آراء
إبراهيم برسي: الإخوان المسلمون.. من القاعدة إلى داعش

من (التسعينات حتى العقد الثاني من الألفية).. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (3)
في الجزء الثاني، توقفنا عند التحولات الإقليمية من السبعينات إلى التسعينات: اغتيال السادات، مجزرة حماة، انقلاب السودان. واليوم نتابع صعود القاعدة وعلاقة الإخوان بها، لنرى كيف تحوّل الإرهاب إلى شبكة عابرة للحدود.
مع نهاية التسعينات، كان الإسلام السياسي قد غيّر جلده أكثر من مرة، لكنه لم يتغيّر في جوهره. من تنظيمات دعوية إلى أجهزة سرية، من محاولات اغتيال محلية إلى شبكات عابرة للحدود، ومن السيطرة على الجامعات إلى الاستيلاء على السلطة. غير أن ما سيأتي بعد ذلك سيكشف أن المشروع لم يكن يقف عند حدود الدول القُطرية، بل كان يتطلع إلى بناء سردية أممية، تُستعاد فيها صورة “الخلافة” كحلم مؤجل.
في هذا السياق، ولدت القاعدة. لم تكن القاعدة طفرة معزولة، بل كانت النتيجة المنطقية لمسار طويل بدأ مع سيد قطب، وتحوّل إلى جهاد أفغاني برعاية أمريكية وسعودية في الثمانينات، ثم انفجر في التسعينات ليصبح تهديدًا عالميًا. أسامة بن لادن، الذي خرج من رحم الثروة السعودية والتربية السلفية المتأثرة بكتابات الإخوان، وجد في أفغانستان تربة خصبة لتجسيد فكرة “الجهاد العالمي”. عبد الله عزام، الإخواني الفلسطيني، كان هو المُلهم والعرّاب. ومن هنا، بدأت العلاقة المعقدة: الإخوان من جهة يعلنون براءتهم من العنف المباشر حفاظًا على صورتهم السياسية، لكنهم من جهة أخرى يوفرون الغطاء الفكري والتنظيمي لشبكات جهادية مثل القاعدة.
في السودان، لعبت الخرطوم دورًا خطيرًا بين ١٩٩١ و١٩٩٦ حين تحولت إلى ملاذ آمن لبن لادن وقادة القاعدة. كان نظام البشير والترابي يرى في استضافة هؤلاء “المجاهدين” جزءًا من مشروعه لتصدير الثورة الإسلامية.
في تلك السنوات، عاش بن لادن في الخرطوم، أسس شركات، وحصل على حماية من جهاز الأمن الشعبي. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن السودان كان ساحة للتدريب والتخطيط، من بينها عمليات استهدفت الأمريكيين في نيروبي ودار السلام عام ١٩٩٨.
لم يكن السودان مجرد بلد عبور؛ كان مركزًا، مختبرًا، وحاضنة. وهذا ما جعل الولايات المتحدة تضعه في قلب قائمة الدول الراعية للإرهاب.
في مصر، ومع بداية التسعينات، عادت موجة الاغتيالات. أبرزها اغتيال المفكر فرج فودة في يونيو ١٩٩٢، رجل أعلن بوضوح أن الإسلام السياسي مشروع استبدادي متنكر بعمامة الدين. كان اغتياله بمثابة رسالة أن السيف لا يزال فوق رقاب المثقفين. وفي ١٩٩٤، نجا الأديب نجيب محفوظ من محاولة اغتيال بطعنة في رقبته، نفذها شاب تأثر بفتاوى تكفيرية. هذه الأحداث لم تكن معزولة؛ كانت جزءًا من مناخ أنتجته الحركة الإسلامية وأشباهها، حيث صار القتل وسيلة لإسكات الفكر.
في الجزائر، تحولت التسعينات إلى جحيم. فبعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات ١٩٩١ وإلغائها من قبل الجيش، اندلعت حرب أهلية دامية. الجماعات المسلحة، التي حملت فكرًا قريبًا من الإخوان وقطب، ارتكبت مجازر مروعة في القرى والمدن. أكثر من ١٥٠ ألف قتيل خلال عقد واحد. الجزائر كانت المثال الأوضح على أن مشروع الإسلام السياسي، حين يُسقط بالقوة أو يُمنع من السلطة، لا يعود إلى الدعوة أو الحوار، بل ينقلب إلى حمام دم.
أما في فلسطين، فقد ولدت حركة حماس عام ١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان. في التسعينات، صعدت قوتها عبر العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل. لكن هذه العمليات لم تكن مجرد مقاومة، بل تعبير عن التحام خطاب الإخوان مع العنف المسلح كخيار إستراتيجي.
العالم بدأ ينظر إلى الإخوان عبر عدسة حماس: حركة دعوية/سياسية تحمل السلاح وتتبنى التفجيرات.
