ترجمات أدبية

برايان واشنطن: كاتي

قصة برايان واشنطن

ترجمة: صالح الرزوق

***

بدا السؤال مباشرا. فقد أخبرني نوح - في رسالة قصيرة، وهي الأولى منذ سنوات - أنه هو وأمه أعادا افتتاح مخبزهما، ثم سأل إن كان بمقدوري تقديم المساعدة. وخلال ذلك بوسعي أن أنام على كنبة والده. مارست عائلته هذا العمل منذ سنوات طويلة. حتى أنني شاركتهم بالعمل لعدة سنوات، قبل أن أغادر هيوستون إلى نيويورك، لمطاردة محاسب لعوب له لحية. وبعد رحيلي، تابع المخبز عمله، وواصل العالم دورانه، وبقي نوح في كاتي، وهي بلدة صغيرة على تخوم المدينة، وعلق بالفقاعة - ولكن بعد وفاة والده، أغلق نوح ولاين أبوابهما. وعمل نوح بائع زهور لبعض الوقت. ووجدت لاين عملا في مركز تسوق. ولم أتصل معهما، ولم تكن لدي خطط للمستقبل. ولكن الآن ها هو نوح، وبيده عرض عمل متكامل. وكنت بحاجة لمكان أعيش فيه، والفضل يعود للمحاسب. كنت أعلم أن لاين لن تتقاضى مني الإيجار - ولذلك حينما وقفت في باحة سياراتهم، مخدرا ببخار 12 ساعة من القيادة المتواصلة، وبنوستالجيا المنطقة القديمة، لاحظت كيف كان نوح يحدق من النافذة. مرت علي لحظة فكرت خلالها أن أستدير وأعود من حيث أتيت فورا. ولكن ظهرت لاين في المشهد ولوحت ببدها، فلوحت بالمثل. وخرج نوح إلى الممشى، وهو ينخر ويشخر بطريقته المعتادة، وقبض على قفل شاحنتي، وسألني لماذا تبدو حقائبي اللعينة ثقيلة، وما هو الجحيم الذي أنوي أن أسافر إليه.

**

كان مخبزهما في الواقع عبارة عن بيت صغير من طابقين. وهو متموضع في باحة قرب مركز تسوق، بجوار طريق يصب في الطريق السريع. إذا أسرعت بالقيادة جدا، لا تراه. ولكن البناء أضفى حسا سكنيا على الشارع. وكان مدخله يفضي إلى غرفة معيشة معدلة لتكون صالة للجلوس - ثم هناك آلة الدفع، والمطبخ، وبعده الحمام. ويوجد سلالم غير مرئية بجوار الشرفة، من الخلف، ووراء كل ما سبق. وبدورها تفضي إلى غرفتي نوم، وغرفة ألعاب. وقد نمت فيها على الأرض، مع أنها مكتظة بكنبة وبعض النباتات المنعشة والكثيفة. في صباي كانت عائلتي تعيش قبالة المخبز. ولم يكن أفرادها متواجدين دائما. وكان نوح لا يمانع استضافتي. كنت أعود بعد عناء التعليم من المدرسة برفقته عبر الأزقة، ومأوى السيارات، إلى المخبز لنقتل الوقت مع والديه، وكنا نطوي عجينة المعكرونة في المطبخ. والد نوح شاب كوري شاب، علمني كل شيء عن طيها، وطريقة تحويلها إلى قوالب وأشكال في راحة اليد. وعلمني أن أثق بيدي. كان ينتسب لعائلة من الخبازين، أما زوجته - وهي امرأة سوداء من سان دييغو - فقد كبرت في المخبز. ولذلك حينما قالا لي إنني أتقن عجن أرغفة الخبز مع نوح، صدقت كلامهما. وكان والد نوح يقول لي إنني أفضل من ابنه، وكفاني ذلك لأبدأ بالتفكير في رد الجميل بعد أن أنال درجتي، ولكن لم أذكر هذا الموضوع. ثم مرض والد نوح. ولاحقا بقي نوح ولاين. وأصبحت مثليا، لكن نوح لم يصبح كذلك. ولم يبق للانتظار في ذلك المكان أي معنى، فرحلت. تنقلت من لوس أنجلس، إلى نيو أورليانز، إلى فانكوفر، إلى بروكلين، لأتبع صديقي، وبقي نوح في البيت، حتى تحسنت مهارته في المخبز، وللأسف لم يسمع هذا الإطراء من والده. بعد ذلك عملت صبي منزل عند أي كان، وكنت أطبخ المعكرونة في عطلات الأسبوع. وكنا نتراسل في هذه العطلات الأسبوعية، وإن كنت أحيانا أنسى مراسلته، وفي النهاية توقفت عن النسيان. أصبح هذا اختياري. وعلى هذا الأساس توقف نوح عن الاتصال بي أيضا.

