قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية نفسية وتأويلية لقصة "الرسائل الضائعة"

تتسم القصة القصيرة "الرسائل الضائعة" لأحمد ياسو بجمالية مكثفة تتجاوز ظاهر السرد البسيط إلى عمق نفسي وتأويلي ينطوي على أبعاد الهوية، والكتابة، والافتقاد، واستحالة التواصل. تنقل القصة مشهداً ظاهرياً متواضعاً: رجل كتب رسائل لحبيبته، لكنه أضاعها بعد أن ترك معطفه لخادمة، لتؤول الرسائل إلى كاتب شهير استخدمها في فيلم سينمائي دون أن ينسبها لصاحبها الأصلي. لكن خلف هذا الحدث البسيط، تتكشف شبكة معقدة من التوترات النفسية والرمزية.
أولاً: التحليل النفسي
1. الذات الممزقة وميكانيزمات الدفاع
الشخصية الساردة تعيش صراعاً داخلياً حاداً بين الرغبة في البوح والوعي باستحالة الوصول. هذا التوتر يبدو جليّاً في عبارته: "كنت أعرف أنك لن تقرأيها". هنا تظهر آلية الإسقاط النفسي، حيث يُسقِط الراوي شعوره بالعجز والخذلان على الآخر (ماريا)، ثم على الخادمة، فـ"الكاتب السارق". وبدلاً من المواجهة المباشرة مع ذاته، يلجأ إلى إعادة إنتاج المعنى بطريقة دفاعية: "أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك".
بهذا، تتحول الخسارة إلى نوع من التسامي؛ فالراوي لا ينكر الألم، بل يعيد تأويله في صورة إنجاز رمزي: رسائله، التي ضاعت، ستصل إلى الحبيبة عبر وسيط غير مباشر، ولكن على نحو أكثر علانية واحتفاء.
2. مركب النقص والتماهي
من الملفت أن الكاتب الحقيقي للرواية (الراوي) لا يُظهر أي سخط تجاه سارق النص، بل على العكس، يُغدق عليه الامتنان. هذا يشير إلى حالة من التماثل اللاواعي بين الراوي والكاتب الآخر، وكأن السارد يحقق ذاته من خلال الآخر، في نوع من التحايل على الإخفاق الشخصي. هذا التماهي يتجلى في قوله: "قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها".
هنا يمكن أن نستحضر مفهوماً من التحليل النفسي هو "التماهي بالنموذج الناجح"، حيث يسعى الفرد إلى تخفيف ألم فشله بالتماهي مع من حقق ما كان يتوق إليه.
ثانياً: القراءة التأويلية الرمزية
1. الرسائل كرمز للبوح المؤجل
الرسائل تمثل هنا اللغة الحميمية، الجسر الذي لم يُكتمل بين الراوي وماريا. ضياعها لا يُقرأ بوصفه حادثاً عرضياً، بل بوصفه علامة رمزية على استحالة التواصل. هي ليست مجرد أوراق مادية، بل تمثل الذات المتشظية، واعترافات لم تجد مستقرّها. حين "تضيع" هذه الرسائل، فإن ما يُفقد فعلياً هو إمكانية الاعتراف و"الحضور في عين الآخر".
2. ماريا كتمثيل للأنثى المتعالية / اللامتحققة
ماريا لا تظهر في القصة كفاعل مباشر، بل تظل محوراً غائباً تُبنى حوله كل الأحداث. هي شبحٌ للحب، وتُمثل "الآخر المستحيل"، الذي لا يقرأ، لا يستجيب، لا يعود. وجودها الغائب يؤسس لثيمة الفقد المؤبد، ويحوّل الرسائل إلى نوع من الكتابة للعدم. هكذا تصبح ماريا رمزاً للحب الذي لا يُطال، وللقارئ الذي لا يقرأ، وللحقيقة التي تتوارى.
3. الكاتب السارق كرمز للسوق الثقافي
في المشهد التأويلي الأوسع، يمكن اعتبار الكاتب الذي يسرق الرسائل ويحوّلها إلى فيلم تجاري رمزاً لـالمؤسسة الثقافية التي تلتهم التجارب الفردية وتعيد إنتاجها بصيغة استهلاكية. هنا يصبح "الفيلم" رمزاً لـاستلاب المعنى وتحويل الألم إلى سلعة. ومع ذلك، لا يرفض الراوي هذا الفعل، بل يحتفي به، وكأنما يعترف بعجز الذات الفردية عن البوح دون وسيط مؤسساتي أو تسويقي.
