آراء

إبراهيم برسي: الإخوان المسلمون.. التحولات العالمية والإقليمية

من السبعينات حتى التسعينات.. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (2)

في الجزء الأول من هذه السلسلة، تناولنا جذور الإخوان من الخمسينات حتى السبعينات، وكيف تحوّلوا من دعوة إصلاحية إلى تنظيم يشرعن العنف. ونواصل اليوم الرحلة من السبعينات حتى التسعينات، حيث تتسع رقعة العنف لتشمل الإقليم والعالم.

في السبعينات، كان العالم العربي يقف عند مفترق طرق: صعود النفط وما جلبه من ثروات غير مسبوقة، تراجع المشروع القومي بعد هزيمة ٥/٦/١٩٦٧، وظهور الإسلام السياسي كبديل يوظف خيبة الجماهير. لم يكن الإخوان في هذه الحقبة مجرد جماعة محلية؛ كانوا قد بدأوا يتشكلون كتنظيم عالمي يمتد من القاهرة إلى الخرطوم، ومن عمّان إلى كراتشي، ومن لندن إلى ميونخ. كانت الهجرة القسرية لقياداتهم – نتيجة قمع ناصر – فرصة لتوسيع شبكاتهم في الخليج وأوروبا، حيث تحالفوا مع دوائر المال والبترودولار، ووجدوا دعمًا ضمنيًّا من الغرب الذي رأى فيهم حائط صد ضد المدّ الشيوعي.

وفي ظل هذا التحول، لم تكن الموارد مجرد تدفقات نقدية، بل صياغة لما يمكن تسميته “اقتصاد الدعوة”: مدارس وجمعيات وعيادات ووسائط إعلام محلية تُعيد إنتاج الولاء يوميًا؛ من منبر المسجد إلى ملصق النقابة، ومن الكتيّب الرخيص إلى الشريط الصوتي. تَخلَّق بذلك سوق لغوي جديد يمزج الوعظ ببلاغة الإدارة والنجاعة، فيمنح المشروع جاذبية عملية تتجاوز الشعار.

في مصر، شهدت حقبة السبعينات إعادة إحياء للجماعة بفضل سياسة السادات الذي سمح لهم بالعودة لمواجهة الناصريين واليسار. لكن هذه الصفقة حملت في طياتها بذور نهايته. فالإخوان، ومعهم التيارات المتشددة التي خرجت من رحم فكر سيد قطب، أسسوا مناخًا تكفيريًا متناميًا انتهى في ٦/١٠/١٩٨١ برصاص خالد الإسلامبولي ورفاقه، الذين اغتالوا الرئيس في عرض عسكري أمام العالم. لم يكن هذا الحادث مجرد انتقام سياسي؛ كان إعلانًا عن أن الإسلام السياسي بات يمتلك ذراعًا مسلحة قادرة على إسقاط رأس الدولة.

وتكمن خطورة تلك اللحظة في كونها كرّست “العنف الرمزي” قبل الفعلي: إعادة توصيف الخصم الوطني على أنه خصم ديني، وتحويل الخلاف السياسي إلى انحراف عقدي. بعد ذلك، يغدو انتقال بعض الهوامش إلى السلاح أمرًا متوقعًا؛ فاللغة ممهّدة، والجمهور مُهيَّأ لقبول الاستئصال بوصفه خلاصًا. هكذا يتجاور المنبر والرصاص تحت سردية واحدة تتحدث باسم “النقاء”.

في السودان، بدأت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي تصوغ مشروعها الخاص. منذ المصالحة الوطنية مع نميري عام ١٩٧٧، تسلل الإخوان إلى بنية الدولة، وتعلموا من تجارب مصر وسوريا أن القوة وحدها لا تكفي، بل يجب اختراق المؤسسات. فسيطروا على الجامعات، أقاموا جهازًا سرّيًا، وبنوا شبكة مالية عبر البنوك الإسلامية. ومع سقوط نميري ٦/٤/١٩٨٥، بدوا وكأنهم في تراجع، لكنهم كانوا يحضّرون لانقلاب سيأتي بعد أربع سنوات.

