وهي كثيرة نقول إنه حنين إلى الوطن، وحنين إلى الذاكرتين الفردية والجماعية، وحنين إلى الأسرة التي توزعت في المنافي وبلدان الشتات العربية والأوروپية، وأنه حنين الذات المغتربة التي وجدت نفسها ببيروت تارة وكوبنهاغن تارة أخرى وببغداد تارة ثالثة وإن كانت بطريقة افتراضية هذه المرة.
للأغنية العراقية؛ سواء التراثية منها أو الحديثة دور في هذا الفيلم ويبدو أنّ المخرجة قد اختارت أغنية شعبية تراثية واسعة الانتشار تحمل عنوانًا ذائع الصيت يستجير هو الآخر بضمير المتكلم ويلوذ به منذ مستهل الأغنية الشعبية القصيرة حتى نهايتها وهو "أنا المسيجينة" (المسكينة) التي تدور حول فتاة يافعة مظلومة زوّجوها بالقوّة والإكراه من رجل طاعن في السن غير أنّ إيقاع هذه الأغنية جميل ونابض بالحياة ويحفّز السامعين على الرقص والاندماج في مناخ الأغنية الأمر الذي دفع المخرجة لأن تستهل الفيلم برقصة عنيفة تؤديها بنفسها بانفعال واضح وكأنها تشير من طرف غير خفي إلى معاناة المرأة العراقية الشابة على وجه التحديد التي يتوجب عليها أن تتحمل الكثير في حياتها اليومية المُثقلة بالإحِن والمِحن.
لا تستغرق المخرجة وقتًا طويلًا في الرقص لتتيح لنا فرصة الدخول إلى سيرتها الذاتية والعائلية لتشمل ثلاثة أجيال وهم على التوالي: الأبناء والآباء والأجداد؛ ولو شئنا الدقة لقلنا المُخرجة الراوية رانيا والأخ غير الشقيق مراد، والأب محمد توفيق "الشاعر والمخرج المعروف أيضًا" ووالدة رانيا المونتيرة الراحلة جنين جواد كاظم. ثم تتسع الاستذكارات لتشمل عائلتيّ الجد من جهة الأب، صاحب المعول الذهبي، والجدة من جهة الأم التي أنجبت مع زوجها أسرة صغيرة سيكون فيها الجد سجينًا سياسيًا محبوسًا في نقرة السلمان سنة 1967، وسيتعرّض فرزدق، شقيق جنين إلى التعذيب والقتل عام 1984لتكون هذه الأسرة المقموعة أنموذجًا لبقية الأُسر العراقية التي تناوئ الدكتاتورية وتحلم بعراق ديمقراطي موّحد.
ولكي تكتمل الصورة ويتضحّ المَشهد جيدًا لا بدّ أن نعود إلى الكائنة السيرية التي تريد أن تنطلق منها أحداث الغربة والشتات الذي هو بالتأكيد يحمل بصمات الشتات العراقي في الأعمّ الأغلب. تقول الراوية أنها وصلت مع أبويها إلى الدنمارك في أكتوبر 1993 ولم تكن تعلم أنها سوف تقضي في مراكز اللجوء 866 يومًا؛ أي قرابة سنتين ونصف السنة قبل أن تُمنح هذه الأسرة المناهضة للقمع والدكتاتورية حق اللجوء السياسي أو الإنساني في أقل تقدير. ولا غرابة أن تُصاب الراوية بنوبات الهلع أو رُهاب الموت. فقد كان يراودها الشعور بأنها تختنق ولا تستطيع أن تتنفس أو أنها على وشك الموت؛ وهي هواجس وحالات نفسية كانت تُصيب الكثير من طالبي اللجوء. وكنوع من الحلّ الفردي أدمنت الراوية على مشاهدة جميع المسلسلات التي كانت تُعرض على التلفاز الدنماركي. وفي السنة الأخيرة علُقت في ذهنها أغنية واحدة كان فيها المقطع الأكير تكرارًا يقول:"رغم كل غضبي مازلت مجرد جُرذ في قفص".
