آراء
عبد السلام فاروق: الدولار.. سيف أمريكا المسلط على رقاب العالم!

ماذا لو انهار الدولار؟
سؤال يبدو بسيطا، لكن إجابته تعني زلزالًا اقتصاديًا سيهز عروش القوى العظمى، ويقلب موازين العالم رأسًا على عقب. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يترك مجالًا للشك عندما أرسل تحذيرًا صارخًا: "من يريد أن يجرب فعل ذلك، فليجرب.. لكن عليه أن يكون مستعدًا لدفع الثمن". كلمات تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا، بل وعريضًا، لكل من يجرؤ علي تحدي الهيمنة الأمريكية عبر استبدال الدولار بعملة أخرى.
فهل نحن أمام بداية نهاية الهيمنة المطلقة للدولار؟ أم أن أمريكا، بقوتها العسكرية والاقتصادية، قادرة على سحق أي محاولة لزعزعة مكانته؟ ومن يقف خلف هذه المحاولات؟ هل هي مجموعة "بريكس" بقيادة روسيا والصين، أم أن العالم كله بدأ يئن تحت وطأة الدولار كسلاح سياسي قبل أن يكون عملة تبادل تجاري؟
الدولار.. هو الإمبراطورية
الحديث عن الدولار لا ينفصل عن الحديث عن القوة الأمريكية. منذ اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، أصبح الدولار هو العمود الفقري للنظام المالي العالمي، مرتبطًا بالذهب أولًا، ثم بالنفط لاحقًا عبر صفقة البترودولار مع السعودية في السبعينيات. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الدولار تحول إلى أداة سياسية بامتياز.
الولايات المتحدة تستخدمه كسلاح لفرض العقوبات، لإخضاع الدول المتمردة، ولإرهاب أي نظام يحاول الخروج عن الطاعة. إيران وفنزويلا وسوريا وغيرها شهدت كيف يمكن لعقوبات مالية أن تحول اقتصاد دولة من الازدهار إلى الانهيار في سنوات قليلة. لكن السؤال الآن: هل بدأ هذا السلاح يفقد حدّه؟
بريكس.. محاولة كسر القيد الذهبي
مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تحولت في غضون سنوات إلى نادي للدول التي تريد الهروب من هيمنة الدولار. في قمتها الأخيرة بالبرازيل، كانت الرسالة واضحة: البحث عن بدائل نقدية تقلل الاعتماد على العملة الأمريكية.
روسيا، بعد عقوبات الغرب القاسية عليها، أصبحت أكثر حماسًا لتعويم الدولار. والصين، بقوتها الاقتصادية الصاعدة، تدفع بعملتها "اليوان" لتكون منافسًا جديًا. بل إن بعض الصفقات بين هذه الدول أصبحت تتم بعملات محلية، متجاوزة الدولار تمامًا. لكن ترامب يرد بتحذيره: "ثمن ذلك باهظ جدًا". فماذا يعني هذا التهديد؟
الثمن الباهظ..
الولايات المتحدة الأمريكية، بالتأكيد لن تسمح بتآكل هيمنة الدولار، لأن ذلك يعني انهيار أحد أهم أركان قوتها العالمية. التاريخ يقول إن أمريكا مستعدة لخوض حروب من أجل الحفاظ على هذه الهيمنة. فهل ننسى كيف تم تدمير العراق وليبيا جزئيًا بسبب محاولاتهم التخلص من الدولار في صفقات النفط؟
اليوم، روسيا والصين هما الهدف الأكبر. العقوبات على روسيا ليست فقط بسبب أوكرانيا، بل لأن موسكو تمثل تحديًا مباشرًا للنظام المالي الأمريكي. والصين، باقتصادها العملاق، قد تكون اللاعب الأقدر على قلب الطاولة. لكن هل ستجرؤ على خوض معركة مفتوحة مع العملة الخضراء؟
معركة العملات..
التحذير الأمريكي ليس كلامًا في الهواء. إنه إعلان واضح صريح بأن معركة العملات هي الجبهة الجديدة في الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لأن الدولار هو درع أمريكا ورمحها. أي محاولة لإسقاطه ستواجه برد قد يكون اقتصاديًا، سياسيًا، أو حتى عسكريًا.
لكن السؤال الأهم: هل العالم مستعد لدفع الثمن؟ وهل الدول المتمردة على الهيمنة الأمريكية قادرة على تحمل العواقب؟ المستقبل سيخبرنا، لكن ما نعرفه الآن هو أن المعركة بدأت، وأن ترامب قد أطلق أول رصاصة تحذيرية.
هل نشهد ميلاد نظام نقدي عالمي جديد؟
لم يعد الدولار مجرد عملة لتبادل السلع والخدمات، بل تحول إلى أداة للهيمنة والابتزاز السياسي. لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن القوة المفرطة للدولار قد تكون سببًا في بداية أفوله. فالعالم لم يعد يقبل أن يكون رهينة للسياسة النقدية الأمريكية، خاصة عندما تتحول هذه السياسة إلى سيف مسلط على رقاب الدول التي تخرج عن النهج الأمريكي.
ترامب، في تصريحه الأخير، كان ينطق بلسان الإمبراطورية الأمريكية التي تدرك أن فقدان الهيمنة النقدية يعني بداية النهاية لقوتها العالمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل يمكن لدول "بريكس" وغيرها أن تنجح في تحدي هذا النظام، أم أن أمريكا قادرة على سحق أي تمرد نقدي قبل أن يكتسب زخمًا؟
روسيا.. من الانهيار إلى التمرد
بعد العقوبات الغربية القاسية التي أعقبت الغزو الأوكراني، وجدت روسيا نفسها في موقف لا تحسد عليه: إما الاستسلام للضغوط المالية الأمريكية، أو البحث عن بدائل جذرية. واختارت الكرملين الخيار الثاني.
أولا : التجارة بالروبل حيث فرضت موسكو على الدول "غير الصديقة" دفع ثمن الغاز والنفط بالروبل، في خطوة غير مسبوقة لتجاوز الدولار.
ثانيا : التحالف مع الصين إذ أن أكثر من 70% من التبادل التجاري بين البلدين يتم الآن بالروبل واليوان، متجاوزًا الدولار تمامًا.
ثالثا : ضاعفت روسيا من احتياطاتها الذهبية، في إشارة واضحة إلى استعدادها لعصر ما بعد الدولار.
لكن هل يكفي ذلك؟ الروبل لا يزال عملة هشة، والاقتصاد الروسي منكمش تحت وطأة الحرب. التمرد على الدولار يحتاج إلى أكثر من إرادة سياسية؛ يحتاج إلى قوة اقتصادية وعمق مالي قد لا تملكه روسيا وحدها.
الصين.. التنين الذي يتربص
بينما تخوض روسيا معركتها بالغاز والذهب، تلعب الصين لعبة أطول وأذكى.
- اليوان الرقمي: بكين تطور نظامًا نقديًا رقميًا قد يصبح بديلًا عالميًا لـ"سويفت"، النظام الذي تتحكم فيه أمريكا.
- القروض باليوان: في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تقدم الصين قروضًا تنموية باليوان، مما يوسع نطاق استخدام عملتها.
- تحالفات اقتصادية: من خلال مبادرات مثل "الحزام والطريق"، تخلق الصين شبكة اقتصادية موازية تقلل الاعتماد على الدولار.
لكن الصين توازن بحذر. فهي لا تريد صدامًا مفتوحًا مع أمريكا، لأن مصلحتها تقتضي الاستمرار في التصدير إلى السوق الأمريكية. هل نستطيع إذن أن نقول إن بكين تريد إضعاف الدولار، لا إسقاطه؟
دول البريكس.. بين الوحدة والانقسام
المجموعة التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تطرح نفسها كمنافس للنظام الغربي، لكنها تعاني من تناقضات داخلية:
- الهند: تخشى من هيمنة اليوان مثلما تخشى من الدولار، وتفضل نظامًا متعدد الأقطاب.
- البرازيل: تتعامل بحذر، فهي لا تريد إغضاب واشنطن التي تبقى شريكًا تجاريًا رئيسيًا.
- جنوب إفريقيا: اقتصادها ضعيف لقيادة أي تحول نقدي.
إذن، فكرة إصدار "عملة بريكس موحدة" تبدو بعيدة المنال حاليًا. لكن مجرد وجود هذا التحالف يرسل رسالة واضحة أن العالم لم يعد راضيًا عن هيمنة الدولار الأحادية.
الحرب الاقتصادية.. وما بعدها
الولايات المتحدة لن تتخلى عن سلاحها المالي دون قتال. وسنرى على الأرجح:
1. عقوبات أكثر قسوة: كما حدث مع روسيا، أي دولة تحاول التخلي عن الدولار قد تواجه تجميد أصول وحظرًا مصرفيًا.
2. ضغوط دبلوماسية: واشنطن ستستعمل نفوذها في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي لعرقلة أي تحالفات نقدية منافسة.
3. حروب بالوكالة: كما في أوكرانيا، قد تشعل أمريكا نزاعات إقليمية لإضعاف الدول المتمردة.
لكن الخطر الأكبر على أمريكا هو أن يصبح التمرد على الدولار ظاهرة عالمية، لا مجرد سياسة لعدد قليل من الدول. فحتى الحلفاء التقليديون مثل السعودية بدأوا يتحدثون عن قبول اليوان في صفقات النفط.
هل هذه نهاية الهيمنة الأمريكية؟
المعركة الحقيقية ليست بين الدولار وعملة أخرى، بل بين نظام عالمي أحادي القطب يقوده الغرب، ونظام متعدد الأقطاب تتصارع فيه القوى الكبرى.
إذا نجحت أمريكا في قمع التمرد النقدي سنشهد مزيدًا من الهيمنة الأحادية، ولكن مع عداء متزايد من بقية العالم ، أما إذا نجحت روسيا والصين في تعويم الدولار فسوف ندخل عصرًا جديدًا من الفوضى المالية، تتصارع فيه العملات على الزعامة، وتنهار الثوابت الاقتصادية التي حكمت العالم منذ 80 عامًا.
ترامب قالها بوضوح "من يجرؤ على تحدي الدولار، عليه أن يدفع الثمن". لكن السؤال الأصعب: هل أمريكا نفسها مستعدة لدفع ثمن الحفاظ على هذه الهيمنة؟ لأن التاريخ يعلمنا أن كل إمبراطورية ظنت نفسها خالدة.. سقطت في النهاية.
***
عبد السلام فاروق