قضايا

الطيب النقر: الذات والبقاء في الظل

أن تكف بمحض اختيارك عن الاعتلاء والظهور، وتقيم بينك وبين الناس سياجاً كثيفا، وتحرم على نفسك أن تعبره، أو تنفذ منه، بعد أن بات وجودك في عالم الحرب، والبطش، والنكال، وجوداً أجوف لا طائل منه، ولا غناء فيه، هو أمر في الحق يتطلب منك وضوحاً تاماَ، وتمييزاَ مطلقا،  فأنت وحدك الذي قررت ألا تتفاعل في حيز الزمان والمكان، وأن تركن إلى حياة الوحدة، والسكون، والانزواء، أنت من خضعت إلى هذه النزعة الغامضة المبهمة، غير حافل بأبعاد وطبيعة العادات التي تسود في تلك البيئة، فتركيبتك الشائكة المعقدة، خالفت النظم، وخالفت نهج الأسر، وأكثرت من الوفاء والتقدير لهذه

الانطباعات الحسية التي عبثت بها، وللأفكار التي ترتبت عليها، الظنون التي جعلتك تقاوم حياة الاختلاط هذه ما وسعتك المقاومة، ألزمت نفسك التي لا بد لها من وجود شيء تبغضه وتحاربه، أن تتمرد على حياة المدينة، وعلى أحكامها العرفية التي تقتضي الامتزاج والمخالطة، وأن تؤثر حياة العزلة، لتتفرغ إلى بناء عالم الروح الذي أزرت به المدنية المعذبة البائسة.

البحث عن الذات

أنت إذن بازاء قضية عصيبة ملتوية، تسعى فيها أن تبحث عن ذاتك، التي تشعر أنها في كنف حياة التفاعل والاندماج، غير موجودة على الاطلاق، وترى من الضروري أنك حتى تتغلغل في عوالمها، وتحيط بها احاطة السوار بالمعصم، تحتاج أن تختلي بها، وتتحدث إليها، وأن تقف على الشروط الحاكمة لنظمها ومعتقداتها، وحتى تظفر منها ببعض ما تطمع فيه، يجب أن تتحرر من النظريات الشائعة، والأفكار المسبقة، التي سعت جاهدة أن تقعنك بأنك تستطيع أن تلم بماهيتها، وتستوعب جميع صفاتها وخصائصها، هذه الأفكار الجامدة، والتصورات الباهتة، التي تستحق الدحض والتقويم، تتطلب ثورة جارفة تقصيها عن عقلك، فكل المزاعم والأفكار التي تراها تتحرك أمامك، وتذهب وتجيء، لا تتصل بجوهرك من قريب أو بعيد، فأنت حتى تدرك ذاتك بصورة مباشرة، يتعين عليك أولاً، أن تتيقن أن النفس البشرية، ليست هي في الحق "وحِدة" متماسكة، خاضعة لقوانين انسجام أزلية، كلا فالنفس البشرية هي الشيء الوحيد الذي لا يخضع لضروب الحدس، ولا يستطيع باحث أو عالم مهما بلغ شأوه، أن يتاح له وسط تناقضاتها العديدة المترفة، أن يقف على جميع صورها وأشكالها.

عناصر الذات: العقل والحس

إن البداية الفجة في طريق معرفة الذات، نمط التفكير الذي ينتهي إلى ما انتهى إليه أصحاب الحدس والشعور، فهناك من حصر سبر أغوار النفس، في خانة الحدس الخالص، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أننا لا نستطيع أن نزعم أن الحدس وحده هو الذي يقدر أن يعرف انفعالات النفس، ويحسن تعريفها، لقد نسي هؤلاء حقيقة أساسية، وهي خلاف المجموعة الضخمة من المعطايات الحسية، توجد المعرفة التي ترتبط بالطفل الغرير منذ نشأته، فالأسس اليقينية التي يكتسبها الإنسان عبر مدار حياته ،مردها الاستدلال والتأويل، القائم على التجانس بين الذاكرة، والتجربة، والخبرات التراكمية، وكلها تستوجب عقلاً نابهاً يستطيع أن يحلل، ويقارن، ويتدبر، ويعرف الأشياء على حقيقتها.

نحن إذن لا نتردد في اتخاذ هذا النحو، فالشيء المتصل والمستطيل واللامع عندنا، أن الذات التي ننهض بأثقالها، ونجاهد في سبيلها، ليس الإدراك الحسي وحده هو الذي يفسر لنا طبيعتها المعوجة، فنحن لا نستطيع أن ندقق في طبيعة اضطرابها وهيجانها، ونصدر عليه أحكامنا، إلا إذا قسنا هذا الهيجان والاضطراب بمجسات الحس، وجهد العقول.

***

د. الطيب النقر

 

في المثقف اليوم