ترجمات أدبية

بانو مشتاق: معلم اللغة العربية والقرنبيط المنشوري

بقلم: بانو مشتاق

ترجمة: صالح الرزوق

***

مهما بدت بعض الأشياء بسيطة، هي ليست كذلك، أو أقله ليس دائما. فالناس يتصرفون بطرق غريبة لا يحكمها المنطق حينما يخافون من تحمل المسؤولية. ولدي أسباب للتفكير بمسائل من هذا النوع. هذا الاكتشاف، أنني عاجز ة عن تبرير سلوكي العشوائي، وبهذه المعايير، اكتشاف راهن، مع أنه مر عليه عدة سنوات بعد وقوع الحادث نفسه. وأصبح هذا الشعور، بلا شك، ومع مرور الوقت، وبالتدريج، أقوى. ومع ذلك كانت تقفز، بين حين وآخر، وجوه مختلفة من تلك الحادثة، من أعماق ذاكرتي، وتصدمني وبدون أي إنذار. حينها، وإلى جانب ضغوط مهنتي بالقانون، كانت لدي مسؤولية تربية ابنتين، التعليم ومراقبة السلوك، وإدارة الحفلات الدينية، وأمور من هذا القبيل. وعلاوة على كل شيء، توجب تقديم ثقافة دينية ملائمة للطفلتين. وكما هو متوقع، ومع أن لوالدهما المتسع من الوقت، أصدرت عائلته بالإجماع فتوى تعفي الزوج من هذه المسؤولية، زاعمة أن رعاية الأطفال من واجبات الأم، بمعنى أنه واجبي وحدي. ويمكن القول أن هذا القرار كان ناجما عن أعراف المجتمع في ذلك الوقت. ولذلك لم يدهشني القول الشائع أن الساري مثل خيوطه، والبنت مثل أمها. الفرق الوحيد أنه عندما ألقى أقارب زوجي هذه المسؤوليات على عاتقي، ولزمت الصمت، قدم لي العون أفراد من عائلتي. وبهذه الروح المتعاونة، وبظل هذا الدعم، اتصل بي عماد أخي الأصغر. وكنت قد باشرت واجباتي. وقال لي: "ديدي، وجدت أستاذ لغة عربية للبنتين. أخبريني متى تكونين في البيت لآتي به".

سألته: "كيف كلفته بالأمر مسبقا؟ ألا يجب أن نختبره قبل ذلك؟".

أجاب بتحسس وغضب لأنني أرفض جهوده في معونتي: "نختبره. أو هوهوه. كما لو أنك تقدمين له وظيفة حكومية وراتبا يقدر بألوف الروبيات".

"الأمر ليس كذلك. أنت لم تفهمني. لن أكون في المنزل. وستكون فيه البنتان فقط، لهذا السبب أسألك إن كان مناسبا. هذا كل شيء. هل ذلك المعلم متزوج؟".

زاد غضبه قائلا: "لا أعلم كل شيء عنه. ولم أستفسر. إن كان الأمر يهمك اسأليه بنفسك. أو انسي الموضوع. ماذا يعنيني إن درست ابنتاك أم لا؟. بحثت عن معلم لأن أمي لم تتركني بسلام في البيت، وألحت لأفعل ذلك". واستعد للدخول بمشاحنة. ولكنه أضاف فورا كأنه يلوم لامبالاة زوجي: "أخبري زوجك أن يأتي لك بدل المعلم رسولا من طرف الله".

قلت لأخي كمن يبتزه عاطفيا قليلا: "انظر، لا تضع الكلمات فوق الكلمات وتدخل معي بالجدل. يوجد سادة كبار النفوس هناك، والعديد من الناس ينفقون بسخاء على المدارس ليتعلم أبناؤهم اللغة العربية، ويحصلوا على ثقافة دينية جيدة. يا لك من خال تشبه الشاكوني؟ أليس كلاهما ابنتيك؟ وتعليمهما من مسؤولياتك؟".

احتج فورا بقوله: "تعلم القرآن مسألة مهمة هنا، لذلك لا تخلطيه مع الرامايانا والمهابهاراتا فهذا يشوشني. وإلا تدخل شخص آخر في الحوار واختلف الموضوع تماما". وكان يصيح بمحاولة للانسحاب.