يستدعي الأب محمد توفيق، وهو شاعر وسينارست ومُخرج، صندوق العجائب الذي يضمّ صور الماضي والذكريات التي تنأى بمرور الزمن فنعرف أنه كان طالبًا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ومعه ثلة من الأصدقاء وكان يمثل دور "هاملت" في إحدى الصور أو يعمل مساعد مخرج في فيلم "بيوت في ذلك الزقاق" للمخرج قاسم حول. وكالعادة فقد كان الشباب يرتدون بناطيل الشارلستون ويطيلون شعورهم على وفق الموضة الغربية التي كانت سائدة أنذاك.
العراق بوصلتي
ولكي لا يفوّت فرصة الإشارة إلى زوجته الراحلة جنين جواد كاظم يخبرنا بأنّ صورتها قد أُلتقطت في حفلة تخرجها من الجامعة بقسم العلوم السياسية وكأنه يمهِّد لها السبيل لكي تلامس ثيمة الفيلم الرئيسة من جديد فتسأله سؤالًا محددًا مفاده:"هل تشعر بالحنين عندما تفكِّر بتلك المرحلة الذهبية من حياتك الشخصية؟" فيأتي الجواب سلسًا ومنسابًا بأنّ التذكّر هو نوع من أنواع اللقاء. ثم يعزز الإجابة بقصيدة "العراق بوصلتي" وهي قصيدة جميلة ومعبّرة لعلها واحدة من أهم القصائد التي كتبها الشاعر والمخرج محمد توفيق خلال تجربته الشعرية الطويلة يقول في مقطع منها:
"أينما أضع قدمي
تقع على تراب العراق
نخلُهُ يظللني في المفازات
والأهوار شاخصة في القلب
. . .
أنا الغريب
أدور في الدنيا وليس لي نسيب
دمي عذب ماء فرات
ودجلة أسرار روحي
قاربي بين لُجتيّ عشق
فنارهما بوصلتي
أينما يحلُّ بي المقام
تشير بوصلتي الى العراق".
جدير ذكره بأنّ الشاعر محمد توفيق قد كتب هذه القصيدة التي تلامس شغاف القلب بتاريخ 22 / 06 / 2022 في الدنمارك وهي مُستلة من ديوانه الشعري الجديد "مِعول أبي الذهبي" الذي سوف يصدر في السويد قريبًا.
يتنقّل محمد توفيق من المناخ الذاتي إلى الفضاء الموضوعي. فمن العراق وفراته العذب يأخذنا مباشرة إلى همومه الشخصية فها هو يعود من أحد المهرجانات السينمائية مُحملًا بهداياه إلى زوجته وابنته الوحيدة آنذاك حتى يتلقّى الخبر المُفجع لوفاة أمه فتنساب الدموع الحرّى على وجنتيه حُزنًا على الأم التي رحلت ولم يتمكن من توديعها وإلقاء النظرة الأخيرة على ملامحها الوديعة التي تسكن في مهجته وسويداء قلبه، وهذا هو شأن الكثير من المغتربين العراقيين وخاصة المُقتلَعين من جذورهم بسبب مناهضتهم للنظام القمعي السابق.
