قضايا

هدى لحكيم بناني: "البوتشيشية".. من قلب مداغ إلى العالم

دبلوماسية روحية تصنع جسور المحبة

شكّلت الزوايا في المغرب إحدى أبرز الظواهر الدينية والاجتماعية التي وسمت التاريخ المغربي منذ العصور الوسطى. يذهب المؤرخ عبد الهادي التازي إلى أن الزوايا لم تكن مجرد أماكن للذكر أو الانعزال الروحي، بل مؤسسات تعليمية واجتماعية، لعبت دور "الجامعة الشعبية" التي تفتح أبوابها للجميع دون تمييز، حيث كان الفقراء والأغنياء يجلسون جنباً إلى جنب في حلقات العلم.

أما محمد حجي، في إطار دراسته عن “الحياة الفكرية بالمغرب”، فيرى أن الزوايا شكّلت شبكات اجتماعية معقّدة، لها أذرع تعليمية واقتصادية وسياسية، إذ كانت تملك أوقافاً تضمن استقلاليتها المالية، كما كانت تتمتع بقدرة على التوسط بين القبائل والسلطة المركزية، مستفيدة من الرأسمال الرمزي الذي يمنحه لها الانتماء إلى سلاسل صوفية معتبرة.

في هذا السياق، قدّم عبد الأحد السبتي تحليلاً معمقاً لدور الزوايا في فترات الأزمات، مؤكداً أنها شكّلت "ملاذاً اجتماعياً" عند انهيار مؤسسات الدولة أو ضعفها، كما في فترات الفتن أو التهديدات الخارجية. أما المستعرب الفرنسي هنري تيراس فقد ركّز في أبحاثه على دور الزوايا في تثبيت الشرعية السياسية، مشيراً إلى أن المخزن المغربي كان يحرص على نسج علاقات ودّ مع مشايخ الزوايا الكبرى لما لهم من تأثير في المجتمع.

من جانب آخر، أبرز إدمون دوتي أن الزوايا كانت أيضاً منصات لتعبئة الجهاد ضد القوى الاستعمارية، خصوصاً في القرن التاسع عشر، مستشهداً بحالات زوايا شمال المغرب التي لعبت أدواراً حاسمة في مقاومة التوسع الإسباني والفرنسي.

وتُعدّ الزاوية القادرية البوتشيشية، التي تأسست في القرن التاسع عشر على يد سيدي علي بن محمد البوتشيشي في منطقة مداغ بجهة الشرق، امتداداً للتيار القادري الذي أسسه عبد القادر الجيلاني في بغداد في القرن السادس الهجري. يوضح الباحث أحمد التوفيق أن البوتشيشية حافظت على جوهر المنهج القادري، لكنها أضفت عليه خصوصية مغربية تقوم على الجمع بين الالتزام بالشريعة والتدرج في التربية الروحية عبر "الصحبة" و"الذكر" و"خدمة الخلق".

يرى عبد المجيد بن جلون أن قوة البوتشيشية تكمن في خطابها المعتدل القادر على التكيّف مع مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية، وهو ما منحها امتداداً واسعاً خارج المغرب، لتصبح مركزاً دولياً يجذب مريدين من أوروبا وإفريقيا وآسيا.

كما لفت المستشرق ميشيل شوفالييه إلى أن البوتشيشية تبنت منذ عقود رؤية أممية، جعلتها تشارك في ملتقيات الحوار بين الأديان والثقافات، وتعرض التصوف المغربي باعتباره "رسالة أخلاقية عالمية" قائمة على المحبة والسلام. هذا البعد الأممي، حسب عبد السلام بلاجي، يعكس قدرة الزاوية على الجمع بين الأصالة التراثية والانفتاح على القضايا الكونية المعاصرة، مثل السلم، والتعايش، ومواجهة التطرف.

إضافة إلى بعدها الروحي، لعبت الزاوية القادرية البوتشيشية أدواراً اجتماعية وسياسية مهمة. وفقاً لتحليل محمد ضريف، فإنها ساهمت في نشر ثقافة السلم الأهلي في محيطها، وحاربت النزاعات القبلية، بل وحتى النزعات الانفصالية عبر تعزيز الانتماء الوطني. ويضيف ضريف أن مجالسها الروحية لم تكن مجرد حلقات ذكر، بل فضاءات لحل النزاعات بين الأفراد والجماعات، حيث كان الشيخ أو المقدم يقوم بدور الوسيط والمصلح، مستفيداً من الشرعية الدينية والاحترام الاجتماعي.

