شهادات ومذكرات

علي حسين: رحيل صنع الله ابراهيم.. الرواية وثيقة ادانة

يعترف أن كل رواياته فيها جزء من سيرته الذاتية. السجين السياسي الذي خرج من معتقل الواحات عام 1964 وجد نفسه بلا مأوى يتنقل بين بيوت الاصدقاء، يزوره فيها رجال الشرطة كل يوم بعد غروب الشمس للتأكد من عدم حنينه الى الفكر الشيوعي، لكنه حاول الاحتفاظ في قلبه بقطعة الحنين التي رآها ضرورية لمواصلة العيش الملتزم.

(قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. تطلّع إليَّ في دهشة: إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت: لا أعرف، ليس لي أحد. قال لي الضابط: لا أستطيع أن أترككَ تذهب هكذا. قلتُ: لقد كنتُ أعيش بمفردي. قال: لا بد أن نعرف مكانكَ لنذهب إليكَ كل ليلة، ليذهَب معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري، وتلفتُّ حولي في فضول، هذه هي اللحظة التي كنتُ أحلم بها دائماً طوال السنوات الماضية، وفتشتُ في داخلي عن شعورٍ غير عادي، فرحٍ أو بهجة أو انفعالٍ ما، فلم أجد، الناس تسير وتتكلَّم وتتحرَّك بشكلٍ طبيعي كأنني كنتُ معهم دائماً ولم يحدُث شيء) – صنع الله ابراهين تلك الرائحة -

كان في السادسة والعشرين من عمره، بلا عمل، خجولاً وحساساً، يتقن الانكليزية التي ساعدته على ان يعثر على عمل في مكتبة الكتب الأجنبية التي كانت تملكها أرملة شهدي عطية - احد رموز الحركة الشيوعية المصرية والذي مات تحت التعذيب -، مقابل عشرة جنيهات في الشهر، لكنه بعد اشهر يترك العمل ليذهب مع رفاق له إلى السد العالي . هناك يقرر ان يصبح كاتباً، يجرب كتابة قصص قصيرة طغى عليها الشكل والتجريب، وبدأ العمل في رواية سرعان ما هجرها عندما اكتشف ان تاثيرات فرجينيا وولف واضحة بين سطورها. بعدها وجد في ثلاثية نجيب محفوظ حافزاً لكتابة رواية واقعية، سرعان ما سيتخلى عنها ايضا.

يتذكر في السجن الذي دخله عام 1959 بعد الحملة ضد الشيوعيين انه عثر على مكتبة ضخمة كان السجناء يجمعونها فيما بينهم، هناك تفرغ لقراءة اعمال ارنست همنغواي، وسيعثر في كتاب الناقد الامريكي كارلوس بيكر الذي كتبه عن همنغواي اجابات على الاسئلة التي كانت تدور في رأسه، ومنها ان لا يكتب إلا ما عما يعرفه جيداً، أن تكون الجمل واضحة بعيدة عن التزويق، وأن يحذف كل ما هو زائد.

في العشرينيات من عمره انتمى لصفوف الحركة الشيوعية، فقد قال لشقيقه:" قررتُ أن أصبح ثائراً على مدار الساعة "، في معتقل الواحات انتابه شعور بالعجز في مواجهة ما يجري حوله، اكتشف أن الكتابة هي سبيليه الوحيد، لأنها تمنحنه حريةً كبيرة. يجرب كتابة يومياته فيكتبها على أوراق السجائر، لتصدر بعد اربعين عاما بعنوان " يوميات الواحات " سيرة ذاتية تروي كيف انتهى المطاف في السجن، يسجل ما يحدث له كل يوم يوميات حقيقية تتناول فيها قضايا تتعلق بالكتابة، والموقف وفكرة الالتزام.

نشر أول كتبه مجموعة قصصية " تلك الرائحة " في شباط عام 1964 وقد صدرها بجملة لجيميس جويس على لسان بطل (صورة الفنان في شبابه) يقول فيها:" أنا نتاج لهذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة.. ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا ". لم يكن يتوقع ان كتابه الذي قدم له يوسف ادريس سيكون اول كتاب يمنع بعد الغاء الاحكام العرفية، لم تكن طباعة " تلك الرائحة " تنتهي حتى صدر قرار بمصادرة الكتاب، ليجد نفسه من جديد في مواجهة السلطة، اما القراء الذين تسربت اليهم نسخ من الكتاب ، فقد صدموا من صراحته القاسية التي مست الابنية الغقائدية والاجتماعية لديهم يكتب يوسف ادريس ان تلك الرائحة:" ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورةُ فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بدايةٌ أصيلة لموهبةٍ أصيلة "، كانت تلك الرائحة أقرب إلى مونولوج يرويه رجل أُطلق سراحه لتوه من السجن. يقول ابراهيم اصلان أنه لكي يلتقط ذهول العودة إلى المجتمع العادي، كان بحاجة إلى أسلوب جديد، وصفه لاحقًا بأنه "تلغرافي"، متأثرًا بالكتابة الصحفية الجمل قصيرة. تجارب تُترك دون تعليق. ذكريات الحياة قبل السجن تُقطع فجأةً بتفاصيل عادية: نوم، ذهاب أو عودة صديق أو قريب. كل مساء، يلتقي شرطيا ليختم كتابا يُثبت وجوده في المنزل.