وفي القارة الإفريقية، برزت حركات مسلحة دعت إلى نفس الأيديولوجيا المتطرفة. ففي الصومال، أسس مقاتلون صوماليون عائدون من القتال في أفغانستان تنظيم “حركة الشباب” (شباب المجاهدين)، الذي أصبح لاحقًا ذراعًا قويًا لتنظيم القاعدة في شرق إفريقيا . خرجت هذه الحركة لتفرض الشريعة في مناطق واسعة من جنوب الصومال وشنّت هجمات إرهابية عبر الحدود. ففي يوليو ٢٠١٠ شنت الحركة هجمات انتحارية في العاصمة الأوغندية كمبالا، أسفرت عن مقتل نحو ٧٦ شخصًا . كذلك ظهرت في نيجيريا حركة “بوكو حرام” التي أسسها محمد يوسف أواخر التسعينات، وكانت تطلق على نفسها اسم “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد”، وهدفت إلى إقامة دولة إسلامية في شمال نيجيريا وتطبيق الشريعة وتعليق التعليم الغربي . تطورت بوكو حرام إلى تنظيم مسلح عنيف، حيث أعلن خلف يوسف، أبو بكر شيكاو، الولاء لداعش عام ٢٠١٥ ، وارتكبت موجة من الهجمات المروعة، من أبرزها اختطاف ٢٧٦ فتاة مدرسية في ولاية بورنو عام ٢٠١٤ . إن هذه الأمثلة في إفريقيا توضح أن خطاب الجهاد والإرهاب امتد ليشمل حركات عابرة للحدود، ومنطلقاتها لم تقتصر على صراعات محلية بل انخرطت في مشهد عالمي للتطرف.
وفي آسيا أيضاً ترسخت مراكز للجهاد. ففي جنوب شرق آسيا ظهرت جماعة “أبو سياف” في الفلبين عندما انفصل مقاتلون إسلاميون عن الجبهة الإسلامية لتحرير مورو على يد عبد الرزاق أبي بكر جنجلاني -المكنى بأبي سياف- مطلع التسعينيات، وأعلنوا إقامة دولة إسلامية مستقلة في جنوب الفلبين. استخدمت أبو سياف أساليب عنيفة تمثلت في الخطف والاغتيالات والتفجيرات لكسب التمويل والخضوع، ولديها علاقات تنظيمية مع جماعات مثل “الجماعة الإسلامية” في إندونيسيا وشبكات إقليمية أخرى . وعلى غرارها نشأت في آسيا جماعات أصغر وأسهمت في ضخ أيدولوجيا الجهاد إلى هذه المناطق، مما يشير إلى أن بؤر الإرهاب الإسلامي لم تقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت إلى مناطق جديدة في آسيا أيضًا.
هذه المرحلة كشفت عن تضخم النزعة “الأبوكاليبتية” لدى الجماعات الإسلامية، وهي الاعتقاد بأن العالم مقبل على نهاية وشيكة أو معركة كونية فاصلة بين الحق والباطل، وهي نزعة تزرع شعورًا بانتظار حدث خارق يغيّر مجرى التاريخ. “العدو البعيد” أصبح المفهوم المركزي: ليس فقط الأنظمة المحلية، بل أمريكا نفسها، بوصفها الرمز الأكبر لـ “الجاهلية العالمية”. هذا الخطاب غذّى عمليات كبرى مثل هجمات نيروبي ودار السلام ١٩٩٨، ثم تفجير المدمرة كول ٢٠٠٠، وصولًا إلى أحداث ١١/٩/٢٠٠١. صحيح أن الإخوان حاولوا رسميًا التمايز عن القاعدة، لكن جذور الفكر كانت واحدة: الحاكمية، الجهاد، المفاصلة.
في السودان، انتهى “شهر العسل” بين الترابي والبشير في نهاية التسعينات، فانقسم الإسلاميون إلى جناحين. لكن هذا الانقسام لم يُغير من جوهر المشروع: الدولة بقيت إخوانية في بنيتها، جهاز الأمن الشعبي ظل يمارس الاغتيالات والاختطافات، ومحاولة اغتيال حسني مبارك ١٩٩٥ بقيت وصمة على جبينهم.
في هذه المرحلة، يتضح أن الإسلام السياسي لم يعد مجرد حركة أيديولوجية، بل صار شبكة معقدة: تنظيمات محلية، تنظيم عالمي، ذراع جهادية (القاعدة)، وامتداد فلسطيني (حماس). العلاقة مع الغرب أيضًا كانت مزدوجة: تعاون وتواطؤ في أفغانستان، وعداء معلن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
المفكرون النقديون في التسعينات كانوا أكثر جرأة. صادق جلال العظم كتب عن “نقد الفكر الديني”، مؤكدًا أن الإسلام السياسي يعيش على إعادة إنتاج الماضي وتجميد الحاضر. الطيب تيزيني رأى أن هذه الحركات “تسجن العقل العربي في دوامة النصوص المغلقة”. أما فرج فودة، فقد دفع حياته ثمنًا لقوله إن “الدولة الدينية لا تعرف إلا الاستبداد”. هذه الأصوات تشكّل الضمير المضاد، الذي حاول أن يكشف زيف الخطاب الإخواني ويُسائل دمويته.