صندوق العجائب
تعود بنا الراوية رانيا إلى عائلة أمها ببغداد سنة 1960 لتخبرنا عن معاناة جدها من جهة الأم الذي كان سجينًا سياسيًا عام 1967 في "نقرة السلمان" وهو سجن سيء الصيت والسمعة في قلب الصحراء العراقية القاحلة كان يضم السياسيين اليساريين على وجه التحديد وبقية المعارضين للأنظمة القمعية التي توالت على حكم العراق وأوغلت في اضطهادها للشعب العراق المتعدد الأعراق والأديان والمذاهب. وكما أشرنا سلفًا بأنّ فرزدق، شقيق جنين، قد عُذب هو الآخر ثم قُتل عام 1984. ومن خلال صندق العجائب والغرائب نرى صورة تجمع بين والديّ الراوية قبل هروبهما من العراق سنة 1978، وهي السنة التي هرب فيها معظم المناوئين للنظام الدكتاتوري السابق وخاصة اليساريين منهم الذين تناثروا في جهات العالم الأربع. وفيما يتعلّق بهذه الأسرة المثقفة الصغيرة فسنجد أنها قد مرّت بين بيروت ودمشق قبل أن يستقر بها المقام في الدنمارك. وبحسب الصور أيضًا فإن آخر صورة للراوية مع أمها كانت على أرض الدنمارك التي ضمّت جثمانها وطوّقته بالزهور من جهاته الأربع.
ينضاف إلى هذه الأسرة الفنية بامتياز قادم جديد يُدعى مُراد وهو الأخ غير الشقيق للراوية رانيا، الذي سيعاني هو الآخر من ثنائية الحنين والاشتياق إلى الوطن على الرغم من أنه مثل أخته رانيا لم يرَ العراق ولم يزره حتى الآن لكنه يحنّ إليه كلما سمع أغنية عراقية تراثية قديمة ويتأثر بها إلى درجة البكاء فتستغرب أخته أن يشتاق إلى مكان لا يعرفه ولم يزرهُ ذات يوم. وفي أويقات استرخائه يسأل والده عن المكان الذي يحبه في العراق فيأتيه الجواب:"أُحب القلعة القديمة" التي تنتمي إلى الحقبة الآشورية ثم يبدأ بدندنة أغنية تركمانية تقول كلماتها:"لو كنت آجّرة في القلعة القديمة لصادقتُ كل من يمرّ بي / وإن كانت لأحدهم أختًا جميلة لأصبحت له أخًا" فتثني عليه الراوية بأنه غنّى هذه الأغنية بطريقة جميلة فيؤكد لها مراد صحة ما ذهبت إليه بأنّ "الوالد قد غنّى هذه المقطع بطريقة جميلة أول مرة".
تمتد ثيمة الحنين إلى زملاء الراوية وأصدقائها أيضًا مثل العازف الموسيقي "لواند" الذي يشعر، هو الآخر، بالحنين إلى العراق بطريقة غريبة جدًا لكنه لا يعرف حتى الآن ما الذي يشتاق إليه على وجه التحديد! تبدو الراوية مهمومة جدًا بمعاناة أخيها الأصغر مراد الذي لم يجتز عامه الخامس عشر بعد فقد وُلد ونشأ في الدنمارك وتتمنى من أعماقها أن تنقذه من هذا الشعور لكي تحميه من ثقل الإرث الذي ينوء به. وتتساءل غير مرة: هل يمكن أن تخفّف عنه حدّة هذا الحنين الذي يُوصله في كل مرة إلى درجة البكاء. وكلما تأخذها الحيرة تلوذ بالوالد فيخفف عنها غلواء السؤال بأنّ الآباء يتحدثون دائمًا عن العراق بمحبة كبيرة وأنّ ذاكرة الأطفال حيّة وخصبة على الدوام الأمر الذي يدفعهم إلى التفاعل مع ذكريات الوطن التي تتأجج في أعماقهم كلما سمعوا أغنية عراقية سواء أكانت قديمة أم حديثة مثل "فوق النخل" وما سواها من أغنيات تراثية.
تعتقد الراوية أنّ الحنين يرتبط بالشجن الذي ورثته هي وأبناء جيلها لكن الوالد يورد لها حكاية لينين الذي رأى شابًا يحمل كتابًا في أحد المعارض فسأله: ماذا تقرأ؟ أجاب: مايكوفسكي. فقال له: هل قرأت لبوشكين؟ فرد بالنفي: فنصحهُ لينين: اقرأ لبوشكين حتى تفهم مايكوفسكي. ويعتقد الوالد أنّ هذه الحلقات مترابطة مع بعضها بعضًا ولا يمكن فصلها أبدًا.