قلت له وأنا أنهي الكلام: "أف. لا يحصل هذا إلا إذا تدخل شخص مجنون مثلك. المسألة ليست في أنهما لم تتلقيا تعليما باللغة العربية على الإطلاق. فقد ختمتا القرآن ثلاث مرات. والآن عليهما تعلم القراءة وحسب، لتلاوة الآيات بدون أخطاء. ثم عليهما تعلم القواعد ومعاني الكلمات، مثل تعلم اللغة. وأريد شخصا بمقدوره تعليمهما ذلك بشكل مناسب، هل تفهمني؟. تعال مساء في الساعة الخامسة وأحضر ذلك المعلم معك".

تابعت كلمات عماد إقلاق راحتي طيلة النهار. وحينما أوشكت على المغادرة إلى البيت في المساء، اتصلت غوري لتقول 'من فضلك سيدتي تعالي فورا إلى قاعة الاستئناف'".

"لماذا، ماذا هناك".

"قضية مونيسواني".

"آه، ولكن هذا الصباح قال فيفيك إنها تأجلت".

أجابت بمرارة دون أن تفقد رباطة جأشها: "آيو، أنت تعلمين كيف هو فيفيك، يا سيدتي. حتى لو نادوا على قضيتنا أمامه، يكون عائما في عالم آخر".

"أعطيها أسبوعا ثم دعينا نرى".

"ربما يصعب الحصول على مزيد من الوقت. هل يمكنني البت بالموضوع يا سيدتي؟".

فقدت أعصابي وقلت وأنا أهرع إلى المحكمة: "كلا كلا. سأحضر بنفسي. يجب مناقشة مختلف المسائل القانونية بالتفاصيل".

كلمت زوجي وأنا بطريقي، وأخبرته عما قال لي عماد، وطلبت منه أن يتولى مهمة اختبار وتعيين ذلك المعلم. رد ببرود: "آه، جاء كلاهما قبل خمس عشرة دقيقة. ونحن نشرب الشاي. ولا أعلم شيئا عما تبقى. لا أريد أية مشاكل معك إذا قررت تعيينه، عليك أن تأتي بنفسك وتقرري".

جهزت مرافعتي على أساس حالات مشابهة من قضايا سابقة مرت على المحكمة العليا، ولكن تحسست لأن القضية - والتي تأجلت عدة مرات بسبب ضيق وقت المحكمة - قد فرضت نفسها الآن للنظر بها. وفي اللحظة التي قدمت نفسي بها للقاضي، نسيت كل شيء عدا ذلك. وحينما أنهيت عملي، وعدت إلى البيت، كانت الساعة تدق معلنة السادسة.

كان الوقت قد حان لصلاة المساء، وكان المعلم قلقا، وصدمته رؤية معطفي الأسود. كان شابا. ومن أتار براديش وحفظ كل القرآن عن ظهر قلب في المدرسة هناك، وتلقى لقب 'حافظ القرآن' في مرحلة شبابه. ولكن كنت أفضل لابنتي معلما محليا أكبر قليلا بالعمر. وحينما تخليت عن معطفي ودخلت غرفة المعيشة، كانت آسيا وأمينة جالستين على جانبي والدهما. كانت آسيا في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، ةأمينة بلغت الثانية عشرة. ارتبكت بسبب نسياني لهذه التفاصيل مع أنني أمهما. بقي المعلم قلقا جدا، كأنه يجلس على فراش من الشوك. وقبل أن أنطق كلمة، سأله عماد: "متى ستبدأ بالتعليم؟" كأنه قرر كل شيء فعلا. وافق المعلم أن يبدأ منذ اليوم التالي. ولكنه وجد صعوبة بتحديد الوقت، لأن الأولاد لا يكونون في المدرسة، بين السادسة والثامنة صباحا وبعد الخامسة مساء، وحينها يكون وقته ممزقا ومضطربا هنا وهناك. واقترحت أن الأفضل إذا جاء بين الخامسة والسادسة مساء. وأثنى عماد على اقتراحي. ظهرت علامات التوتر على المعلم. وقال مخاطبا عماد وزوجي ببراءة الأوردو الخاصة بمنطقة أتار براديش: "في هذا الوقت أعلم أبناء غفار صاحب بائع الفواكه. اغفروا لي، لا أريد أن أسيء الكلام مع أحد، يبدو أولئك الأولاد غير مهتمين بتعلم أي شيء. ولذلك سأتوقف عن زيارة بيتهم وسأحضر لتعليم ابنتيك عوضا عن ذلك". ولم ينظر لي ولو مرة بالخطأ. كان المعلمون مثله يدركون أنه لا يجب ملاقاة عيون النساء أو التكلم مباشرة معهن، ويجب على الرجال احترام هذا التحريم. ولكنه نظر إلى الجدار، أو إلى الأرض، وأحيانا إلى السقف، أو للرجلين الآخرين الحاضرين هناك أثناء الكلام. في الختام قررنا أن يأتي إلى بيتنا ليعلم ابنتينا اللغة العربية في الساعة الخامسة كل مساء، وسيدفع له خمسمائة روبية شهريا لقاء ذلك.

