قضايا

عبد الحليم لوكيلي: الكوبيرنيكية وقلب أسس التفكير

عرف تاريخ الفكر الفلسفي بشكل عام، والعلمي بشكل خاص سنة (1543م) حدثا فارقا[2]، تجلى في صدور كتاب «حول الأجرام السماوية» (Des Révolutions des sphères célestes) للعالم البولوني «نيكولا كوبرنيك». وأهميته تأتي مما قدمه كافتراض؛ أي القول إن «الشمس هي مركز الكون». فمن المتعارف عليه في الفكر الفلسفي العلمي أن هذه الفرضية التي شكلت ثورة علمية آنذاك، كانت حلا لمشكلة فلكية تسمى عادة ب«مشكلة تحير الكواكب»[3]؛ بما هي مشكلة تفيد أن الرصد الفلكي الذي كان يجرى آنذاك، من لدن العلماء بواسطة التلسكوب، نتج عنه ما مفاده أن بعض الكواكب في لحظة زمنية تكون في موضع ما، لكن في لحظة أخرى، يتغير موضعها (تحير الكواكب=تغيرها من موضع إلى آخر)، الشيء الذي يعني أن عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يعرف اختلالات في مكوناته. وإذا كان عالم ما فوق القمر بلغة أرسطو، يعرف في اللحظة الكوبرنيكية اختلالات في مكوناته نظريا، من حيث إن بعض كواكبه غير منتظمة في حركتها بحسب ما يتبين للذات الملاحظة، فإن ذلك يفيد أنه عالم يعيث في حالة من الفوضى، مثله مثل عالم ما تحت القمر. وإذا كان كذلك، فلما البقاء في تصوراتنا العلمية-الفلكية نظريا على منظومة معرفية تقسم العالم إلى عالمين، كليهما يتسمان بالفوضى والتغير. لذلك، سيكون الحل النظري لهذه المشكلة هو توحيد العوالم الأرسطية في حلتها السكولائية في عالم واحد وموحد في بنيته القانونية[4]؛ مما يعني جعل لهذه الفوضى المتبدية أمام الذات الملاحظة معنى ومعقولية.

يترتب عن هذه الفرضية الكوبرنيكة في مجال علم الفلك الرياضي، أنها أدت في البدايات الأولى للعصر الأوروبي الحديث، إلى تحول عميق للفكرين العلمي والفلسفي معا[5]. بل، إن هناك من الدارسين من يعتبر أن الانطلاقة الحقيقية للفكر الأوروبي الحديث، لم تتم مع التحولات الفنية، أو الاقتصادية، أو الدينية[6]، أو السياسية...إلخ، حتى، وإن كانت لها أهميتها في بلورة منظومة فكرية ومعرفية جديدة، وإنما مع الحدث الفريد الذي تم مع «نيكولا كوبيرنيك»[7]. لقد أدت الثورة الكوبرنيكية إلى نسف الأسس الميتافيزيقية للمنظومة القديمة، وتدشين منظومة جديدة، وذلك من جهتين؛ واحدة سلبية، وأخرى إيجابية[8]. فمن جهة السلب؛ فقد أدت الثورة الكوبيرنيكية إلى القضاء على الفكر الأرسطي في طبعته السكولائية القائم على ثنائية العالم، ومركزية الأرض والإنسان، وهيمنة الموضوع واستقلال الذات، وما يترتب عن ذلك، من أثار على النظام الثقافي والاجتماعي. أما من جهة الإيجاب؛ فقد أدت الثورة الكوبيرنيكية إلى تدشين منظومة جديدة قائمة على وحدة العالم، وسماوية الأرض، وارتباط الموضوع بالذات، مع ما يترتب عن ذلك من روح النقد والشك اللذين طالا كل مناحي الحياة الفكرية واليومية.

غير أن ما يهمنا من ذكر لهذه العناصر العلمية التي تؤثث للحظة فارقة في تاريخ الفكر الفلسفي-العلمي، أنها جعلت الفكر الفلسفي-العلمي ينتقل من مستوى التفكير في العالم القائم على بعد المكان إلى التفكير القائم على بعد الزمان. بمعنى آخر، إن اعتبار العالم منقسما إلى عالمين[9]؛ عالم ما فوق القمر بما هو عالم يتصف بالكمال والأزلية، حيث كل جرم يؤدي وظيفته التي أسندت إليه بالطبيعة، وعالم ما تحت القمر بما هو عالم يتصف بالكون والفساد، حيث لا يؤدي كل موجود ما أسند إليه بالطبيعة، يفيد أن التفكير الفلسفي سيكون تفكيرا يستند في أبعاده إلى ما هو مكاني؛ أي السعي إلى البحث عما يمكن أن يسعف المتفلسف في جعل عالم الكون والفساد في مستوى عالم الكمال والأزلية، من حيث إن هناك نوعا من التراتبية بين هذه العوالم بالطبيعة[10]. بيد أن نزع صفة الثبات والكمال والأزلية من عالم ما فوق القمر في سياق الثورة الكوبرنيكية، وافتراض كونه عالما فوضويا نظريا، يجعلنا أمام تصور مفاده أن ما يوجد تحت هو شبيه بما يوجد فوق، من حيث السمة الفوضوية، الشيء الذي يعني انهيار التراتبية الطبيعية بين العوالم. وإذا كان الفكر الفلسفي-العلمي اليوناني (أرسطو نموذجا) يستند إلى نمط من التفكير القائم على ما هو مكاني في فهم العالم (فوق-تحت)[11]، فإن الفكر الفلسفي-العلمي الذي نتج عن الثورة الكوبرنيكية ينطلق من نمط تفكيري يستند إلى ما هو زمني في فهم العالم (ما قبل-ما بعد)؛ أي إننا سنعمل على قلب التفكير من مستوى المقارنة بين ما يوجد فوق مع ما يوجد تحت، إلى التفكير في الكشف عما كان قبل وجود هذا الذي هو كائن؛ أي العالم، والكشف عن مظاهره وأثاره، الشيء الذي يقدم لنا نتائج وخلاصات فكرية ومعرفية جديدة كل الجدة، ناسفة كل الطروحات الفلسفية السابقة عن ذلك.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ مادة الفلسفة