**

في الصباح التالي من يوم وصولي، قبل الفجر، أيقظني نوح بلمسة من قدمه. وحام فوقي بالشورت، وهو يطرف بعينيه. كان دائما شابا ثقيلا، وممتلئا مثلي. ولكنه الآن أصبح هشا أيضا، وتقريبا لم أتعرف عليه.

قلت له: يمكنك أن تتحلى باللطف قليلا.

قال نوح: أنت لا تعرف كيف تعيش. كلنا استيقظنا إلا أنت.

- ولكن نحن ثلاثة فقط.

- مهما كان. القهوة جاهزة تحت.

قلت: لن تجد إنسانا خشنا مثلك.

قطب نوح قليلا، قبل أن يختفي وراء الزاوية. كانت لاين تطوي قائمة الطعام على الطاولة، عانقتها، ورميت نظرة إلى ابنها. كان واقفا قرب آلة النقود، يرشف من كوب. ثم بصمت، طبيعي، باشرنا بترتيب الخزانة - وهكذا أنفقنا يومنا. نظفنا الغبار، وكنسنا، وخشخشنا بالوصفات، وتذوقنا المشروبات. وحينما حان وقت العمل مع الوصفات، كان ملمس العجين في راحتي مألوفا، ولكنه لا يزال بعيدا على نحو ما، ووجدت نفسي ألتفت إلى نوح، لأراقب حركاته. من الواضح أنه تحسن. ويستعمل يديه بأريحية. في النهاية رفع عينيه ليضبطني أراقبه.

قال: هل يوجد شيء بوجهي؟.

قلت: أقترح أن تبتسم.

كشر وهو يصنع المعكرونة واحدة واحدة بدقة. ثم توقف قليلا باستراحة قصيرة، وتابع ثانية.

**

كانت كاتي تتوسع وتغطيها حقول الأرز. أصبح لدينا متجر فيديو ومدارس وبعض الباحات للرياضة ومركز للتسوق وصالة سينما. وحينها إن كنت تبحث عن مشكلة عويصة عليك أن تتوجه إلى شرق المدينة. ولكن تبدل كل ذلك: الآن لدينا مدينة صينيين كاملة. وأرسى الفنزويليون أركان مجتمعاتهم. وأصبح هناك صالة للفنون، وأماكن غير محدودة للحشيش، وعدد من المتاجر الموزعة على طول محيط البلدة - مع أنها الآن لم تعد عمليا بلدة. وكان المخبز ميتا في وسطها.

أحضرت صديقا، في إحدى المرات، قبل أن أغادر الولاية لأول مرة. رأى والد نوح الشاب، وشد على يديه. وحذت لاين حذوه، أيضا، وغمزت لي من فوق كتفه. وأذكر أنني عدت في تلك الليلة إلى نوح، مبتهجا تماما، وكذلك كانت أحواله. ولم يتوقع أي منا إمكانية حصول ذلك - لنا في كاتي. فقد وضعنا الخطط لتحديد الهيئة التي سيكون عليها شريك نوح (أكبر وأطول قليلا)، وكيف سيغازله (في وجبات غداء وسط البلدة)، وكيف سيستمتعان بحبهما (ربما في أحد الحقول بمكان ما). ولكن طبعا لم يمر وقت طويل قبل أن يتخلى عني شريكي من أجل شخص مخنث. وفي تلك الليلة، أخبرت نوح، وكنت في سيارته وأرتعش قليلا، وهو بجانبي يومئ للفضاء المفتوح. ذهبنا بالسيارة إلى ملعب كرة القدم - بحثا عن الصمت وعن مكان - وبدأت أغفو، ثم فتحت عيني على نوح وهو يميل نحوي ليضع وجهه فوق وجهي. قبلته بالمثل، وبشغف تام - ثم بشغف أكبر - قبل أن أنسحب. ثم ضحك نوح، بقليل من الحماس، وكذلك، فعلت أيضا، وأنا أقفز فوق المقعد الأمامي - حتى، في لحظة ما، شهق كلانا، وتمسكنا بحزام الأمان، ونحن بغاية الانفعال والحمى.

