نصوص أدبية

مامند محمد قادر: الليلة التي سبقت الحضور

لم تكن المدينة كما هي الآن. قبل أن يُغلق الضوء، كانت الشرفات تضحك، والطرقات تحفظ أسماء المارّين، والأشجار تهتزّ لا بالريح وحدها، بل بأغاني النساء وهنّ ينشرن الغسيل في الصباح الباكر. وكان الأطفال يركضون حفاة في الممرات الطينية، يخطئون ثم يضحكون. لكن شيئًا ما تغيّر في الأعماق. لم يكن مفاجئًا، بل تراجعًا بطيئًا لكل ما هو حيّ. تسلّلت التعليمات ببرودٍ تدريجي : "قلّلوا من فتح النوافذ"، لأن الهواء قد يكون محمّلًا بالأحلام. ثم جاء همسات من أفواه الرُعب : "أِياكم أن تصغوا للريح ، فبعض الروائح تحمل ذاكرة لا يطيقها الواقع المرسوم." قاوم البعض، لكن الخوف طرق الأبواب، ودخل كالضيف الذي لا يُغادر، ثم استقرّ كقانون لا يُناقش.

انغلقت النوافذ واحدة تلو الأخرى. صار الكلام يُوزن، والضحك يُؤجّل، والغناء يُخبّأ في الحناجر. المروج هجرت الحياة، وتقلّص ظل الغابة شيئًا فشيئًا، حتى الورود فقدت رائحتها الأولى. أصبح الأطفال يولدون في صمت، ويكبرون في صمت، وحتى نسي الجميع كيف يبدو الصوت حين لا يُقص جناحه. ولكن مع هذا السكون المتراكم، كان شيءٌ ما يرتجف في العمق، نبض خافت تحت الركام، صرخة مخنوقة في عتمة الليل، لكنها ترفض الموت. كأن المدينة بكاملها كانت تنتظر زفرة لم يُسمح لها بالخروج.

في ليلة لم تُعلن عن نفسها، مرّت نسمة على المروج، أيقظت قامات السنابل، عبرت الغابة ، حاملة أنينها، ولمَت آثار الأقدام على الدروب، حتى وصلت المدينة. طرقت زجاج النوافذ المغلقة وهمست : "أنا خطاكم المبتورة."

في زقاق ضيّق، كانت عجوز تسرّح شعرها في العتمة، رفعت رأسها ببطء، وشعرت بالنسمة تلامس وجنتها. نظرت إلى السماء من خلال النافذة، وأخذت نفسًا عميقًا كمن يستنشق الحياة بعد انقطاع، ثم فتحت النافذة. تبعها رجل بتردد، ومدّ يده نحو النافذة كمن يفتح صدره لشيء نسي ملامحه. أرسل نظره يتسرّب إلى السهول البعيدة، وكأنه يبحث عن وطن لم يعشه.

وهكذا بدأ الأمر. من بيت إلى بيت، من شارع إلى آخر، ومن زقاق الى زقاق آخر. انفتحت النوافذ والشرفات، وتذكّر الناس فجأة أن الريح لا تخيف، بل توقظ.

دخلت الريح كأغنية مشبعة بما لا يُقال. حملت معها رائحة التراب المبلل، جعلت الأبواب ترتجف، والقلوب تتفتح. أعادت للعشب ضحكته، وللطير نداؤه، وللغابة حنينها القديم. وعندما فُتحت النافذة الأخيرة، ساد سكون، سكون مفعم بالتشوق، كأن المدينة بعد انقطاع طويل حبست أنفاسها لتصغي... لا لشخص، بل للأغاني التي جاءت من الأعالي، وأطلقت سراح الحضور المختبئ خلف أبواب الغياب، ليعود إلى المدينة، لكن هذه المرة، بنبض لا ينتهي.

***

د. مامند محمد قادر -  شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في نصوص اليوم