ثالثاً: الثيمة واللغة والأسلوب.
1. اللغة: العفوية المتقنة.
اللغة في "الرسائل الضائعة" تحتفي بـالبساطة المضلِّلة. ظاهرها سرد عادي، لكن بنيتها مشحونة بالدلالات العاطفية والنفسية، وكأن الكاتب يكتب ما يشبه الواقع، لكنه يقطّره إلى جوهر إنساني كثيف. الأسلوب يراوح بين الحنين والاعتراف والسخرية المُرّة، ويخلق بذلك حالة من التوتر الأسلوبي المنتج.
2. العنوان: مفارقة المعنى
العنوان "الرسائل الضائعة" يحمل إيحاءات فقدٍ وانقطاع، لكنه في الوقت ذاته يؤسس لمفارقة: فهذه الرسائل، رغم ضياعها الظاهري، تجد طريقها إلى وجهتها الأسمى. وكأن الضياع هنا شرطٌ للوصول.
خاتمة: نص عن الانكسار والتحايل الإبداعي عليه
قصة "الرسائل الضائعة" ليست مجرد سرد بسيط عن رسائل فُقدت، بل هي تأمل عميق في شروط الحب، والكتابة، والهوية، والحضور في زمن التشييء الثقافي. ومن خلال منظور التحليل النفسي، يتضح أن الراوي لا يبحث عن ماريا بقدر ما يبحث عن ذاته الضائعة. أما من المنظور التأويلي، فالنص يتجاوز حدوده ليعبر عن عالم ما بعد الحداثة، حيث لا شيء يصل مباشرة، وحيث تُعيد المؤسسات إنتاج المشاعر الفردية بلغة السينما والربح.
وهكذا تتحول القصة إلى بيان وجودي ساخر ومؤلم عن الحاجة إلى التقدير، والبحث عن صوت، حتى ولو في فم الآخر.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
..........................
الرسائل الضائعة
الرسائل التي كنت قد كتبتها إليك ضاعت يا ماريا، لقد نسيتها في معطفي قبل أن أعطيه لتلك السيدة التي تعمل خادمة عند رجل يسكن بالطابق العاشر، عرضت خدماتها أو هكذا ظننت أنها تسدي لي خدمة ما، لكنها أخبرتني بعد ذلك بأنها ستأخذ ملابسي كل اسبوع لتغسلها لقاء بضع دولارات، الحقيقة لم اعترض على الفكرة ووافقت، لأنها ستقوم بالغسيل والكي ايضا.
في ذلك اليوم كنت أضع رسائلك كلها في جيب معطفي، وعندما سألتها أدعت أن جيبي لم يكن به شيئا، حتى ولو سنتا واحدا.
ثم عرفت بعد فترة أن تلك الرسائل التي أخذتها الخادمة، أعطتها إلى سيدها..
ها يا ماريا نسيت أن أخبرك أن سيدها هذا كاتب كبير ممن يطلقون عليهم مسمى الأدباء وقد أخذ الرسائل، وهي بصدد مشروع سينمائي، وبالطبع وضع عليها أسمه، وقد روادتني فكرة أن أكتب إليك مرة أخرى، وسأنسى الرسائل هذه المرة عمدا كي يأخذها، لأن كل الرسائل التي كتبتها كنت اعرف أنك لن تقرأيها.. أنا لم أحزن لأنها سرقت مني، بل على العكس تماما أنا في قمة سعادتي لأنك ستشاهدين نفسك، وتعرفين ما كنت قد كتبته لأجلك، فلقد قدم لي ذلك الرجل خدمة جليله لا يمكن وصفها، ولا يسعني شكره عليها، لأنك ستعرفين مقدار حبي، وعدد الأيام والشهور التي قضيتها وأنا في إنتظارك، لقد فعل ما لا أستطيع القيام به، قام بإرسال رسائلي إليك في أبهى صورها.
اه يا ماريا كدت أنسى أسم الفيلم "أحداث قصة لم تكتب بعد" بنفس عنوان رسائلي التي أخبرتك عنها قبل الرحيل.
***
أحمد حسن ياسو