**

بقي أسبوع على افتتاح المخبز، وخلاله كنا نحن الثلاثة بقبضة الروتين: نوح يلكزني لأستيقظ قبل الفجر، وفي الصباح ننشغل في المخبز، ونحن نرشف القهوة ونفحص القوائم. بينما لاين تتنقل بين المطبخ والمصرف وبالعكس. وكنا نتابع عملنا حتى ما بعد الظهيرة. وحينها يحتل نوح المطبخ وأقفز أنا إلى الكومبيوتر بجانب الطاولة. وبدماثة تسألني لاين بعض الأسئلة - عن الوسائط الاجتماعية، والتسويق - ولكنها كانت تعلم كل شيء، ويكون نوح خلال ذلك مشغولا بالعمل في الخلف، يخبز، متجاهلا وجودنا. في النهاية أصبح المكان كما تخيلناه. ولكنه بقي عسيرا على الفهم، مثل معجزة، شيء لا يمكننا إنجازه بمفردنا، وبأيدينا. حركت لاين رأسها، وهي تحدق بالبناء من الجهة المعاكسة في الشارع، وسألت إن كنا غير قادرين على تخطيط لافتتنا بأيدينا. قال نوح عن ذلك إنه إفراط بالوساوس - ولكن هزت لاين رأسها لكلينا، وقالت إنه لا مكان لأنصاف الحلول. ثم وهي تراقبنا، قمت مع نوح بكتابة اللافتة. وقفت لاين بجانبنا، وهي تنقل رأسها من طرف إلى آخر. وفي إحدى اللحظات قالت إن اللافتة انتهت، وأصبحت جميلة، ووافقنا على كلامها.

**

أخبرني نوح، في إحدى مكالماتنا الهاتفية النادرة، عن شاب واحد اقتحم حياته. حصل هذا منذ سنوات خلت. كنت حينها أعيش في بروكلين مع طبيب تحول إلى رسام. وكان نوح في تكساس، يعيش حكاية حبه. سألني وقتها عن الجنس، فأخبرته بما أعرف. وسألني عن الرسميات في الحياة العامة. واستفسر عن الفرق بين الاهتمام بشريكه والاهتمام بنفسه. وكنت صادقا معه - ولكن أحيانا، كنت أتهرب منه. في أحد الأيام، في منتصف ذلك اليوم، انفصل عني الرجل الذي كنت على علاقة به، وكنت خارج شقته، ولم يسمح لي الحارس بالدخول، فخابرت نوح من مقهى في المبنى.

وحينما انفصل نوح عن صديقه، كنت أعيش مع شخص آخر. وأخبرني أن هناك أمورا لم يمكنهما تجاوزها. وهذا كل شيء. وكانت هذه فرصتي لأتقرب منه، كما كان يفعل، وكنت أشعر بذلك. ثم تبلدت مشاعري. سألت نوح ما هو الخطأ الذي ارتكبه. وسألته لماذا يصعّب الموضوع. وشعرت أنه يهز رأسه على الطرف الآخر من الهاتف، ثم بالمقارنة تحسنت مشاعري، فقد كنت أكثر خبرة منه، وأشبه مؤخرة لعينة. لاحقا تركني رجلي، أيضا، وعاودت الاتصال بنوح، وفي تلك الأثناء لم يكن يرد، فقد انشغل بوالده، وبصعوبة كنت أتمكن من مكالمته.

**

في الليلة السابقة المحددة للافتتاح، جاءت لاين باكرا. قالت: أمامنا يوم طويل، واقترحت أن نبكر بالنوم أيضا. فأخبرتها أنني سأتبعها إلى أعلى، وكذلك نوح، أيضا - ولكن مكثنا كلانا في الأسفل، نمسح، حتى منتصف الليل. أنا كنست، ونظفت الجدران. ولزم نوح الصمت، وهو يقوم بعمله. ثم في النهاية رفع نظره، وسأل إذا كنت أريد شيئا آكله. كان قد مر على أول مرة لنا معا في السيارة أكثر من عقد. خرجنا من المحلة باتجاه المدينة. وتابع نوح القيادة. لم أوقفه. قدنا حوالي ساعة قبل أن يدخل في شارع يمر بمطاعم تاكو كابانا، ثم وقفنا في باحة السيارات، ووجهانا نحو الطريق السريع، لنقضم في الظلام رقاقات تورتيلا.

مد نوح يده إلى علبة بيننا وقال: لم أتوقع أن تعود.

قلت: حسنا. توقعك مخطئ.

- كان من الممكن أن أفقد نقودي لو راهنت على ذلك.

- أمر طيب أنك لست مقامرا.

قال نوح: أنت لم تأت لوداع والدي.

قلت له: أدرك هذا.

- كان من واجبك أن تأتي.

قلت: أنت محق. وأنا آسف.

قال نوح: لا تعتذر بهذه الطريقة الشئيمة.

قلت: ولكن لم أكن متأكدا أنك تريد أن أكون حاضرا.

- ماذا؟.

- أنا جاد. وربما هذا ما أدهشني. كان علي أن ألاحظ ذلك بنفسي.

قال نوح: أنت من غادر. لقد هجرتني.

