قضايا
سجاد مصطفى: أشباه الفطرة

المقدمة: تظل ظاهرة الشذوذ الجنسي في المجتمعات التقليدية إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل والنقاش، إذ تُقرأ غالبًا على أنها خروج عن الفطرة واعتداء على النظام الطبيعي للأمور. لكن المعاينة الدقيقة تكشف أن هذه الظاهرة ليست سوى انعكاس لخلل اجتماعي وفكري أعمق، يتغلغل في بنية المجتمع ذاته. فالشذوذ، في جوهره، ليس فعلًا فطريًا فحسب، ولا مجرد انحراف فردي، بل هو مرآة تتكسر عليها تناقضات المجتمع ذاته، ومحاولة يائسة لتجاوز الحدود المفروضة على التعبير عن الذات والهوية. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك مصطلحات الفطرة والشذوذ في إطار التحليل الاجتماعي والفلسفي، مستندة إلى مفاهيم فلاسفة كبار مثل ميشيل فوكو، ابن عربي، وهربرت ماركوز، مع تسليط الضوء على دور الدين والإعلام في تعميق أو تخفيف حدة الإشكال، وصولًا إلى طرح سؤال محوري: من شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟
الفطرة والهوية: بين القمع والنفي
منذ ولادتنا، لا نُمنح الفرصة للتعبير عن هويتنا الحقيقية، بل يُفرض علينا نمط اجتماعي وثقافي يحدد مَن يجب أن نكون. يوضح ميشيل فوكو في كتابه الاهتمام بالذات أن الهوية ليست طبيعة ثابتة، بل هي إنتاج اجتماعي يُعاد تشكيله باستمرار (فوكو، 1984). تُكبت الفطرة الحقيقية بفعل القوالب الصارمة للمجتمع التي تحصر الفروق والاختلافات ضمن نطاق ضيق، فتولد حالة من الصراع والتمزق الداخلي. ينبغي التساؤل: هل الشذوذ هو خروج عن الفطرة أم أنه نتاج قمع الفطرة وتكبيلها؟ هل نحن أمام حالة فردية أم ظاهرة اجتماعية تنتجها بنى ثقافية تُفرض على الأفراد؟ هكذا، تصبح الفطرة ذاتها مشروخة، متكسرة في مرآة التقاليد والنصوص التي تحكم المجتمع.
الجسد كضحية وأداة احتجاج
يؤكد هربرت ماركوز في رجل واحد، عقل واحد أن الجسد هو ميدان الصراع السياسي والاجتماعي، فهو آخر منبر يستطيع الإنسان من خلاله التعبير عن ذاته حين تغلق الأبواب الأخرى (ماركوز، 1966). حين تُقمع اللغة، يصبح الجسد هو الصرخة الأخيرة. في المجتمعات التي تُجمد النقاشات حول الهوية الجنسية وتمنع التعبير الحر، يتحول السلوك الجنسي خارج الإطار المقبول إلى احتجاج صامت. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن شهوة، بل عن رفض لقمع الحرية والتعريف الضيق للفطرة. يتجلى ذلك في ازدواجية المجتمع الذي يخاف من الجسد لكنه يراقبه ويُدين صاحبه.
الدين بين الحقّ والمزايدة
يحتل الدين موقعًا مركزيًا في تشكيل مفهوم الشذوذ. فالشرائع الدينية، ومنها الإسلام، تحرّم الممارسات الجنسية خارج الأطر الشرعية. لكن ابن عربي، في الفتوحات المكية، يذكر: الحق لا يُطلب منه أن يقمع الإنسان، بل ليهديه إلى ذاته (ابن عربي، 1911). هذا التصور يفتح المجال أمام قراءة مختلفة؛ إذ يتحول الدين في بعض الحالات إلى أداة مزايدة أخلاقية تُستخدم لإدانة الآخر وتكريس الحكم، لا كمرآة للحق وللفهم العميق للإنسان. في هذه الحالة، يتماهى الدين مع المواقف الاجتماعية المحافظة التي تكرّس حالة الإنكار والقمع.
