قضايا
حيدر عبد السادة: الصخب الديونيزي

وصلت عبقرية الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) إلى إمكانية وضع الإله على طاولة التشريح، أياً كان نوع الإله، ومن بين ما ناقش، الثنائية اليونانية الشهيرة (أبولو وديونيزيوس)، وهما مبدآن مجدهما الفن الاغريقي من قبل، ديونيزيوس إله الحياة الصاخبة واللذة الجياشة المفعمة بالقوة، إله الرقص والموسيقى، أما أبولو، فهو إله التأمل، إله التصوير والنحت والشعر. وما يميز ديونيزيوس عن أبولو، هو أن الأول يستطيع أن يتجاوز الصراعات والمعتركات التي تعرقل مسيرة الحياة. وإن عبقرية ديونيزيوس وأبولو قد أبدعت في عالم الفن، وهما أول شاهد في اليونان على النواة الجديدة التي أدى تطورها فيما بعد إلى نشوء فن التراجيديا والدراما.
يحاول (نيتشه) أن يقدم خدمة كبيرة لعلم الجمال، وذلك حين يتوصل إلى إدراك يقيني بأن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو وديونيزيوس. ويؤكد على أننا مدينون، بالنسبة لإلهي أبولو وديونيزيوس، بمعرفتنا أن هناك تعارضاً هائلاً في العالم الإغريقي فيما يتعلق بالجذور والأهداف، بين الفن الأبولي في النحت، وبين فن الموسيقى الديونيزي اللا بصري. وهذان الاتجاهان، النحت والموسيقى، بحسب قول نيتشه، متعارضان ونقيضان، فهما لا يلتقيان إلا عند عبارة (الفن).
ومن أجل فهم أفضل لهاتين النزعتين، يقترح (نيتشه) أن يمثلهما كعالمين مستقلين هما الرؤيا (الحلم) والتسمم، ويذهب إلى أن الوهم الجميل في عوالم الحلم، هو الشرط الذي يبرر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسماً كبيراً من الشعر، ولكن حتى عندما يأتي هذا الحلم إلينا مصحوباً بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد وهم. هذه هي التجربة البصرية والأبولية، فهي، مع شدتها وتأثيرها، إلا أننا سرعان ما نتيقن أن ذلك ما هو إلا وهماً. ويؤكد (نيتشه) على أن بمكاننا أن نصف أبولو باعتباره صورة إلهية رائعة لمفهوم الفردانية، بينما تميز السعادة والحكمة والجمال حديثة لنا عن الوهم، بفعل حركاته ونظراته. وإذا أضفنا هذا الرعب النشوة المباركة التي تنهض، إذا ما دفعنا هذا التشظي ذاته لمبدأ الفردانية، من صميم الإنسان، من حقيقة الطبيعة في الواقع، فسيسعفنا الحظ في الحصول على قبس من الطبيعة الديونيزوسية، يمكن أن نستنتجه مباشرة من مناظرته مع حالة التسمم (الخدر). فتحت تأثير الجرعة المخدرة التي كان يتناولها كل الرجال والمجتمعات البدائية، أو مع المجيء القوي للربيع الذي يخترق بمرحه الطبيعة كلها، تتنبه هذه الدوافع الديونيزوسية، وما إن تزداد قوة حتى تصبح النزعة الذاتية نسياناً للذات. ومن هنا، قسم (نيتشه) الإنسان حيال ما تقدم إلى نوعين، أما كفنان أبولي حالم، أو كفنان ديونيزي نشوان.
يعتقد (نيتشه) أن أي شيء يطفو على السطح في الجانب الأبولي من التراجيديا اليونانية، أي الحوار، يبدو بسيطاً وشفافاً وجميلاً. والحوار هو صورة اليوناني الهيليني الذي تتكشف طبيعته من خلال الرقص، لأن أعظم مظاهر القوة يمكن أن يتبدى في الرقص، وإن خانته لدانة الجسد وروعة الحركة. ويؤكد على أن ديونيزيوس كان البطل الدرامي الوحيد، ويمكن القول بنفس هذه اليقينية أنه حتى زمان (يوروبيدس) بقي ديونيزيوس البطل التراجيدي، وإن جميع الشخصيات المشهورة في المسرح اليوناني، كانت عبارة عن أقنعة تحجب خلفها البطل الحقيقي: ديونيزيوس. ويذهب (نيتشه) إلى أن هناك فكرة تقول: أن الألوهية التي كانت محتجبة خلف كل هذه الأقنعة هي السبب الأساسي وراء المثالية النموذجية لهذه الشخصيات المشهورة التي كثيراً ما أثارت الدهشة.
والفن الديونزيوسي بشكلٍ عام، يريد منّا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود، ولكن بشرط أن نسعى لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها، فالفن الديونزيوسي يريدنا أن نعترف بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معداً لمواجهة مصير مأساوي ما، وهو ما يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفاً، وما أن نتحد بالمتعة الهائلة في الكون، ونشعر بأبدية هذه المتعة في النشوة الديونيزوسية، حتى تبدأ وخزات الألم الجارف تخرق جلودنا... وعلى الرغم من كل هذه الآلام والمخاوف تحملنا السعادة على جناحيها لأننا موجودون في الحياة، ليس كأفراد، بل كأصغر وحدات منفردة حية، نجلس متحدين مع هذه المتعة المبدعة.
***
د. حيدر عبد السادة جودة