قلت: هذا لأنك لم تهتم.

وعلى الفور تمنيت لو أسحب كلامي.

جلسنا كلانا نمضغ بصمت. مد نوح يده إلى العلبة المجاورة لي، وفعلت مثله.

قال: اسمع. لا ضرورة لأن أخبرك أن هذا ليس عدلا. أنت تعلم ماذا يحصل. وأن كل شيء تبدل.

قلت: حسنا.

- حسنا على ماذا؟.

قلت: أنت تختلق الأعذار.

قال نوح: كلا. أنا أذكر الأسباب. أن كل شيء تبدل.

وأضاف: والأسوأ أنك تبدلت أيضا.

**

أنهينا كلانا في لحظة ما طعامنا. وعدنا إلى البيت، دون أن نتبادل كلمة واحدة. جلست على الأرض، واستقر نوح في غرفة نومه، وسمعته يشخر حتى غفوت في النهاية.

**

في صبيحة يوم افتتاح المخبز سقطت الثلوج. وكان هذا أول يوم تشهد فيه هيوستون الثلوج منذ سنوات. وتوقعنا أن هذا الجو سيخنق نشاطنا، وقفنا نحن الثلاثة حول آلة النقود، نلهو بإبهاماتنا. ومسح نوح يده. نقرت على هاتفي. ووقفت لاين بجانبنا، مقتنعة أنه لا ضرورة للقلق. قالت: هذه الأمور تحدث على دفعات، ونحتاج للتريث، تبادلت النظر مع نوح، وانتظرت أن يقول شيئا، ولكنه لم يفعل طبعا، وكذلك أنا. كانت لاين محقة. قبل الغداء، جاءت امرأتان بيضاوان. ثم شاب آسيوي مع ابنته. ثم حلقة من الطلاب والهواتف في أيديهم. ثم زرافات من الناس بجماعات محدودة، وأحيانا أفراد، وكانوا يأتون إلى الطاولة، ويشيرون من وراء الزجاج ويتأملون قائمة الطعام. ومع نهاية ما بعد الظهيرة، لم يعد لدينا معكرونة. وانشغلت تماما بخزانة النقود، وكانت لاين تخدم الزبائن. وتهادى نوح نحو الطاولات بثياب فضفاضة، وكان يقفز في أرجاء المطبخ. وبصعوبة تبادلنا بعض الكلمات، ولكن لم يزعجنا ذلك: كان كل شيء مألوفا وعاديا. وها نحن نعمل معا. وبانسجام رغم كل شيء. لم نمتنع عن تبادل الحديث، ولكن لم يكن هناك شيء نقوله.

**

في تلك الليلة، حسبت لاين ثمار أيام العمل. لم يكن هناك شيء عظيم، ولكنه أفضل من توقعاتنا. بعد ذلك اغتسلنا نحن الثلاثة، وتناولنا طعامنا، ثم استقرت لاين في الطابق العلوي، أنا جمعت كتفيّ وتبعتها. ومكث نوح في الأسفل ليتصفح الوصفات قرب آلة النقود. فكرت به وهو في الأسفل، وأصغيت لصوته وهو يقلب الصفحات - ولاحقا، بفترة طويلة، استيقظت لأشاهده يتأملني، جالسا قبالة الكنبة. لم ينطق أحدنا بكلمة. جلس نوح ببساطة، وساقاه متقاطعتان فوق الخشب. بدا مألوفا أكثر رغم كل شيء، وتساءلت إن كنت مألوفا مثله. وفكرت كيف أتصرف إذا أقبل، وكيف أرد على حركاته. وعلى نحو ما تساءلت إن كانت هذه هي النهاية التي نتوجه إليها. ثم ضغط على ركبتي وطلب مني أن أتبعه إلى الأسفل. كنت مكدودا، ولكنه كان قد طهى وجبة كاملة. استندنا على الطاولة. وطلب مني نوح أن أقضم لقمة من معكرونة أمامه، شيء ممتلئ وتغطيه رقاقات براقة، وفهمت المعنى فورا. وتيقنت أنه فهمه مثلي. كان يريد أن يخبرني. لكن لم أعرف ماذا أقول، وعوضا عن ذلك، نفذت كلامه: تناولت قضمة. ثم نظرت إليه. ونظر لي أيضا. ملنا على الطاولة بدفء، وهدوء، ونحن نمضغ دون صوت، برشاقة، رغم الفوضى التي صنعناها بيننا.

***

..........................

* برايان واشنطن Bryan Washington روائي أمريكي معاصر من هيوستون. من أهم أعماله: الباحة 2019، النصب التذكاري 2020، وجبة عائلية 2023، وساوس 202، وغيرها...

 

في نصوص اليوم