آراء

منذر فالح الغزالي: إشكالية الانتقائية في التأريخ السياسي

قراءة نقدية في مذكرات «الرواية المفقودة» لفاروق الشرع

مقدمة: تُعد مذكرات الفاعلين السياسيين مصدراً أساسياً من مصادر التاريخ المعاصر، ليس فقط لما تكشفه من وقائع، بل لما تعكسه من "تمثلات" السلطة لذاتها. يبرز كتاب «الرواية المفقودة»1 لفاروق الشرع كشهادة استثنائية من داخل هرم السلطة السورية، إلا أنها تثير إشكاليات منهجية تتعلق بحدود الشهادة التاريخية حين تصدر عن فاعل مركزي.

تهدف هذه القراءة إلى تحليل الخلل البنيوي في الكتاب، والمتمثل في الفصل التعسفي بين السياسة الخارجية -باعتبارها مجالاً للعقلانية والدبلوماسية- والسياسة الداخلية التي غُيبت بمفاهيمها الاستبدادية والأمنية.

أولاً: الانتقائية الموضوعية واختزال الدولة

تقوم المنهجية السردية في «الرواية المفقودة» على فرضية ضمنية تُعلي من شأن السياسة الخارجية بوصفها المجال "الشرعي" الوحيد للتأريخ، في مقابل تهميش السياسة الداخلية وتحويلها إلى شأن تقني أو هامشي. إن هذا الفصل يُنتج "حقيقة مجتزأة"؛ فالدولة في المذكرات تظهر كفاعل دولي دون أن تُكشف ملامحها كفاعل داخلي. إن إدارة المفاوضات وحدود المناورة الدبلوماسية لم تكن معزولة عن البنية السلطوية للدولة؛ بل كانت مشروطة بتعطيل المجال العام وإحكام الضبط الأمني، وهو ما لم يقاربه النص، مما أضعف قدرته على تقديم تفسير شمولي لآلية صنع القرار.

ثانياً: الدبلوماسية كأداة للتبرئة غير المباشرة

يعمد الشرع إلى تصوير السياسة الخارجية في عهد حافظ الأسد بوصفها نموذجاً للبراغماتية و"النفس الطويل". هذا العرض، رغم دقة وقائعه الدبلوماسية، يمارس وظيفة "تبريرية" غير مباشرة؛ فهو يدفع القارئ لتبني رؤية للنظام كفاعل عقلاني محاصر بضغوط دولية وإقليمية، متجاهلاً الكلفة الداخلية لهذا الاستقرار. إن الصمود الذي يظهره النص كإنجاز استراتيجي لم يكن نتاج إجماع وطني أو عقد اجتماعي، بل كان ثمرة ضبط أمني صارم، مما يجعل من "العقلانية الخارجية" وجهاً آخر لـ "الإكراه الداخلي" الذي سكت عنه المؤلف.

ثالثاً: غياب الدولة الأمنية والشرط السوسيولوجي

يظهر في الكتاب اختيار سردي واعٍ بتغييب "الدولة الأمنية". فمن خلال إغفال دور الأجهزة الاستخباراتية، وحالة الطوارئ، وآليات القمع السياسي، يحاول النص ترسيخ صورة "دولة القانون والمفاوضات" بدلاً من "دولة الضبط". إن هذا الغياب ليس مجرد سهو مهني، بل هو ضرورة بنيوية لحماية السردية؛ إذ إن الاعتراف بالبنية الأمنية كان سيفكك صورة التفاوض العقلاني ويُظهر السياسة الخارجية كأداة لحماية بقاء النظام وتأمين شرعيته الدولية في ظل أزماته الداخلية.

رابعاً: اختزال الشخصية السياسية (نموذج حافظ الأسد)

يقدم النص قراءة أحادية لشخصية حافظ الأسد، مختزلاً إياه في أدوار "رجل الدولة" و"المفاوض الصلب" و"الاستراتيجي الإقليمي". وفي المقابل، يتم استبعاد وجهه الآخر كمهندس لنظام سلطوي مغلق ومسؤول عن سحق التعددية السياسية. هذا التجزؤ في التقييم يخل بالتوازن التاريخي؛ فالشخصية السياسية في البحث الأكاديمي لا يمكن تفكيكها وظيفياً دون تشويه صورتها الكلية، إذ إن نجاحات الخارج وإخفاقات الداخل (بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان) هي وحدة واحدة لا تتجزأ.

خامساً: موقع الشاهد وإشكالية القراءة من الداخل

ينطلق فاروق الشرع من موقع الشريك في القرار والمنتج المباشر للنظام، مما يمنح شهادته قيمة وثائقية عالية في كواليس الدبلوماسية، ولكنه يضع قيوداً صارمة على قدرته النقدية. ومن الناحية المنهجية، تظل هذه الشهادة "رؤية من الأعلى" تحتاج بالضرورة إلى قراءة تقابلية "من الأسفل" (رؤية المجتمع، الضحايا، والمعارضة). فالمجتمع السوري في «الرواية المفقودة» يبدو غائباً تماماً، وكأن الدولة كيان ميتافيزيقي يشتغل في فراغ اجتماعي، وهو تصور إداري-أمني يبتعد عن جوهر التاريخ الصراعي.