يذكِّرنا الموسيقي لواند بأنه سمع نوعًا من الموسيقى في كوابيسه المروّعة وذات يوم استيقظ في منتصف الليل وتوجّه إلى البيانو وبدأت يعزف الموسيقى ثم دوّنها ولعل هذا التدوين ساهم في تحرره منها حيث أخرجها من داخله بهذه الطريقة. كانت أمه تروي له دائمًا قصصًا مخيفة عن يوم القيامة. والغريب أنه كلّما فكّر في العراق كانت هذه الصور المروعة تملأ رأسه حيث بدأت تلك المشاعر تتسلل إلى أحلامه. لا أحد من أبطال هذا الفيلم ينجو من الكوابيس فالوالد يسمع أصوات الطلقات الثلاث، والابنة الراوية ترى الكوابيس التي تضاعف دقات قلبها حينما تفكر بمشاركة والدها في المهرجانات السينمائية وتخشى أن يحدث له ما لا يُحمد عقباه فيطمنئها الوالد بأنّ هذه المسألة هي قضاء وقدر ويمكن أن يموت الإنسان وهو جالس على كرسيه لكن الابنة تخشى عليه من مفاجآت القدر ولا يرجع من هذه السفرة أو تلك وكأنه قطع تذكرة ذهاب فقط من دون أن يحجز تذكرة العودة. يذهب الأب إلى مهرجان ما ثم يعود من دون أن تتحقق كوابيس البنت فيستعرضان الهدية التي جلبها لمراد وهي عباءة مذهّبة تصلح أن يرتديها في حفل تخرّجه.
تذهب المخرجة إلى أبعد من ذلك حينما تطلب من والدها أن يجلب لها حفنة من تراب الوطن التي يشمّها أحد الأصدقاء فيشعر أنه وُلد هناك ثم يستعرض الآخرون الهدايا الأُخر مثل المسبحة التي يقدمونها إلى أحد العوائل التركمانية فيشعر ابنهما بحنين شديد إلى الوطن. البعض منهم يشعر أنّ رائحة التربة العراقية هي رائحة الروح والحياة والجذور التي تُشعرك بالفخر والانتماء إلى تلك التربة الزكيّة.
ينهي الأب محمد توفيق قصة الفيلم باقتباس لمسرحية "هاملت" الذي يقول:"أكون أو لا أكون؟ تلك هي المسألة. أي الحالتين . . ثم ينسى بقية البيت الشعري المُقتَبس وينهي المشهد بضحكة مجلجلة مع ابنته رانيا وولده مُراد اللذين يتوقان لمعانقة العراق واحتضانه إلى الأبد.
جدير ذكره أنّ فيلم "حنين" لرانيا محمد توفيق قد اشترك مع 12 فيلمًا في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة من بينها "مرآة السماء" للمخرج العراقي حيدر قيس، و "هدهدة" للسعودي علي العبدالله، و "الأراضي الرطبة" للعُماني عبدالله بن حسن الرئيسي. وقد ارتأت لجنة التحكيم في الدوؤة الثانية لمهرجان بغداد السينمائي أن تسند جائزة أفضل شريط وثائقي قصير إلى فيلم "لن أغادرها" للمخرج اليماني علوي السقّاف.
بقي أن نقول إنّ المخرجة رانيا محمد توفيق قد أنجزت عددًا من الأفلام الروائية والوثائقية نذكر منها "نوال"، "بوس الواوا" و "أغنيتي لأبي" الذي فاز بجائزة أفضل مخرجة في مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة السابعة لمهرجان مالمو للسينما العربية.
***
عدنان حسين أحمد - بغداد