الإعلام كمرآة مشوهة وحجة سهلة
تؤكد دراسات بول هاريسون على دور الإعلام في تشكيل الرأي العام، لكنها تُبيّن أيضًا أن الإعلام يتجه أحيانًا إلى تبسيط الظواهر وتعطيل التحليل النقدي (هاريسون، 2002). ينسب كثيرون ظاهرة الشذوذ إلى الغرب عبر خطاب استيراد القيم والثقافات، وهذا تحميل للآخر مسؤولية ما هو نتاج تربة محلية. الإعلام بذلك يُستخدم كأداة لتبرير المواقف التقليدية وتكريسها، مع تجاهل الأسباب العميقة والمتجذرة في داخل المجتمعات نفسها.
علاج الظاهرة أم علاج المجتمع؟
يرى جون لوك أن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده التعبير عن ذواتهم بحرية سيُجبرهم على البحث عن بدائل غير مباشرة لإعلان وجودهم (لوك، 1689). بناء عليه، لا يكمن الحل في محاربة السلوكيات الظاهرة فقط، بل في تفكيك البنى الاجتماعية التي تكرّس القمع والإنكار. يستلزم ذلك بناء ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتتعامل مع الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع، لا كأعداء يجب استئصالهم.
الهوية الجنسية بين الذات والمجتمع
الهوية الجنسية ليست مجرد مسألة بيولوجية أو فطرية وحسب، بل هي أيضًا بناء اجتماعي وثقافي. بيير بورديو يشير إلى أن الهوية هي نتيجة لعلاقات القوة التي تُمارس داخل الحقل الاجتماعي (بورديو، 1990). بناءً على ذلك، يُفرض على الأفراد قبول أو رفض هويات معينة بحسب مواقعهم في هذه العلاقات. في المجتمعات المحافظة، تُختزل الهوية الجنسية ضمن إطار ضيق جداً، ما يخلق فجوة بين الذات الحقيقية والمُتوقع اجتماعيًا. يترتب على ذلك شعور متواصل بالاغتراب وعدم الانتماء، وهذا بدوره يُفضي إلى البحث عن مساحات بديلة تعبر فيها الذات عن حقيقتها، وإن لم تكن مقبولة رسميًا.
الاستلاب الاجتماعي والتمرد الفردي
تحدث كارل ماركس عن الاستلاب عندما يصبح الإنسان غريبًا عن ذاته بسبب أنظمة اجتماعية واقتصادية تضغط عليه (ماركس، 1844). يمكننا أن نرى في ظاهرة الشذوذ إحدى صور الاستلاب، حيث يُجبر الفرد على الانفصال عن فطرته أو هويته الحقيقية، ويصبح جسده وميوله نقطة تمرد على هذا القمع. الشذوذ إذًا ليس فقط مسألة شخصية، بل فعل احتجاج اجتماعي مكبوت، يعبّر عن رفض للقواعد التي تفرض الهوية وتقمع الاختلاف.
النصوص الدينية بين التحرير والتقييد
تُشير الدراسات الحديثة إلى أن النصوص الدينية، رغم صلابتها الظاهرة، تحمل في طياتها إمكانات للتأويل والتحرير. يذكر توماس ميلر أن القراءات الحصرية للنصوص تعزز من حالة القمع، بينما القراءات النقدية تفتح باب التفاهم والقبول (ميلر، 2010). في هذا السياق، ينبغي أن نعيد النظر في الخطاب الديني الرسمي الذي يُستخدم لتبرير الإدانة، مقابل روح الدين التي تدعو إلى الرحمة والعدل، وتفهم الطبيعة الإنسانية بكل تعقيداتها.
الإعلام والتحولات الثقافية
الإعلام ليس فقط ناقلًا للرسائل، بل صانع لها. في زمن العولمة، تنتقل القيم الثقافية وتختلط، لكن الإعلام في كثير من الأحيان يعكس أو يحرف هذه القيم بما يخدم مصالح معينة. من هنا، يتزايد حجم الجدل حول ظاهرة الشذوذ باعتبارها تصديرًا ثقافيًا. يجب أن ندرك أن هذا التصدير هو في الأصل انعكاس لصراعات داخلية، وأن محاربة الظاهرة بإلقاء اللوم على الخارج تغفل عن مسؤولية المجتمع في فهم ذاته وتطوير خطاب داخلي متوازن.
المجتمع والشفاء: نحو حوار إنساني
التعامل مع ظاهرة الشذوذ يتطلب إعادة بناء العلاقة بين الفرد والمجتمع على أسس جديدة. هذا لا يعني التسامح فقط، بل يتطلب إنشاء فضاءات للحوار الصريح، تشجيع ثقافة الاعتراف بالذات، ورفض منطق القهر والإنكار. فالحوار هو الطريق الوحيد لشفاء المجتمع، لأن محاربة الأعراض دون معالجة الأسباب لن تؤدي إلا إلى تعميق الانقسامات وتكريس الانعزال.