بدأت البنتان دروسهما. أخبرت الطباخة أن تقدم للمعلم حال وصوله كوب شاي مع بعض الأطعمة الخفيفة أو البسكويت. وعدت أن تفعل الطباخة ذلك وتذهب إلى بيتها. وبين حين وآخر، في وسط عمل اليوم، كنت أتساءل وبقلق إن كان المعلم مهذبا مع ابنتي. كنت كأم أبالغ بالعناية، طبعا. لا شيء من ذلك يمكن أن يحدث، وكنت أثق بما لدى آسيا وأمينة من احترام. ومع ذلك طلبت من زوجي أن يكون مساء في البيت لينتبه للدروس. ولكنه نظر لي بشفقة واستخفاف، ولم أجد الجرأة لإثارة الموضوع معه ثانية. ومع أنني قررت أن يكون الراتب خمسمائة روبية، لم ألتزم بذلك. كنت أعلم مقدار ضرورة التعليم الديني لمستقبل الصغار. وبدأت أدفع للأستاذ زيادة قليلة لتشجيعه على مزيد من الجهد في تدريسهما. وربما هذا هو الحل للأمهات العاملات: المحاولة لتلافي خطيئة عدم منح الصغار الوقت الكافي وتقديم النقود والهدايا لهم. ولكن يستحيل تلافي الذنب في مواقف مستحيلة، وفي العلاقات والمشاكل الغريبة الناجمة. الله وحده يستطيع حماية الأمهات العاملات.

رغم هذا الاضطراب والقلق، شعرت أن معلم اللغة العربية يؤدي في التدريس واجبا طيبا. مرت ست شهور منذ بدأ. وفي أحد الأيام، كانت مؤسسة فاطمة النسائية تحتفل بمولد النبي. وحينما ذهبت إلى الاحتفال، كانت أمينة هناك، ومنحتني ابتسامة طفيفة. وحينها تساءلت لماذا جاءت البنتان إلى الحفل دون أن تخبراني، وصعدت كلتاهما على المسرح وباشرتا بغناء أغنية عن جهاد النبي في حياته. كانت الألفاظ واضحة، وحالتهما تدل على الثقة. وبعد ذلك هنأتني عدة نساء، ومن الطبيعي، أن يسعدني ذلك. وحينما عبرت زوجة أخي عن غيرتها - المتسترة بالإعجاب، شعرت أن البنتين حققتا تقدما كبيرا.  وكانتا مثل حوريات حينما كررتا الأغنية أمام والدهما.

قالت أمينة: "أمي، أردنا أن نقدم لك مفاجأة، لذلك خططنا لهذا مع حضرته. ولم نكن نعرف حتى آخر لحظة إن كنت ستحضرين أم لا". في ذلك الشهر، أضفت خمسمائة روبية لراتب حضرته. ولكن لم أتصور أن ذلك المعلم سيقدم لي عاجلا مفاجأة أكبر. مرت ثلاثة شهور أخرى. في ذلك اليوم كذلك، كان علي تقديم مرافعة، وكنت أشعر بالتعب قليلا. حضرت مرافعة مكتوبة بالنيابة عن موكلي، وأعطيت الملف إلى غوري، والتي كانت دائما تقف على أطراف أصابعها مترصدة فرصة من هذا النوع. ونصحتها بقولي: "اقرأي المرافعة هذه مرتين وركزي انتباهك في القاعة. في النهاية سلمي المرافعة المكتوبة للمحكمة". وغادرت.