الإيجابيات التي لا يجوز تجاوزها

رغم هذا الخلل البنيوي، فإن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن «الرواية المفقودة» واحد من أكثر كتب المذكرات العربية وجدية، في ثلاثة أبعاد رئيسية:

1. المصداقية التأريخية: مذكرات قائمة على الوثيقة. الشرع لا يكتب من الذاكرة فقط، بل من الوثيقة أيضاً. هو يستعيد تفاصيل لقاءات مغلقة ومحاضر جلسات كان يشرف بنفسه على تدوينها.

هذا ما جعل الكتاب مرجعاً لا غنى عنه لكل من يدرس مفاوضات السلام العربية–الإسرائيلية، وخصوصاً ما عُرف بـ«وديعة رابين»، حيث يضع الشرع «النقاط على الحروف» في ملف ظل محاطاً بالغموض لسنوات، ويذهب إلى حد الحديث بلغة الأمتار والبوصات على ضفاف بحيرة طبريا، لا بلغة الشعارات.

2. التوثيق السياسي: كشف آليات القرار من الداخل. تكمن قوة الكتاب أيضاً في قدرته على تشريح ماكينة القرار في عهد حافظ الأسد. نرى رئيساً يدير التفاصيل الصغيرة والكبيرة بدقة لافتة، ونرى كيف كانت الملفات العربية والفلسطينية تُدار في ظل شُح الثقة بين العواصم. هذه الشهادة ضرورية لفهم طبيعة النظام، حتى وإن ظلّت صامتة عن الجانب الأمني المباشر.

3. البعد الأخلاقي في الكتابة: بين الوفاء والتوازن. أخلاقياً، يقدّم الشرع نموذجاً نادراً في كتابة المذكرات السياسية العربية. هو وفيّ لرئيسه، لكنه لا ينزلق إلى لغة التأليه. يصف الخصوم السياسيين—من رابين إلى بيريز إلى ياسر عرفات—بلغة سياسية موضوعية، بلا شتائم أو تخوين. والأهم أنه يرى نفسه مسؤولاً عن تقديم «الرواية السورية» لا عن تبرئة نفسه شخصياً، وهو ما يمنح الكتاب طابعاً مؤسساتياً لا فردياً.

هذه العناصر مجتمعة تجعل من «الرواية المفقودة» مرجعاً توثيقياً محترماً، حتى لدى من يختلف جذرياً مع النظام الذي ينتمي إليه الشرع.

مقارنة مع رواية بيل كلينتون: «راشومون»2 الشرق الأوسط

تزداد أهمية «الرواية المفقودة» حين تُقرأ إلى جانب مذكرات بيل كلينتون «حياتي – My Life»3.

فكلا الرجلين يروي الأحداث ذاتها، لكن من زاويتين متناقضتين:

* الشرع يرى الأسد قائداً استراتيجياً صلباً.

* كلينتون يراه رجلاً يعيش في الماضي ويضيّع الفرص.

* الشرع يعتبر «وديعة رابين» تعهداً كاملاً.

* كلينتون يصفها بأنها تعهّد مشروط.

* الشرع يرى قمة جنيف محاولة لفرض شروط مجحفة.

* كلينتون يراها فرصة تاريخية ضاعت بسبب تمسّك الأسد بأمتار قليلة على شاطئ طبريا.

هذه التناقضات تكشف أن التاريخ ليس رواية واحدة، بل مجموعة روايات تتصارع على المعنى والذاكرة.

خاتمة: نصف الحقيقة… ونصف السؤال

«الرواية المفقودة» ليس تزويراً للتاريخ، بل هو إعادة ترتيب له من زاوية السلطة. ليست كتاب فضائح، ولا تصفية حسابات، ولا مديحاً رخيصاً.

إنها محاولة متماسكة من رجل دولة محترف لتقديم رواية رسمية رصينة، تُنصف الدبلوماسية السورية في كثير من التفاصيل، لكنها تترك فراغاً كبيراً حين يتعلق الأمر بالدولة الأمنية والمجتمع.

قيمة الكتاب تكمن في ما يقدّمه، لكنه يكتسب أهميته القصوى إذا قُرئ إلى جانب ما لم يقله: أصوات المسكوت عنهم، ضحايا الداخل، والمعارضات التي لا تجد مكاناً في سردية الدولة عن نفسها.

بهذا المعنى، لا يمكن رفض «الرواية المفقودة»، ولا يمكن الاكتفاء بها. إنها خطوة ضرورية في فهم «عقل النظام»، لكنها ليست الرواية التي تُغلق النقاش؛ بل الرواية التي تفتحه.

***

منذر فالح الغزالي

فاختبيرغ 29.12.2025

..........................

1- الرواية المفقودة، مذكرات فاروق الشرع، إصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2015

2- كلمة "راشومون" مأخوذة من فيلم ياباني شهير يحمل الاسم نفسه، حيث يروي كل شخص قصة مختلفة لنفس الحادثة، ويصعب الوصول إلى حقيقة واحدة نهائية.

3- سيرة ذاتية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون - دار نشر راندوم هاوس، 2004. تعريب د. محمد توفيق البجيرمي، عن دار  الحوار الثقافي بيروت 2004

في المثقف اليوم