وقدّم هذا الاختراق المؤسسي نموذجًا مبكرًا لما سيُعرف لاحقًا بـ”التمكين”: إحلال الولاء محل الكفاءة، وتوزيع مفاصل الإدارة على شبكات تنشئة أيديولوجية. تتكون بيروقراطية موازية غير مرئية، تتغذى على المصالح المتبادلة بين رأس المال الإسلامي الناشئ والأمن، وتبرر سيطرتها بخطاب طهراني يرى الإدارة تكليفًا شرعيًا لا خيارًا سياسيًا.

في العالم، كانت السبعينات والثمانينات حقبة الحرب الباردة. ولأن السياسة لا تعرف البراءة، فقد تحالف الإخوان – بشكل مباشر أو عبر وكلاء – مع الولايات المتحدة في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. هناك، وُلد “الجهاد الأفغاني” الذي احتضن آلاف الشباب من العالم الإسلامي، كثير منهم من الإخوان أو المتأثرين بفكرهم. ومن تلك التربة خرجت القاعدة لاحقًا، بقيادة أسامة بن لادن، الذي تأثر بخطاب سيد قطب وبتنظيرات عبد الله عزام – الإخواني الفلسطيني الذي يُعتبر الأب الروحي للجهاد الأفغاني.

بدت أفغانستان ساحة بعيدة، لكنها عملت مختبرًا لامتزاج “الخطاب القطبي” بخبرة القتال العابرة للحدود. انتقلت “العدة الفكرية” عبر مجلات وأشرطة وشبكات طلابية، وتقوّى مفهوم “الأممية الجهادية”. لم تكن الحدود بين “الإخوان السياسيين” و”السلفية الجهادية” صلبة؛ كان هناك تداول للمفاهيم والكوادر والتمويل، مع تنافسٍ على شرعية القيادة وتفسير “الواجب”.

الاغتيالات ومحاولات الاغتيال في هذه المرحلة كثرت وتنوعت:

* في مصر، استُهدف مفكرون وسياسيون، أبرزهم فرج فودة الذي اغتيل لاحقًا في ٨/٦/١٩٩٢ على يد جماعة إسلامية تحمل نفس فكر الإخوان في تكفير المخالف.

* في سوريا، خاض الإخوان مواجهات دامية مع نظام الأسد، بلغت ذروتها في مجزرة حماة ٢/٢/١٩٨٢. كان العنف لغة مشتركة: النظام يقتل بالجملة، والإخوان يردون بالاغتيالات.

* في السودان، جرى التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا ٢٦/٦/١٩٩٥، وهي العملية التي اتُّهمت بها قيادات عليا في النظام السوداني، ومن بينهم علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، باعتبارها جزءًا من الجهاز السري للجبهة الإسلامية. هذه الحادثة رسّخت صورة السودان كملاذ للحركات الإسلامية العنيفة.

وتتجاور هذه الوقائع كي ترسم بنية لا مجرد حوادث معزولة. فالعنف هنا أداء عام يصنع معنى ويقترح هوية، وردّ الدولة عليه – عبر “أمننة” المجال العام – يُعيد إنتاج الشروط التي غذّت العنف أصلًا. تتغذى الدائرة على صور الشهداء، وخطب المنابر، وبلاغات السلطة؛ كل ضربة تُنجب خطابًا أشد، وكل خطاب يمهّد لضربة أوسع.

من زاوية التحليل النفسي، تبدو هذه المرحلة مثالًا على ما يسميه علم النفس التنظيمي “التماهي العدواني”: الجماعة تعيد تشكيل وعي الفرد بحيث يرى في القتل تضحية، وفي العنف خلاصًا. يُغذَّى هذا الوعي بشعارات عن “الشهادة” و”الفريضة الغائبة”، حتى يغدو الاغتيال ليس جريمة بل فعلًا تطهيريًا. الشخص المتطرف هنا ليس مجرد فرد معزول، بل عضو في جماعة توفر له هوية، معنى، وغفرانًا مسبقًا لكل عنف يرتكبه.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تُقرأ الظاهرة أيضًا عبر مفهومي “الهوية المندمجة” و”تقديس القيم”: حين تُرفع غاية فوق الحسابات، تصبح غير قابلة للمقايضة. يتراجع العقل الأداتي، وتتقدم اللغة الأخلاقية الحدّية كأداة تعبئة. لا يعود السؤال: ما الجدوى؟ بل: ما الواجب؟ ومع الواجب ينحسر تمثّل الضحية لصالح صورة المثال الطاهر الذي “يستحق” كل تضحية.