سألت حالما فتحت الطباخة الباب: "هل عادت البنتان من المدرسة؟". ثم ذهبت إلى غرفة نومي فورا ودخلت في نوم عميق. وفي ساعة استيقاظي، وكنت على وشك أن أغادر السرير، جاءت من المطبخ عدة أصوات، تتكلم معا. وبالحال تنامت الشبهات التي راودتني حيال معلم اللغة العربية وأصبحت بحجم عملاق، فأسرعت إلى الأسفل، وأنا أقفز درجتين بوقت واحد، وبلغت المطبخ، حيث رأيت زيتا يغلي في المقلاة، وكومة من زهور القرنبيط مكدسة في طبق. وكانت أيادي أمينة وآسيا مبقعة بالزيت والعجين وأشياء من هذا النوع. ومعلم اللغة العربية يجلس على كرسي في الزاوية. انهارت وجوه الجميع حينما شاهدوني. أصبح المعلم شديد الشحوب وبدا أنه على شفا الإغماء. لم أستوعب ما يجري، ولدى رؤية المعلم لي ساخطة، نهض وخرج إلى الشارع. كان المطبخ يروي قصة مختلفة تماما. وشرحت كل من آسيا وأمينة التفاصيل، من بين نوبات البكاء. وما فهمته، أن أستاذ اللغة العربية مغرم بقرنبيط غوبي المنشوري. وبفضل حبه لشطائر القرنبيط، ينفق يوميا الكثير من النقود لشراء طبق منه وإرضاء رغبته، ولم يجد ما يرضي قلبه تماما. ورأى أنه في مطبخنا فقط يمكنه أن يجد مصدرا لا نهاية له لتوفير هذا الطبق، ولذلك خطط لكل هذا مع البنتين. فسألتا الطباخة وحصلتا على الوصفة منها. ولم تكن الطباخة تعرف كيف تطهو مثل هذا الطعام الخفيف، ولكنها لم ترفض حينما طلبت منها البنتان ذلك، وقدمت لهما وصفة إعداده. وحينما كان ثلاثتهم ينفذون خطتهم اقتحمت المكان عليهم.

تنفست مع تنهيدة راحة بعد الإصغاء لهما، كنت سعيدة أن لا شيء وقع لهما. إذا شاهدهما الأقارب عوضا عني، كانت ستقع كارثة. وسينمو للحادثة أجنحة وتنتشر، متخذة صيغا غريبة حسب خصوبة خيال ناشر الإشاعات. وأشكر حظي أننا تجنبنا ذلك، وتنهدت ثانية لأرتاح. وتبين لي أن حدسي صحيح: لم ينظر المعلم بوجهه نحو بيتنا بعد ذلك. ولكن سمعت الأخبار عنه. بحث عن عروس في بيوت بعض الموكلين والموكلات، ولسبب غريب لم ينجح أي مشروع خطبة.

كان عبد الصبحان، وهو موكل قديم، يأتي مرارا ليناقش قضيته في لحظة إغلاق المكتب، ويناقش أمورا شخصية أيضا. وفي إحدى الأمسيات وقف بجوار الباب وقال: "مدام. تمت خطبة ابنتي الصغرى. الصبي مولوي في مسجد عظيم. ولكنه ليس من ولايتنا، وهو من مكان ما في الشمال. أفضل أن أزوجها ولو من لص محلي، لأنه يصعب علي الثقة بالغرباء".

"صحيح. كيف تصرفت فعلت إذا؟".

قال: "ذكر أمامي اسمك، ولذلك في البداية فكرت أنه يمكنني الحصول على بيت بالإيجار، على أن أدفع الإيجار بنفسي، ثم أشتري احتياجات البيت ويكون كل شيء على مقربة مني. ثم فكرت أين أجده إذا اختفى بعد إنجاب ولد أو اثنين؟. من سيعتني بابنتي وأولادها؟ وقررت، يا مدام، أن لا أقع بتلك المشكلة، واستبعدته". اعتقدت أنه تصرف بشكل صحيح. مر شهران - ثلاثة. ثم في مساء يوم أحد جاءت سليمة جان، لتبحث عني، وهي طباخة اعتادت أن تعمل في بيتنا، واستقالت بسبب عارض صحي. كانت تعلم متى أكون تحت الضغط، ومتى أكون مرتاحة. وبدأت تثرثر حول هذا الموضوع وذاك.

قالت: "أكا، تمت خطبة ابنة أختي. ولن أفعل شيئا بدون مشورتك، ولهذا السبب أتيت. نجحت البنت بامتحان بكالوريوس الفنون وهي الآن معلمة في مدرسة حكوبية". كانت سليمة، مثل غيرها في المنطقة، تدمج كلمتي مدرسة حكومية وتربوية معا. تابعت: "هذه البنت هي الطفلة الوحيدة لأبويها، وهو بدوره بلا عائلة لتدعمه. وفكروا أنه بمقدورهم أن يستضيفوه ليعيش معهم".