العنف الرمزي بين التنشئة الاجتماعية والهوية
بيير بورديو يعرّف العنف الرمزي بأنه القوة التي تُمارس خفية، عبر التنشئة الثقافية والاجتماعية، لتكريس نظام الهيمنة (بورديو، 1991). في المجتمعات التي تُدين الشذوذ، يُمارس هذا العنف عبر التنشئة التي تُلزم الأفراد بقوالب محددة للهوية والجنس والسلوك. هذه القوالب تقمع الاختلاف، وتحول الانحراف الظاهر إلى جريمة اجتماعية لا تُغتفر. العنف الرمزي لا يقل خطورة عن العنف الجسدي، فهو يشكل آلية أساسية في تكرار الهيمنة الاجتماعية، ويخلق حالة من الصراع النفسي المزمن لدى الأفراد الذين يرفضون القوالب المسبقة.
الصمت والتمييز: عبء الرفض
يؤدي هذا العنف الرمزي إلى خلق مناخ من الصمت حول قضايا الهوية الجنسية، حيث يُنكر المجتمع وجودها أو يُخفيها تحت وطأة العار واللوم. يشير إرفينغ غوفمان إلى مفهوم الوصمة التي تلاحق الأفراد المختلفين، وتُقيد حريتهم الاجتماعية (غوفمان، 1963). هذا الصمت يجعل الأفراد أكثر عُرضة للتمييز والإقصاء، مما يفاقم معاناتهم النفسية والاجتماعية، ويعزلهم داخل دوائر الانعزال والرفض.
نقد مفهوم الشذوذ: إعادة النظر في اللغة
مصطلح الشذوذ ذاته يحمل دلالات سلبية قوية، ويُستخدم لتعميق الهوة بين المقبول والمنبوذ. يقترح بعض الباحثين استبدال هذا المصطلح بمفاهيم أكثر حيادية، مثل الاختلاف الجنسي أو التنوع الجنسي، لتخفيف حدة الإدانة وتعزيز الفهم. هذه اللغة الجديدة ليست مجرد تغيير في الكلمات، بل تعكس تحولًا فكريًا واجتماعيًا نحو قبول الآخر والاعتراف بتعددية التجارب الإنسانية.
المجتمع والسياسة: القوانين والحقوق
القوانين التي تُجرّم الشذوذ تعكس سيطرة القيم التقليدية، لكنها في الوقت نفسه تُنتج مشاكل قانونية واجتماعية معقدة. تشير تجارب عدة دول إلى أن التشريع الذي يقمع الحرية الجنسية يعمق الانقسامات، ويزيد من حالات العنف والاضطهاد (الأمم المتحدة، 2019). الحوار السياسي حول الحقوق الجنسية يجب أن يُبنى على أساس احترام كرامة الإنسان وحقوقه، وليس على أساس المحرمات التقليدية فقط.
المستقبل: نحو مجتمع أكثر انفتاحًا
مع تصاعد حركة حقوق الإنسان وانتشار ثقافة التنوع، بدأت العديد من المجتمعات تعيد النظر في مواقفها تجاه الهوية الجنسية. لا يعني هذا تقبلًا أعمى، بل خطوة نحو فهم أعمق، وإنشاء مجتمعات أكثر عدالة وإنسانية. يبقى الطريق طويلاً، لكنه يبدأ بالاعتراف بالاختلاف وعدم التنكر له، وبتبني خطاب حوار يوازن بين التقاليد وحقوق الإنسان
الاستراتيجيات النفسية لمواجهة الرفض
في مواجهة القمع الاجتماعي والوصمة، يلجأ الأفراد إلى استراتيجيات نفسية متعددة للحفاظ على توازنهم، من بينها الإنكار، التبرير، أو التمرد الصامت. فرويد يشير إلى أن الكبت النفسي يؤدي إلى تشوهات في السلوك تُفسّر على أنها انحراف (فرويد، 1915). لكن هذه الظواهر ليست أمراضًا نفسية بالمعنى التقليدي، بل استجابات طبيعية لضغوط اجتماعية غير قابلة للتغيير أو الفهم.
