آراء

عبد الحسين الطائي: 14 تموز حدث محوري في تاريخ العراق المعاصر

يحتفل الكثير من العراقيين هذا العام في الذكرى (67) لانطلاق ثورة 14 تموز، الحدث المحوري في تاريخ العراق السياسي المعاصر، الذي جسد الإرادة الوطنية للكثير من شرائح المجتمع العراقي. الاحتفال بذكرى الثورة يتيح لنا فرصة للتفكير النقدي حول الكثيرمن النتائج، ورسالة تذكير للأجيال الجديدة بأهمية فهم التاريخ من أجل بناء مستقبل أفضل، وتجنب تكرار أخطاء الماضي. الاحتفال بها يمكن أن يكون جسراً رابطاً بين الماضي والحاضر، بعيداً عن مخاطر التوظيف السياسي المغلق، وأن تُستثمر في تحفيز الوعي التنويري والتثقيف بأهمية الحوار الوطني البناء الذي يعترف بالحقوق والتعددية واحترام الآخر المختلف.

تحمل ثورة  تموز أهمية رمزية وتاريخية ولحظة انتقال حاسمة سواء من الناحية السياسية والوطنية والثقافية، حدث محوري أنهى النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية، وفتح الباب أمام متغيرات جذرية في بنية الدولة العراقية، شملت النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلاقات الخارجية والهوية الوطنية. ورغم الجدل حول طبيعة الحدث، وما تلاه من اضطرابات شكل نقلة جذرية في بنية الحكم والسلطة.1658 July

ورغم التحديات الداخلية والخارجية، يرى الكثير من الباحثين بأن ثورة تموز مثلت حركة تحرر من الهيمنة الأجنبية بكل صورها، وشكلت رمزاً فاعلاً لمقاومة النفوذ الأجنبي وبداية لاستقلال القرار الوطني المرتبط بحزمة إنجازات مثلت طموحات الفئات الشعبية المسحوقة. احتلت المكانة الأبرز في الذاكرة الجمعية العراقية، سواء بالنقد أو التأييد، فهي لحظة تَشكُّل مفصلية ما زال الجدل قائماً حول آثارها، والحديث عنها تجاوز السياسة ليصل إلى الأدب والفن والأغاني الوطنية والشعبية التي خلدها الشعب بأكثر فئاته.

كان العراق جزءاً من منظومة إقليمية متمثلة بحلف بغداد ومرتبطة بالغرب، وفي ذروة تصاعد المد الايديولوجي القومي واليساري في الشرق الأوسط، وتنامي السخط الشعبي حيال التفاوت الطبقي والاحتكار الاقتصادي وهيمنة الإقطاع، حدثت ثورة 14 تموز بعد سلسلة ضغوطات سلطوية بالضد من إرادة الجماهير، بفعل استئثار النخبة الملكية الحاكمة بالثروات، وتهميش اغلبية الشعب، مقرونة بتزايد شعور التململ بين صفوف الجيش العراقي، الذي رأى في ذاته حاملاً لمشروع التغيير. وتفاقم نقمة شرائح مجتمعية واسعة من العمال والفلاحين والمثقفين العراقيين، اسهم في نضوج الظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت نخبة من الضباط الوطنيين الواعين، الذين أغلبهم من أبناء الطبقات المتوسطة أو الفقيرة، بالتفكير بتغيير النظام بعد محاولات عديدة.

افلحت المحاولة الثامنة في قيام الثورة التي دشّنت مرحلة جديدة في الحكم قائمة على النظام الجمهوري، بعد إسقاط النظام الملكي الذي كان يُعد امتداداً للهيمنة البريطانية في الشرق الأوسط. وكان انسحاب العراق من حلف بغداد، وابتعاده عن سياسة المحاور بمثابة رسالة واضحة المعالم لمدى استقلالية العراق الجديد في قراراته الوطنية، وبالتالي انفتاحه على دول العالم الحرّ.1659 July

يُشار إلى هذا الحدث الذي حصل في تموز 1958، باسم "ثورة 14 تموز"، لكن في بعض الأدبيات الأكاديمية كثيراً ما يُدرج كـ "انقلاب عسكري ذو نتائج ثورية". إذا عَرّفنا مفهوم الثورة في الإطار الأكاديمي المجرد بأنها حركة تحرر قام بها نخبة من العسكر لاسقاط النظام الملكي، بالتأكيد تصنف "انقلاب عسكري"، ولكن إذا نظرنا إلى نتائجها بتحليل واقعي، نجد بأنها قد أجرت تغييراً بنيوياً شاملاً في المجتمع العراقي على الأصعدة كافة، تستحق مكانتها الحقيقة كثورة، رفعها التأييد الجماهيري الكبير الذي استمر لأيام عديدة في كل مدن العراق، جماهير من مختلف شرائح المجتمع العراقي لم تكن مؤدلجة بل دفعها اليأس من النظام الملكي وتماديه في الممارسات القمعية في تعليق الحياة السياسية وتحجيم الحريات. 