لسبب ما، لحظة سمعت هذه المقدمة، علمت أن لبطلنا دورا يلعبه. كبحت فضولي وسألت بلا مبالاة: "ومن يكون هذا الولد؟".

"حضرة المولوي ذاك. المعلم الذي اعتاد تعليم ابنتيك، نفس الصبي ذاك".

بدأت أشتبه بوجود فوضى هنا، ولا سيما أن اسمي دخل في هذه المعمعة.

سألت: "هممم. وهل اتفقتم على الخطبة. ومتى الزفاف؟".

أجابت تسأل نفسها: "كيف نتفق؟ ابنتنا ترتدي البرقع حتى وهي تعمل في الحكوبية. وهو لم يطلب أن يراها ولو لمرة واحدة. ولم يستفسر ماذا ننوي أن نعطي أو نأخذ في الزفاف. وانتظر البنت حتى غادرت المنزل، واعترض طريقها في وسط الطريق، وسألها إن كانت تعرف كيف تطبخ قرنبيط غوبي منشوري، ما هذا. أي نوع من الرجال هذا؟". ولزمت الصمت لدقيقة. ثم مسحت كل الغرفة بعينيها وأذنيها لترى أي علامة عن رجل البيت أو البنتين. وارتاحت لعدم وجود أحد. ومع ذلك اقتربت مني، وجرت برقع حجابها للأسفل لتتأكد أن أحدا لا يمكنه رؤية حركة شفتيها وقالت: "انظري. يا أكا. هذا الإنسان لا يتصرف مثل رجل. لم يرافقه كبار لنتكلم معهم بشؤون الزواج. ومع أنه متعلم، وينفق وقته في المسجد كل النهار والليل، ودائما اسم الله على شفتيه، وهو شخص يقود الناس ويحل مشاكلهم، ولكن ماذا إذا تركها فيما بعد واختفى في مسقط رأسه، ربما يمكنها الاعتناء بذاتها. نعتقد أنها بطريقة ما تستطيع رعاية نفسها إذا احتاج الأمر، ولكن الحقيقة أنه لا يفهم ولا يقدر الزواج أو البنت. كل ما يريده منا إعداد طبق غوبي كاري لحفل وليمة الزفاف. ولذلك فكرت أن آتي وأسألك عنه. أنت تقابلين هذا النوع من الحمقى كثيرا، فأخبريني، ماذا نفعل؟".

أدركت أنها تقصد أنه طلب أن يكون الغوبي، طبقه المفضل، متوفرا في حفل الزفاف، وهي قلقة قليلا من معلم العربية التحفة هذا. ولكن شعرت بشيء يسير من التعاطف. وتساءلت من يمكنه أن يخلصه من هوسه بالغوبي المنشوري. أجبتها: "لا أعرف الكثير عنه. لكنه يبدو شخصا طيبا. جاء لتعليم ابنتينا العربية لبعض الوقت. يمكنك تزويجها إن أردت. اسألي عنه آخرين ثم قرري". لم يكن جوابا جازما، ولم ترغب أن تتركني وشأني بسهولة.

 اقتربت أكثر وهمست: "كيف يمكننا أن نتأكد إذا كان مكتمل الرجولة أو لا؟". بدأت أشعر بالضجر. ويبدو أنها لاحظت سخطي. فقالت وهي تدمج الثناء والنقد حيال أفعاله: "لا أقصد شيئا، أكا، لا تسيئي فهمي. أنا سألتك لأنك محامية. وهذا كل شيء. كيف لي أن أعلم إن كان مجنونا؟. في الظاهر هو يعرف العربية والأوردو. ولكن ماذا نظن بعد أن أوقف البنت في وسط الشارع وسألها إن كانت تعرف كيف تحضر كاري الغوبي؟ ولا تنسي أنه معلم في المسجد". وبدأت أعتقد أنه فعلا مجنون قليلا. ربما لو طلب البرياني، أو كورما سوخا، أو بولاو أو أطباقا مشابهة، ستتقبله عائلة الفتاة بروح مرحة. ولكن ليس هذا الطعام النباتي - كما يسمى، هذا الغوبي مانشالاي، هذا القرنبيط المنشوري العجيب... وتساءلت هل يجب أن أتصل بعماد لأسأله عن معلومات لها معنى عن معلم اللغة العربية. ثم توقعت أنه لا يناسبني إبداء هذا الاهتمام به. وطارت الأفكار عن المعلم مثل العصافير أمام مسؤولياتي التي لا تنتهي، ومجددا انغمست في عالمي المهني الرسمي.