في هذا السياق، يمكن فهم التحليل العميق لصادق جلال العظم، المفكر السوري الاشتراكي، الذي رأى أن الإسلام السياسي في جوهره “أيديولوجيا تعويضية”: تَعِد الجماهير بالجنة حين تفشل في تقديم حلول دنيوية. وبالمثل، كتب الطيب تيزيني أن هذه الحركات “لا تنتج معرفة، بل تنتج شعورًا بالخلاص عبر إلغاء الآخر”. هذه الرؤية تُسائل بعمق: كيف تتحول العقيدة إلى أداة لتبرير الدم؟ وكيف يصبح النص الديني واجهة لإرادة سلطة دنيوية؟

ما بين السبعينات والتسعينات، كانت السردية الإخوانية تتجذر عالميًا. في تونس، ظهر راشد الغنوشي كوجه للحركة الإسلامية المحلية، مستلهمًا من الإخوان المصريين. في الجزائر، دخل الإسلاميون في صدام دموي مع الجيش بداية التسعينات بعد إلغاء الانتخابات، ليتحول البلد إلى ساحة حرب أهلية. في فلسطين، تأسست حركة حماس ١٠/١٢/١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان، متبنية العمل العسكري ضد إسرائيل، ومثبتة أن العنف أصبح خيارًا إستراتيجيًا.

أما في السودان، فقد بلغ المشروع ذروته بانقلاب ٣٠/٦/١٩٨٩ الذي قاده عمر البشير بدعم كامل من الجبهة الإسلامية. هنا اكتملت الحلقة: من التنظيم الدعوي في الخمسينات، إلى الجهاز السري في السبعينات، إلى السيطرة الكاملة على الدولة في التسعينات. ومنذ تلك اللحظة، أصبح السودان مختبرًا لتجربة الإسلام السياسي في الحكم: دولة بوليسية، مليشيات سرية، اغتيالات، ومحاولة لتصدير “الثورة الإسلامية” إلى الإقليم.

ومع قيام السلطة على هذا النحو، برزت أدوات حكم تُزاوج بين الخطاب والعنف: تأميم المجال الديني وتسييس القضاء، وخنق المجتمع المدني عبر “مجتمع موازٍ” من نقابات واتحادات ومنظمات تُعيد توزيع الولاء. تتقدم المليشيا كذراع سيادية لمراقبة المجتمع، فيما يتكفّل الاقتصاد الريعي ببناء الاعتمادية. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز تنشئة أيديولوجي شامل.

هذه المرحلة تكشف بوضوح أن الإسلام السياسي لم يعد حركة احتجاجية فقط، بل صار مشروع سلطة. اغتيال السادات كان إعلانًا بأن الجماعة قادرة على الوصول إلى أعلى قمة في الدولة. مجزرة حماة كانت دليلاً على أن الإسلام السياسي يمكن أن يدخل في حرب إبادة متبادلة. انقلاب السودان كان إثباتًا أن الجماعة تستطيع السيطرة الكاملة على دولة. أما أفغانستان، فكانت دليلًا على أنهم قادرون على لعب دور عالمي ضمن صراعات القوى الكبرى.

وعلى المستوى المقارن، يمكن تسجيل ثلاث خلاصات: أولًا، سقوط “خرافة الحياد الدعوي”؛ فحين تدخل الحركة معترك السلطة، يغدو خطابها صفرِيًّا بطبيعته. ثانيًا، قابلية النموذج للانتقال عبر شبكات المساجد والجامعات والشتات، بما يجعل التجارب تتشابه رغم اختلاف السياقات. ثالثًا، قابلية العنف للتدويل، إذ يُعاد تأويل الجغرافيا بوصفها خرائط عقائدية تتجاوز حدود الدولة الوطنية.

وهكذا، حين نطل على نهايات التسعينات، نجد أن كل عناصر المأساة كانت قد نضجت: تنظيم عالمي، ذراع عسكرية، شبكة مالية، خطاب تكفيري، وارتباطات بجماعات جهادية أخرى. وكأن المشهد كان يمهّد لمرحلة جديدة أكثر دموية: مرحلة القاعدة، داعش، وحروب ما بعد ٢٠٠١.

“الأسبوع المقبل نصل إلى الجزء الثالث: من الخرطوم إلى نيروبي… حين صار الإرهاب عابرًا للحدود (١٩٩٠–٢٠٠١) “.

***

إبراهيم برسي

 

في المثقف اليوم