هناك الكثيرمن الباحثيّن يرى بأن إسقاط النظام الملكي وإنهاء الحكم الوراثي الذي كان أداة بيد الاستعمار البريطاني، وإعلان الجمهورية وتحرير البلاد من الهيمنة البريطانية، وتحويل العراق إلى قوة مناهضة للاستعمار بانسحابه من حلف بغداد. وقيام الحكم الجديد بإصدار حزمة قوانين إصلاحية تلامس حياة الناس كـ "قانون الإصلاح الزراعي، قانون الأحوال الشخصية، قوانين اسهمت في تعزيز وتقوية القطاع العام"، وفق هذا المنظور وبالمعاييرالموضوعية يُعد حدث 14 تموز 1958، "ثورة" لأنها غيّرت بنية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي تغييراً جذرياً.

المؤرخ الفلسطيني المحايد حنا بطاطو، المتخصص بتاريخ العراق، في كتابه "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية"، لا ينكر دور العسكر في اندلاع الثورة، لكنه يركز على نتائج الحدث أكثر من أسلوب التنفيذ، يرى بأن حدث 14 تموز يُعد ثورة لأنه أدى إلى تحولات جذرية، أنهى النظام الملكي والإقطاعي، وجرى توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين على ضوء قانون الإصلاح الزراعي. وتم تعزيز دور الطبقات الفقيرة والعمالية، وتصفية النفوذ البريطاني، وأكد بأن الجيش كان أداة لتنفيذ الثورة، أحدث تغييراً بنيوياً عميقاً في بنية الدولة والمجتمع. ويشاطره الرأي المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"، بأن الحدث ثورة شاملة مكتملة الأركان وليس مجرد انقلاب. وأكد بأن الجيش لم يكن طامعاً بالسلطة، بل تحرّك بفعل معاناة الشعب، والنتائج جعلت الحدث ثورة فعلية.1660 July

آراء بعض من المؤرخيّن المحايدين، تؤكد الحدث بأنه ثورة تحرر وطني ضد الهيمنة الغربية، وتتويجاً لحراك شعبي طويل ضد الاحتلال البريطاني والحكم الملكي. تم وصفه انقلاباً عسكرياً لكنه أدّى إلى ثورة سياسية واقتصادية، والجيش هو مَنْ حرك التغيير، لكن التحولات التي تبعت الحدث جعلته ثورة فعلية بمعايير التغيير الاجتماعي والاقتصادي، أي الحدث بدأ انقلاباً عسكرياً، لكنه تحوّل إلى ثورة بتأثير نتائجه. ولم يكن الحدث حركة عسكرية عابرة، بل شكل لحظة فارقة أعادت صياغة مسارات الدولة والمجتمع، وصداه يتردد في الذاكرة الوطنية العراقية لما نتج عنه من إنجازات لامست نبض الشارع العراقي. وفي قراءة علمية متزنة لهذا الحدث، تبرز الحاجة إلى استجلاء خلفياته، وتحليل أهدافه، وتقييم مخرجاته وفق معايير رصينة تراعي التعقيد البنيوي للمجتمع العراقي.

وهناك من يرى الحدث بأنه انقلاباً عسكرياً تقليدي في دولة نامية، نفذه ضباط جياع للسلطة، احتكروا الحكم لأنفسهم، ونجحوا في تغيير النظام لكنه لم يكن ثورة جماهيرية شعبية، بل الجماهير تحركت بعد نجاح الانقلاب، والحدث لم يأتِ بتفويض جماهيري وبدون مشاركة مدنية أو انتخابات، ودون التشاور مع الشعب، بل فُرِض النظام الجديد بقوة السلاح، ومن ثماره مقتل أفراد العائلة المالكة بطريقة دموية أثارت جدلاً كبيراً. وسيطرة العسكراستمرت في فرض مشروعهم السلطوي بالقوة، مما أدى لاحقاً إلى انقلابات عسكرية متتالية.

ورغم تلك الإنجازات الكبيرة، لم تخلُ الثورة من أخطاء جوهرية أفضت إلى تراجع زخمها وانكفاء أهدافها، لا سيما بعد تكريس الحكم الفردي وإقصاء بعض القوى السياسية وتعزيز التوجهات في إطار عسكرة السياسة، مما أدى إلى ضمور الحياة السياسية المدنية، وإرتفاع وتيرة الصراع السياسي الذي قاد إلى بداية لحلقة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والتدهور الأمني الذي انعكس على مجالات الحياة كافة. وبالتالي انكفاء التجربة إلى دائرة الحكم الفردي، بفعل اتساع حجم التآمر على منجزاتها، أدى إلى تفاقم السخط الاجتماعي، والتآمر الذي قاد إلى العديد من الانقلابات والاضطرابات التي استنزفت الدولة والمجتمع في العقود اللاحقة.

ثورة 14 تموز مثّلت لحظة اشتباك عميقة بين التوق الوطني إلى التحرر والتغيير وبين معضلات الإدارة ومسارات التنمية في بناء الدولة. وإذ يُسجَّل لها ما أنجزته في قطيعة العراق مع الاستعمار والتبعية، فإن تقييمها علمياً يفرض الإقرار بكونها في المحصلة ثورة حقيقية، تظل ذكراها درساً بليغاً في الوطنية العراقية، وفي أهمية المواءمة بين التحولات السياسية والاستعداد لبناء دولة عادلة ومستقرة.

***

د. عبد الحسين صالح الطائي

اكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

....................

ملاحظة: الصور المرفقة من أرشيف مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي.

في المثقف اليوم