مرت ست شهور. وفي يوم هادئ وحينما كنت أتهيأ لمغادرة البيت والتوجه إلى المحكمة جاء عماد نفسه يحمل الأخبار. وكان بين يديه علبتان مليئتان بالتمر، واللوز، وقطع السكر. ونادى على آسيا وأمينة، وقال: "نكاح معلمكما تم وانقضى. أتيت من المسجد مباشرة. تذكركما معلمكما وهو وسط فوضى زفافه وأرسل إليكما هذه الفواكه المجففة". وقدم لهما العلبتين. وبمجرد أن حصلتا على الهدية توارتا عن النظر. تذكرت الثلاثة في مشهد المطبخ في ذلك اليوم وضحكت لنفسي. شعرت بمرح خفيف في القلب بعد أن سمعت أن معلم اللغة العربية تزوج أخيرا. أملت أن يعيش بسلام، وسمحت لابتسامة طفيفة أن تتشكل وتطفو على وجهي. وتابعت إلى عملي. لكن بمجرد أن فكرت أن الشيطان فارق البناية، عاد إلى حياتي مجددا من الباب الخلفي، ومعه معلم اللغة العربية. كأنه إثبات أن العالم بالفعل صغير ومستدير، وبدأت أسمع أخباره مرارا وتكرارا. عندما فكرت أنه، ظاهريا، استقر، بقيت أتساءل من أعطاه ابنته للزواج. وقلت لنفسي لو أنهم من المعارف، لتلقيت دعوة للزفاف أو على الأقل لسمعت بالحفل.  ولكن حالات النسيان كانت لا تدوم. وتأكد لي أن السكينة الموعودة عابرة ومحدودة. فقد جاء إلى مكتبي في أحد الأيام شاب وامرأة ببرقع. لم أتعرف عليهما. ثم أزاحت البنت الحجاب قليلا عن وجهها. رأيت خدشا على أنفها، وخدوشا على يديها مكان الأساور الزجاجية التي تكسرت ونفذت في جسمها. وحينما عرضت جراحها هذه امتلأت عيناها بالدموع. وثارت ثورة الشاب وقال: "هذه أختي الصغرى يا مدام. مرت ست شهور منذ أن تزوجت. والصبي مولوي. ومهما تحملت وصبرت، لتحافظ على كرامة المولوية، لم يتوقف تعذيبه لها. كان يضربها منذ ليلة زواجهما. حتى نفد صبرنا. عقدنا ثلاث اجتماعات في المسجد إلى الآن. وحاول الإمام وأعضاء اللجنة كثيرا نصحه. ولكنه لم يكن مستعدا للإصغاء إلى أحد. وفي النهاية عزلوه عن عمله في المسجد. وحتى بعد ذلك لم يتوقف عن تعذيب أختي. رجاء اكتبي شكوى للشرطة بالنيابة عنا حول الواقعة". غمرني الحزن لهذه التراجيديا بسبب هوس معلم اللغة العربية بالقرنبيط المنشوري. لم أستفسر عن التفاصيل من الشاب، ولكنه تابع تقديمها تلقائيا بحنق قائلا: "طلب منها أن تطبخ طبقا، يا مدام. ولم تعرف ماذا يريد. ولم يستحسن مذاق ما حضرته. فبدأ يضربها كالمجنون. لا يمكننا تحمل هذا، من فضلك أودعيه السجن".

بدون شك كانت جريمة وتستأهل الحبس. ولكن أيضا بدون شك سيهرب ويختفي لحظة توجيه تهمة جنائية له. ماذا عنها بعد ذلك؟. قررت أن أحاول وأنقذه من هذه الفوضى بطريقة ما. وفوق ذلك فكرت أنه يجب أن أحاول إنقاذ حياة المرأة، وربما زواجها. بحثت في الهاتف عن وصفة للغوبي المانشوري، وبنفس الوقت اتصلت من هاتف آخر بأخي عماد.

***

.........................

* بانو مشتاق Banu Mushtaq : كاتبة وناشطة هندية مسلمة. تكتب بلغة الكانادا الخاصة بجنوب الهند. حازت على جائزة البوكر الدولية عن كتابها "سراج القلوب". ومنه تمت ترجمة هذه القصة.

 

في نصوص اليوم