الهوة بين الفرد والمجتمع: التوتر المستمر
التوتر بين الفرد والمجتمع ينبع من تناقض بين تطلعات الحرية الفردية ومتطلبات الانسجام الاجتماعي. إيميل دوركهايم يوضح أن الهوية الفردية تتشكل ضمن الإطار الاجتماعي لكنها ليست مرهونة به بالكامل (دوركهايم، 1897). هذا التوتر يؤدي إلى صراعات داخلية وخارجية، تعكس مدى تعقيد عملية بناء الذات والهويّة ضمن حدود اجتماعية ضيقة.
إعادة تأهيل الخطاب الثقافي
لتحقيق فهم أفضل، يجب إعادة تأهيل الخطاب الثقافي المحيط بقضايا الهوية الجنسية. لا بد من تفكيك الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تروجها وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية والتعليمية. هذا يتطلب برامج توعية وتعليمية ترتكز على الحوار وقبول التنوع، لا على الإدانة والوصم.
دور القانون في حماية الحقوق وتعزيز التعايش
القانون ليس فقط أداة للضبط، بل يجب أن يكون ركيزة للحماية والعدالة. تشريعات تحترم حقوق الإنسان، وتكفل حرية التعبير عن الهوية الجنسية، تساهم في بناء مجتمع أكثر صحة وانسجامًا. وعلى الرغم من المقاومة المجتمعية، تظهر تجارب دول عديدة أن حماية الحقوق تعزز من استقرار المجتمع وتقلل من حالات التمييز والعنف.
استشراف المستقبل: التحديات والفرص
المستقبل يحمل تحديات كبيرة أمام المجتمعات التي ما زالت تراوح في مكانها في التعامل مع قضايا الهوية الجنسية. إلا أن التطور الثقافي، وظهور منظمات حقوق الإنسان، وانتشار التعليم، كلها عوامل قد تؤدي إلى تحول جذري. يبقى الأمل معقودًا على قدرة المجتمعات على التفاعل مع هذه التغيرات بوعي ومرونة، وتحويلها إلى فرص للنمو والتقدم.
الخاتمة والنتائج
إن قراءة ظاهرة الشذوذ من منظار الفطرة والمجتمع تكشف عن تعقيدات كبيرة ومتناقضة، تحتم علينا تجاوز الأحكام الجاهزة والمواقف السطحية. المجتمعات التي ترفض فهم هذا الواقع وتتعامل معه بالعنف الرمزي والقمع تحكم على نفسها بالعزلة والانغلاق، وتعمّق الانقسامات والانعزال. في مواجهة هذه الظاهرة، لا تكمن الحكمة في تبرير الشذوذ أو الدعوة إليه، بل في فهمه في سياقه الاجتماعي والنفسي، وبعيدًا عن الإدانة الجاهزة. الشذوذ ليس مجرد سلوك منفصل عن الذات، بل هو تعبير عن معاناة مجتمع كامل يعاني من قمع الفطرة وتعقيدات نفسية واجتماعية. لذا، يجب أن نتوقف عن لوم الفرد فقط ونتساءل بصدق عن دورنا في صنع هذه الظاهرة، ونعيد النظر في مفاهيم الفطرة والهوية والدين، جنبًا إلى جنب مع نقد دور الإعلام في تشكيل الخطاب العام. فهذا ليس أمرًا سهلاً، لكنه ضروري، لأن المجتمع الذي يغلق على ذاته لا يستطيع أن ينمو ولا أن يشفي جراحه. ينبغي أن نبني ثقافة حوارية تُعلي من قيمة الاعتراف بالذات، وتحترم التنوع في الهويات الجنسية، وتُعامل الأفراد كشركاء في صناعة المجتمع لا كأعداء يجب استئصالهم. فالحوار الصريح، ورفض منطق القهر والإنكار، هما الطريق الوحيد لشفاء المجتمع وتحقيق انسجامه. كما أن إعادة تأهيل الخطاب الثقافي حول الهوية الجنسية، وتطوير برامج توعية تعتمد على الحوار والقبول، مع ضمان حماية الحقوق من خلال قوانين عادلة، تشكل خطوات جوهرية نحو مجتمع أكثر صحة وعدالة. يبقى السؤال الأساسي مطروحًا وبقوة: من الذي شذّ أولًا؟ الفرد أم المجتمع؟ هذا السؤال ليس دعوة للخضوع، بل بداية لفهم أعمق وأكثر مسؤولية تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا، ولبناء مستقبل يمكن فيه للجميع العيش بحرية وكرامة.
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود