آراء
حيدر شوكان: السوط لم يكسرهم، لكن الكرسي فعل

شاهدتُ السياسي العراقي عزّت الشابندر في لقاء تلفزيوني "مع حميد عبد الله" على قناة دجلة العراقية يتحدث عن تجربة الإسلام السياسي في العراق، وكيف أنّ صلابة الإيمان قد حصّنت جماعات من الأفراد ضد بطش السجون وجلَد المعتقلات وسطوة الموت ذاته، فلم يتزحزحوا في ساعة القهر القصوى. إلَّا أنّ الامتحان الأعمق والأعقد لم يكن هناك، وإنَّما حين انفتحت أمامهم أبواب الدنيا بزخارفها، وامتدّت إليهم يد السلطة ببريقها، فإذا بتلك الصلابة تنكسر، وإذا بالثابتين في وجه العذاب يسقطون عند عتبة الحكم وسطوته. إذ يُفضَح جوهريًا ضعف الإنسان أمام فتنة الامتلاك لا أمام رهبة الفقد. ولم يقارب هذه المفارقة الشابندر، ولم يُلمّح إلى أسبابها، وإنما ذكرها في مورد التعجّب.
المفارقة قد تبدو سهلة في تحليلها والإجابة عليها ولكنها مهمة وضرورية: فالإنسان وفق مؤشرات الدراسات الحديثة، يقوى حين يواجه التهديد المباشر، فيستنفر إرادته ليبقى ويصمد. لكنه يضعف حين تُفتح أمامه أبواب اللذّة ويُترك له خيار التملّك بلا رقيب داخلي راسخ. ففي العذاب يولد التضامن، وتشتدّ الروابط، ويغدو الثبات شهادة جماعية، بينما في السلطة ينفكّ هذا الرابط، ويتحوّل الإغراء إلى عزلة خادعة تكشف الفرد على حقيقته. وما يبدو بطولة في وجه السوط والموت، قد يتلاشى عند أول بريق للمال والنفوذ، لأنّ جوهر الامتحان لا يكمن في تحمّل القهر، بل في مقاومة الغواية. عندها يتبيّن أنّ الإنسان لا يسقط أمام شدّة العذاب، بل أمام لذّة الامتياز، وأنّ الثبات في الفقد أهون من الثبات في الامتلاك.
هذا الانهيار أمام السلطة لم يكن استثناءً إنسانيًا، فقد كررته وألمحت إليه التجربة التاريخية والفلسفية: فهذا الإمام علي يقول: "الشجاع من غلب هواه." فنيكولو مكيافيلي في الأمير يشير إلى أنّ الحفاظ على الحكم غالبًا ما يفرض الانحناء أمام الغوايات والوسائل غير الأخلاقية، حتى على الأكثر صلابة في المبادئ. وتوماس هوبز في الليفياثان يرى أنّ الإنسان، رغم سعيه للبقاء أمام الخطر المباشر، لا يقاوم السعي وراء النفوذ والامتياز حين تتاح له الفرصة، مما يفسّر سقوط القيم أمام بريق السلطة.
إضافة إلى ذلك، تظهر التجارب التاريخية الحديثة لمختلف الأحزاب السياسية والتوجهات- الدينية وغير الدينية- التي قاومت الاستبداد، وأفرزت شهداء ومقاومين أبطال في المعتقلات، شهدت تراجعًا لمبادئها الأخلاقية حين تمكنت من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة، وأصبح الإغراء بالامتياز الشخصي أكبر من الرهبة من الموت. وهنا يتجلى أن الامتحان الأخلاقي الحقيقي لا يُقاس بالمقاومة المباشرة للخطر، بل بقدرة الإنسان على الثبات أمام الترف والسلطة.
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفسير هذا الانهيار عبر فكرة "العزلة النفسية والامتياز الفردي". حين يعيش الفرد في سياق جماعي تحت الضغط، تتولد شبكة من الالتزامات الأخلاقية المشتركة، ويصبح التضامن وسيلة للحماية والبقاء. لكن عند انفتاح السياق وإتاحة القوة للفرد منفردًا، تتفكك هذه الشبكة، ويبرز الصراع الداخلي بين الرغبة الشخصية والقيم المشتركة، فتتكشف هشاشة المبادئ أمام الإغراءات.
هكذا يمكن القول إنّ الإنسان لا يُختبر حقًا في ظل القهر وحده، بل حين تُفتح أمامه أبواب الامتلاك والسلطة. ما يبدو صلابة بطولية في وجه السوط، قد ينهار أمام بريق الكرسي. والمفارقة العميقة تكمن في أنّ امتحان القوة الحقيقية هو مقاومة الغواية وقوتها، لا مجرد تحمّل العذاب، وأن صمود الفرد أمام الفقد أهون من مقاومته أمام امتياز السلطة.
***
د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.