آراء

عبد الأمير الركابي: "وطن كونيه عراقية" لاوطنيه زائفه (2)

في العراق على وجه التعيين، ينطوي مفهوم ونموذج "الوطنيه" المتداول على مخالفة كلية افنائية المقصد، لطبيعة المكان، الموضع العراقي الذي لم يعرف مطلقا في تاريخه البدئي الفاعل والمميز، مثل هذا النوع من التشكلية، او صنف التعبيرية، باعتباره نموذجا كيانويا اخر مخالف للمتعارف عليه، والغالب تاريخيا، بينما تجسد في ارض مابين النهرين نمط ازدواجية، امبراطوري/ لاارضوي،  بدءا ببابل، وقبلها اول امبراطور في التاريخ سرجون الاكدي "حاكم زوايا الدنيا الاربع"، ومقابله الامبراطورية اللاارضوية الدائمه الابراهيمه، وصولا الى العباسيين ومقوله الرشيد للغيوم "امطري حيثما تشائين فانت في ارضي"،ومقابله القرمطية والاسماعيلية والتشيع، وصولا للانتظارية "المهدوية" واخوان الصفا والمعتزله، وجملة التعبيرية، من الزنج الى الحلاجية، الى الخوارجيه والفاطمية  سليلة الاسماعيله.

وهنا تتداخل جمله من الظواهر المتناقضة والمتضاربه، ليس ممكنا على رغم كثرتها وقوة حضورها ان لاتعرض للمعالجة كشرط للتعرف على جسامة، ومدى التوهمية متعددة المناحي التي حلت على العقل البشري ابان الانتقال الالي عند بداياته الاولى، ماقد رافقه من تصور هو بالاحرى الممكن المتاح، ووليد المتوفر من القدرة الاحاطية العقلية في الموضع الاوربي الذي عرف قبل غيره الانتقال الالي، فما كان بالمقدور حينه الخروج عن نطاق الانيه والمكانيه المحدده كمنطلق للتعريف الانتقالي الواقع، بلا ايه احتمالية خارجها، او من الممكن ان تكون موصوله بها  وضرورية لاكتمالها كمستقبل، بحيث  ينظر للحاصل في حينه على انه عتبه بداية، وهذا جانب ليس بالعارض اطلاقا اثرا وحصيلة، يضاف له الاهم ربما، ذلك المتعلق بالمجتمعية وماهي بصدده، وصارت مع الاله مقبلة عليه كانقلابية، وهو مالم تقترب منه التوهمية الغربيه المشار اليها، فلم يخطر لها الاعتقاد بان المجتمعية يمكن ان تكون مجتمعيتان متعاقبتان، وان الاليه المنبثقة، تقابلها وسوف تنتج عنها مجتمعية اخرى، غير تلك القائمة والمتبقية ماتزال  من الطور اليدوي.

وهنا عند هذه الناحية الاساسيه تتجلى مسالة موروثة غاية في الاهميه والحضور،  اصلها حاضر في الطور الاول اليدوي، حيث انتفاء القدرة العقلية على ادراك الحقيقة المجتمعية، وهو ماقد ورد في اجمالي المفاهيم المواكبه للانقلاب الالي، وعلى راسها اخر العلوم "علم الاجتماع" بصيغته الابتدائية غير الموهلة لاجتياز معضله القصور التاريخي، وبالذات منها الوقوع على الازدواجية المجتمعية، وعلى وجه الخصوص، اكتشاف النوع الثاني المجتمعي غير ذلك السائد والمعاش، والباقي خارج التعيين، فضلا عن الادراك، مع مايمكن ان يثيره من ايحاءات ناظمه وحاكمه للتفاعلية المجتمعية تاريخيا، كما مستقبليا، ماكان من شانه الربط بين، ومزج تفاعلية الانقلابيه المجتمعية الاليه،بالاصل المجتمعي"الاخر"، اللاارضوي غير المماط عنه النقاب في ارضه تاريخيا، مع انه كان ومايزال حاضرا بصيغة اولى كونية  مخترقه لغالبية المجتمعات،  وان بصيغتها الابتداء الحدسية  النبوية المطرودة من عالم " المجتمعية" الى منفى " الدين"، ماقد ساعد على تكريسه  كونها لم تبلغ مرحلة التعبيرية "العليّة" السببيه.