المغرب

......................

[2] Voir l’introduction de l’ouvrage; Nicolas Copernic. Des révolutions des Orbes Célestes. Trad. Alexandre Koyré. 1eéd. (Saguenay: les classiques des sciences sociales (bibliothèque numérique), 1934),  p.4.

[3] أو ما يسمى بمسألة «إنقاذ الظواهر» (Sauver Les Phénomènes).

[4] يرى الباحث «بريام أبليارد» في كتابه «فهم الحاضر تاريخ بديل للعلم» أن انهيار العوالم الأرسطية جعل كل شيء في العالم خاضعا للقوانين ذاتها، ومن ثم، لم نعد أمام مادة سماوية خالصة لها مكوناتها وقوانينها، ومادة أرضية لها مكونات وقوانين مختلفة عن الأولى. أنظر:

- بريام أبليارد. فهم الحاضر تاريخ بديل للعلم. ترجمة عبد الكريم ناصيف. ط.1. (سوريا: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2009)، ص. 64.

[5] سالم يفوت. إبستمولوجيا العلم الحديث. ط.2. (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2008)، ص. 9.

[6] هناك من يعتبر أن الفضل للأديان السماوية في ظهور جملة من الشروط ذات البعد النظري التي مكنت من بزوغ مجموعة من المفاهيم التي تعد من أساسيات الحداثة الفكرية. أنظر:

- عبد المجيد باعكريم وآخرون. "أولويات البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية في العالم العربي". ط. 1. (قطر: مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، 2020)، ص.52.

[7] المرجع عينه، ص. 66.

[8] عبد المجيد باعكريم. (2018)، تكوين مدرس الفلسفة ورهان الحداثة. موقع (https://www.couua.com)، نشر يوم 18 فبراير 2018، وقد تم الاطلاع عليه يوم 2025.06.05.

[9] Aristote. Traité Du ciel. Trad. J Barthélemy saint-Hilaire. 1eéd. (Paris: Librairie philosophique de Ladrange, 1866), p.313.

[10] كان الاعتقاد السائد آنذاك، هو بما أن عالما ما فوق القمر يتميز بالكمال والأزلية على عالم ما تحت القمر الذي يتميز بالكون والفساد، فإن له شرف تدبير كل ما يطرأ في عالم ما تحت القمر، بل وكل ظواهر العالم الأرضي سببها حركة الأفلاك السماوية، ومحكومة بسلسلة من الدوافع الناتجة عن الحركات المنظمة للأفلاك السماوية. أنظر:

- سالم يفوت، أبستمولوجيا العلم الحديث، مرجع سابق، ص. 12.

[11] لا ينظر أرسطو للزمان بكيفية تجريدية-تاريخية، بل بكيفية فيزيائية فقط. ذلك، أن الزمان لا يمكن فهمه إلا في ارتباطه بالحركة، إذ يقول في هذا الصدد ما يلي؛ «وإذا كان قصدنا أن نحد الزمان ما هو فلنجعل أول ما نبتدئ به من ذلك في هذا الموضع فننظر أي شيء للحركة. فإنا معا نحس الحركة والزمان. وذلك أنا وإن كنا في ظلم ولم ينل أبداننا شيء أصلا، إذ أنه حدث في أنفسنا ضرب من الحركة ظننا على المكان أنه قد حدث أيضا زمان ما؛ وكذلك أيضا متى ظننا أن زمانا ما قد حدث، ظننا مع ذلك أن حركة ما قد حدثت. فيجب من ذلك أن يكون الزمان إما حركة وإما شيئا ما للحركة؛ وإذا لم يكن حركة فواجب ضرورة أن يكون شيئا ما للحركة.». أنظر:

- أرسطوطاليس. الطبيعة. الجزء الأول. ترجمة إسحاق ابن حنين ومن معه؛ تحقيق الدكتور عبد الرحمان بدوي. ط 1. (القاهرة: المركز القومي للترجمة (سلسلة ميراث الترجمة)، 2007)، ص. 415.

 

في المثقف اليوم