التحليل النفسي لجماعة الإخوان في التسعينات يُظهر بوضوح ما يسميه علماء النفس “الاستلاب الجمعي”: حيث يفقد الفرد هويته الخاصة ليذوب في الجماعة. هذا الذوبان يمنحه شعورًا باليقين، لكنه في الحقيقة يسلبه القدرة على التفكير النقدي. هنا يصبح العنف فعلًا طبيعيًا؛ لأنه صادر عن “الأمة” لا عن الفرد.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن هذه المرحلة كشفت أيضًا عن ازدواجية في الخطاب الإخواني. ففي حين كانوا في الغرب يقدّمون أنفسهم كحركات إصلاحية تسعى للديمقراطية، كانوا في الشرق الأوسط يرسّخون خطاب العداء والتكفير. هذه الازدواجية صنعت التباسًا في صورة الإسلام السياسي عالميًا، حيث تعاملت بعض الحكومات الغربية معهم كقوة معتدلة يمكن استيعابها، بينما الواقع كان يكشف عن تورطهم المباشر أو غير المباشر في دوائر العنف.
إلى جانب ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن التحولات التكنولوجية في التسعينات ساعدت على توسيع نفوذ الإسلام السياسي. أشرطة الكاسيت، الفضائيات، وشبكات الإنترنت الناشئة صارت منصات لترويج خطاب الجهاد والكراهية. لم يعد الأمر مقتصرًا على المساجد السرية أو الاجتماعات المغلقة، بل صار متاحًا على نطاق واسع. وهكذا، تعولمت لغة الجهاد بوسائل حديثة، لتجد لها صدى عند شباب يعيشون في هوامش المدن الكبرى من القاهرة إلى لندن.
في العراق أيضًا، ساهم الحصار الطويل بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩١ في خلق بيئة خصبة لخطاب المظلومية الذي استثمرت فيه الجماعات الإسلامية. صحيح أن القاعدة لم تكن بعد قد توغلت في العراق، لكن أرضيته النفسية والسياسية كانت تُمهّد لمرحلة لاحقة ستتفجر بعد ٢٠٠٣ مع الاحتلال الأمريكي. هذه النقطة تظهر كيف أن التسعينات كانت بمثابة زمن التحضير الكبير لموجة الإرهاب العالمي التي ستنفجر في العقدين التاليين.
لقد كانت هذه المرحلة بمثابة مختبر ضخم لفهم طبيعة الإسلام السياسي حين يخرج من طور المعارضة إلى طور التمكين. التجربة السودانية مثلًا، لم تكن مجرد واقعة محلية؛ بل كانت علامة على أن الإسلاميين حين يمسكون بالدولة، يعيدون إنتاج أدوات القمع نفسها التي كانوا ينددون بها. وفي الجزائر، حين حُرموا من السلطة عبر الانقلاب العسكري، لم يتجهوا إلى خطاب مدني أو إصلاحي، بل تبنوا منطق السلاح والدم. وفي مصر، حين وجدوا أنفسهم في مواجهة المجتمع المدني والمفكرين الأحرار، لم يناقشوا الأفكار بالفكر، بل واجهوها بالرصاص والسكاكين. إنها نماذج متكررة تكشف أن الأزمة ليست فقط في الوسيلة بل في البنية الفكرية ذاتها، التي تؤسس لعلاقة ملتبسة مع مفهوم “الشرعية” و”العنف”.
ومع مطلع الألفية الثالثة، بدا واضحًا أن هذه الحركات قد ربحت لحظة من التاريخ لكنها خسرت المستقبل. فبينما تحولت القاعدة إلى شبح عالمي يطارد الجميع، كانت المجتمعات العربية تدفع ثمنًا باهظًا: خسارة للأمن، انغلاق سياسي، تصاعد للطائفية، وتراجع للتعليم والاقتصاد.
هذا الإرث سيفتح الباب أمام موجة الربيع العربي بعد ٢٠١١، حيث خرجت الشعوب لا ضد الإخوان وحدهم، بل ضد كل البنى السلطوية التي تحالفت معهم أو وظّفتهم. ويمكن القول إن هذه الوقفة الثالثة على أطلال الإسلام السياسي ليست سوى مقدمة لفهم “الانكسار الكبير” الذي سيأتي لاحقًا، حين يسقط القناع نهائيًا، وتنكشف الحركة في هشاشتها وفشلها في بناء دولة أو مجتمع حديث.
مع نهاية التسعينات، كان العالم يقف على حافة تحوّل جديد. القاعدة باتت تهديدًا عالميًا، السودان متهمًا بإيواء الإرهابيين، مصر وسوريا والجزائر غارقة في دماء، وحماس تفرض نفسها لاعبًا أساسيًا. كل ذلك كان تمهيدًا لعقد جديد سيعرف صعودًا غير مسبوق لفكرة “الخلافة” مع ظهور داعش بعد ٢٠١٣. وكأن ما بدأ بدعوة في الإسماعيلية ١٩٢٨، مرّ بكل هذه المحطات ليصل إلى أكثر صوره فجاجة: دولة إرهابية تعلن نفسها خلافة على أنقاض المدن.
يتبع في الجزء الرابع الأسبوع المقبل: ما بعد الربيع العربي – من التمكين إلى الانكسار (٢٠١١–الآن).
***
إبراهيم برسي