ولد صنع الله إبراهيم في الرابع والعشرين من شباط عتم 1937، لعائلة من الطبقة المتوسطة، الاب يعمل موظفا، والام ممرضة في مستشفى حكومي، وجد نفسه منذ الصغر مهوس بملاحقة باعة الصحف، كان يطمح ان يصبح صحفياً، نشأ صنع في حقبة كانت فيها مصر تمر بتحولات سياسية جذرية، من الاحتلال البريطاني إلى ثورة تموز 1952، وما تبعها من تغيّرات اجتماعية واقتصادية. هذا السياق التاريخي لم يكن مجرد خلفية لحياته، بل شكّل المادة الخام لمعظم كتاباته.

يقول صنع الله في إحدى المقابلات إن الاتجاه اليساري الذي اعتنقه بوقت مبكر بدأ من البيت: "كان والدي من عائلة بورجوازية، وبعد وفاة زوجته الأولى بسبب مرضها، تزوّج من الممرضة (والدة صنع الله) التي رفضتها العائلة لأسباب طبقية".

تلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، لكنه لم يكمل دراسته الأكاديمية بالشكل التقليدي، فقد جذبته السياسة بوقت مبكر.

في بداية السبعينيات سافر إلى ألمانيا الشرقية للعمل في وكالة أنباء، ثم إلى موسكو لدراسة السينما بمنحة دراسية. هناك، تعاون مع المخرج السوري محمد ملص في فيلم عن السجناء السياسيين المصريين، لكنه سرعان ما أدرك أن الأدب هو شغفه الحقيقي. عاد إلى مصر عام ١٩٧٤، وواصل مسيرته في ريادة أسلوب أدبي مميز، غالبا ما استقى من الواقع وثائق - صحف، ونصوص برامج إذاعية وتلفزيونية، وغيرها من المواد الارشيفية والحياتية. كانت اهتماماته متنوعة، لكنها كانت تكاد تصب في النهاية على حياة الناس العاديين الذين يعيشون تحت رحمة الأقوياء.

يينتمي ادب صنع الله إبراهيم الى "الواقعية النقدية" التي تدمج بين التوثيق الفني والتحليل الاجتماعي والسياسي. في روايته نجمة أغسطس التي صدرت عام 1974، تناول فيها بناء السد العالي، وقد اعن من خلالها أنه لا يكتب الرواية بوصفها حكاية شخصية فقط، بل كعمل يرصد حركة المجتمع في سياقها التاريخي.

في أعمال مثل اللجنة الصادرة عام 1981، وظّف صنع الله ابراهيم بنية روائية أقرب إلى الوثيقة والحدث اليومي، لكنه ظل وفياً لروح النقد المباشر السلطة وفروعها. أما في رواية ذات التي صدرت عام 1992، فقد ابتكر صنع الله أسلوبا غير مألوف، حيث تتداخل سيرة شخصية امرأة مصرية عادية مع مقتطفات من الأخبار والوثائق الرسمية، ليقدم بانوراما للحياة المصرية خلال السبعينيات والثمانينيات. وفي وردة، اتجه إلى فضاء اوسع واعني به الرواية التاريخية السياسية، مسلطا الضوء على تجربة ثورية في ظفار بسلطنة عُمان. وهذا الامر حدث ايضا في روية بيروت.. بيروت التي صور فيها الحرب الاهلية اللبنانية، وبين أعماله الأخرى نجد روايات "أمريكانلي"، و"شرف"، و"برلين 69"، و"التلصص"، و"نجمة أغسطس"، ويعود الى الرواية التاريخية في "عمائم وقبعات" الصادرة عام 2008، وفيها يروي ما حدث لمصر اثناء غزو نابليون بونابرت.

يقوم أسلوب صنع الله إبراهيم الروائي على إدماج نصوص واقعية (إحصاءات، أخبار، تقارير —)، داخل الحبكة الروائية، مما يمنح القارئ إحساسا بأنه يقرأ نصا مزدوج الطبيعة: روائي ووقائعي في آن واحد. هذه التقنية تعبر عن إيمانه بأن الأدب لا يجب أن ينفصل عن الحقائق الملموسة التي تصوغ حياة الناس.

في آخر اعماله الروائية " 1970 " التي صدرت عام 2020 يقول انه انتظر 45 عاما لكي يكتب عن عبد الناصر ن فقد اراد ان يكتب رواية عن الرجل الذي سجنه، غير ان الرواية ليست ادانة لزمن جمال عبد الناصر، فالروائي يعترف ان عهد عبد الناصر رغم اخطائه، كان فترة مضيئة في تاريخ مصر. لكنه لا ينسى ان يُحدد المأزق الذي وصلت إليه الناصرية: "انتهت رومانسية النضال. ما تبقى هو الحقائق المجردة تماماً. عبادة الشخصية وانهيارها. إعادة التفكير في كل شيء".

عام 2003، رفض صنع الله إبراهيم تسلُّم جائزة الرواية العربية، معلناً أن السبب هو أنها "صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد". وفي الكلمة التي ألقاها خلال حفل تسليم الجائزة، انتقد صنع الله أيضاً سياسة بلاده والتطبيع مع إسرائيل التي اعتبرها تهدد استقرار مصر.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في المثقف اليوم