قضايا

حاتم حميد محسن: الفيلسوف اليوناني بيرو.. فيلسوف الهدوء

من بين فلاسفة اليونان القدماء الفيلسوف بيرو Pyrrho الذي أثبت تماسكا ورباطة جأش أمام مشاكل الحياة.هذا الفيلسوف أصبحت لامبالاته الثورية حجر الاساس لمدرسته الفكرية التي يتّبعها انصاره الى يومنا هذا.

شكّه المطلق ورحلته مع الاسكندر الاكبر

وُلد بيرو عام 360 قبل الميلاد في زاوية من زوايا المدينة القديمة إليس Elis(غرب بيلوبونيز)، وبقيت حياته المبكرة لغزاً. ما هو واضح ودون شك اعتماداً على النصوص اللاحقة لكاتب السير ديوجينس لايرتيوس، هو ان بيرو لم يكن من الفلاسفة الكبار. هذا الرجل في الحقيقة لازم الاسكندر الاكبر في مسيرته الاسطورية للانتصار على الشرق، ورافق الجيش المقدوني على طول الطريق الى الهند.

لنتصور التراب، العظمة، الخوف من اللايقين. في تلك الرحلة الملحمية التقى بيرو بالجمبازيين gymnosophists (افراد طائفة هندية قديمة يلبسون القليل من الملابس ويمارسون الزهد والتأمل). اولئك الفلاسفة العراة انفصلوا عن الاهتمامات الدنيوية واثّروا بعمق على بيرو. كيف يمكننا ان نتصور بيرو وسط فوضى انتصارات جيش الاسكند، واولئك الرجال الغرباء الحكماء الذين بدوا بعيدين عن ضجيج العالم؟. هذا المشهد بقي عالقا في ذهن بيرو طوال حياته. انه كان طريقة مختلفة كليا في رؤية العالم والتي أثّرت على جوهر فلسفته.

البساطة الثورية لبيرو

اصبحت فلسفة بيرو اللاحقة تُعرف بالبيرونية Pyrrhonism. هذه الحركة الفلسفية هي من حيث الجوهر، تركز على رفض اصدار أحكام نهائية في حياة المرء. انها من الواضح لا تتحدث عن انكار وجود الاشياء كما يظن البعض عند محاولتهم تشريح البيرونية. هذا بعيد عن الحقيقة. انها حول الاعتراف بان حواسنا يصعب الوثوق بها. وكذلك، عقلنا هو دائما محدود، ولهذا السبب، لايمكننا ابدا فهم الطبيعة الحقيقية للعالم.

اذاً، اذا كان الانسان يستطيع القول بشكل قاطع ان شيئا ما جيد او سيء، صحيح ام زائف، لماذا يبدد الناس طاقاتهم الثمينة في جدالاتهم وتأكيداتهم وتحمّلهم للألم في ذلك؟. هذه الروح اصبحت مشهورة في القصة الشعبية لبيرو وهو يناقش الفلسفة اثناء عملية جراحية متجاهلا الألم. هذا المشهد سواء كان حقيقيا او زائفا، يجسد الانفصال الراديكالي عن الاشياء التي عادة يمضي فيها الناس حياتهم يفكرون ويكافحون ويجادلون بشأنها.

قصة اخرى مشابهة حول بيرو وموهبته في الانفصال عن الواقع هي حكاية الكلب الذي هاجمه، حينها اكتفى بدعوة اصدقائه للتعامل معه بدلا من الذعر والفرار بعيدا. هذان الموقفان يبيّنان ان بيرو كان رجلا يفعل ما يؤمن به. بالنسبة له، الهدف من فلسفته لم يكن كشف الحقائق النهائية المخفية عن العين المجردة. هدفه العثورعلى الهدوء arataxi، وهي الفكرة اليونانية للهدوء العميق الذي لا يتزعزع، سلام داخلي عميق يأتي ببساطة من رفض اتخاذ موقف نهائي حول أي شيء. في عالم يغرق بشكل مطلق في آراء قوية ويقينيات مطلقة، نجد في اتجاه بيرو ما يجعلنا نشعر بالراحة، حينما يحررنا من عصر الاستقطاب الذي نعيش فيه.

واذا كان اتجاه بيرو الفلسفي اكثر مرونة من البيانات الجريئة لإفلاطون وارسطو، فان تأثيره أثبت وبجدارة استمراريته بسبب طبيعته الفكرية . افكار بيرو جرى الاحتفاظ بها بعناية و توسيعها من جانب الشكاك مثل سكتوس امبيريكوس، الذي كانت أعماله هي الاساس لفهم البيرونية اليوم. وانه من خلال هؤلاء الورثة الفكريين لرؤى بيرو، واصراره على تجنّب الحكم، وصلت تلك الافكار ولو ببطء الى عصرنا الحالي، وهو ما صاغ الكيفية التي يتصرف بها العديد من الناس حتى يومنا هذا.

لو أخذنا التنويرعلى سبيل المثال، اصبح فيه التحقق من كل شيء فضيلة، وتحطيم العقائد القديمة مهّد الطريق لفتوحات علمية خلقت عالمنا الحديث. حتى الان، في عصرنا الصاخب وحيث "الأخبار الكاذبة" والسعي اللامتناهي لإجابات نهائية تقود عادة الى استقطاب شديد، تقدم افكار بيرو حلا ملائما ذو اهمية كبيرة.

***

حاتم حميد محسن

..........................

GreekReporter, May31, 2025

 

في المثقف اليوم