يوجد الغرب قاصرا موضوعيا ازاء الانقلابيه الحاصلة بين ظهرانيه، بما يجعل من تلك منها محطتين، احداهما "مادية" في حال تشكل، والثانيه "ادراكيه" غائبه، ما يجعل من الانقلاب الالي مسارا تشكليا، وليس  لحظة انتقال اني مكتمل، تبدا معه الالة مصنعية قبل ان تتحول الى التكنولوجيه، ومن ثم الى التكنولوجيا العليا، وهي موجوده كي تنهي المجتمعية اليدوية، الارضوية الجسدية الحاجاتيه، لا لكي تمنحها ماتدعية من " تقدم" تكراري للصيغة الموروثة من المجتمعية اليدوية المنتهية الصلاحية، وبكلمه فان الاله تظهر في اوربا المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نوعها بفعل ازدواجها الطبقي،  لكي تنهيها نوعا ماعاد صالحا مع تبدل وسيلة الانتاج، من اليدوية الجسدية، الى "العقلية" مافوق الارضوية.

يترتب على جملة التداخلات القصورية الفائته حلول حالة من "الطور اليدوي من الانتقال الالي"، مع كل ماينتج عنه ويترتب عليه خلال المسار الالي الابتدائي من متغيرات ومنجز غير عادي سهل حالة التغلب المفهومي والنموذجي الغربي، اسهم في ذلك تماثل عموم النمطية المجتمعية على مستوى المعمورة  بدرجات مع النمطية والصنف الاوربي الغربي من حيث الجوهر، ماكان من المستحيل ان لايكون انعكاسه متناغما معها، ومع اجمالي الظاهرة الحداثية الغامرة المرافقه لها، بظل انكسارية وانقطاعية الظاهرة الازدواجية المجتمعية العراقية، بالاخص ابان الفترة او المرحله الاولى من اللقاء بين الغرب وحضوره المباشر، والمكان الذي  المختلف الذي وصله، بغض النظر عن نوعية الاستقبال غير العادي الذي عرفه الانكليز وحملتهم في غمرة الانتفاض الكبير الذي كاد ياخذهم الى الانسحاب، مع ان الحاصل كان " ثورة بلا نطقية" وقعت في حزيران عام 1920.

ومن ساعتها والعراق يعيش طور الاصطراع  الانقلابي الالي المكمل للعملية التاريخيه الانتقالية التحولية من اليدوية،  وعلى وجه التحديد الطور اليدوي منها، بكل مامثله من متغيرات استثنائية شامله، ومن قدرات مستجده، لم تمنع حقيقة كون الحاصل في هذا الموضع من المعمورة، هو بالاحرى الطور الحاسم من التاريخ الانتقالي الالي، وان ماسبقة وترتب عليه هو  الطور المادي الممهد للانقلابيه المجتمعية  المستجده، من المجتمعية اليدوية الارضوية الجسدية الحاجاتية الى المجتمعية العقلية، الامر الذي ظل ينتظر  خروج العقل البشري من شرنقة الارضوية والعجز القصوري الفادح بازاء المجتمعية، وبالذات نوعها الاصل البدئي، الممهد والاصل اللاارضوي.

ولم يكن متوقعا  بناء على ما تقدم ان لا تكتسح المروية الاوربية الانتقالية ماقبل الالية، والخاضعه لاشتراطات الموروث اليدوي اجمالي التعبيرية الظاهرة والمتداولة  عراقيا بحكم الغالب  الظروف الخاصة تاريخيا برغم الانبعاثية الاولية، بغض النظر عن المحركات الفعليه التي ظلت تلعب الدور الاساس في تعيين وجهه ومظاهر الاصطراعية الحاصلة بين اللاارضوية بحالتها الانقطاعية، والنمطية الانتقالية الغربيه بصيغتها الابتدائية، فكان ان سادت هنا لغة الطبقات والقومية والليبرالية كترجمة لواقع مجتمعي  اخر انبعاثي، كان هو المتحكم بتلك الظواهر المسماة "وطنيه"، فالشيوعية هنا هي شيوعية حمدان قرمط وكوراجينا المتعدية لشيوعيه ماركس الارضوية، والقومية تحركها اسباب الاصطراعية الذاتيه، ومفاعيل الانقطاع بين مستويين من المجتمعية، المنبعثة  اليوم في الاسفل لاارضويا، والبرانيه  وليدة التعاقبية على عاصمة الامبراطورية المنهارة من هولاكو، وكذا الليبرالية الشعبوية التي ذابت تلقائيا، في وقت كان بفترض ان تكون الاكثر فعالية وحضورا بعد ثورة 14 تموز 1958( المفترض انها برجوازيه)، هي اللاارضوية الثانيه غير الناطقة، التي اجهزت على،  ومسحت من الوجود، الكيانيه المركبة برانيا لاسباب احتلالية باسم "الدولة"، ومعها " الوطنيه الزائفة" الايديلوجيه الناطقة بغير لسانها، وخارج محركاتها وماهي ذاهبة اليه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

في المثقف اليوم