كما يشير إريك جوفروي، المتخصص في التصوف الإسلامي، إلى أن البوتشيشية تقدم نموذجاً لـ "التصوف الحي"، الذي لا يكتفي بالممارسة الروحية، بل ينخرط في قضايا التنمية البشرية وخدمة المجتمع. فقد أنشأت الزاوية، عبر شبكة مريديها، مبادرات لمحو الأمية، ودعم المشاريع الصغيرة، ورعاية الأيتام، والمساهمة في حملات الإغاثة خلال الكوارث الطبيعية، خصوصاً في المناطق الهشة اقتصادياً.

ويرى عبد السلام بلاجي أن الدور السياسي للزاوية البوتشيشية يتمثل في قدرتها على أن تكون جسراً بين السلطة والمجتمع، بعيداً عن الاصطفافات الحزبية، إذ تحافظ على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، مما يمنحها مصداقية في أعين الجميع. هذا الحياد النشط مكنها من لعب أدوار هامة في فترات الأزمات، مثل التهدئة أثناء التوترات الاجتماعية، والمساهمة في تعبئة المواطنين خلال لحظات مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.

بينما تؤكد دراسات عبد الأحد السبتي أن حضور الزاوية في المشهد السياسي لا يتم عبر الخطاب المباشر، بل من خلال "التأثير الهادئ" القائم على بناء شبكات اجتماعية واسعة، تتجاوز الحدود الجغرافية للمغرب. هذا الامتداد الإقليمي والدولي جعلها قادرة على تقديم صورة إيجابية عن المغرب في المحافل الدولية، خاصة في مجال الحوار بين الأديان، وهو ما يتوافق مع رؤية المستشرق ميشيل شوفالييه الذي اعتبر البوتشيشية "سفيراً غير رسمي" للقيم المغربية في العالم.

وقد لعبت البوتشيشية، عبر عقود، دوراً في تعزيز الدبلوماسية الروحية، سواء من خلال استقبال شخصيات سياسية ودينية عالمية في مقرها بمداغ، أو عبر مشاركة ممثليها في مؤتمرات السلم الدولية، مما جعلها مكوناً من مكونات القوة الناعمة للمغرب، على حد تعبير الباحث الفرنسي جيل كيبيل.

وتُفسَّر الجاذبية العالمية للزاوية القادرية البوتشيشية بعدة عوامل متداخلة، دينية وثقافية واجتماعية. يشير إريك جوفروي إلى أن أهم هذه العوامل هو الخطاب الروحي المعتدل الذي يجمع بين أصالة التراث الصوفي القادري والقدرة على مخاطبة الإنسان المعاصر بلغته واهتماماته. فالزاوية لا تفرض على مريديها نمطاً ثقافياً واحداً، بل توفر إطاراً روحياً مرناً يمكن أن يتعايش مع تنوع الخلفيات الثقافية.

من جانب آخر، يرى ميشيل شوفالييه أن الانفتاح اللغوي والثقافي للزاوية لعب دوراً أساسياً في توسعها الأممي، إذ تعتمد في مجالسها ولقاءاتها على لغات متعددة كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، مما جعلها ميسورة الوصول للمريدين في أوروبا وأميركا وإفريقيا جنوب الصحراء.

كما يبرز الباحث المغربي محمد ضريف عاملاً آخر يتمثل في شبكة المريدين المنتشرة عالمياً، والتي تعمل كسفراء غير رسميين ينقلون التجربة الروحية البوتشيشية إلى بلدانهم، ويقيمون هناك لقاءات ومجالس ذكر، مما يخلق جسوراً متجددة للتواصل مع المركز في مداغ.

ويؤكد عبد السلام بلاجي أن إحدى نقاط القوة هي البعد الإنساني العابر للحدود في خطاب الزاوية، حيث تُقدّم قيم المحبة والسلام وخدمة الإنسان كمرتكزات أساسية، بعيداً عن أي خطاب إقصائي أو سياسي مباشر، مما يمنحها جاذبية لدى فئات واسعة تبحث عن الروحانية النقية في عالم مضطرب.

كما أن مشاركة الزاوية في المؤتمرات الدولية للحوار بين الأديان والثقافات، إلى جانب حضورها في مبادرات أممية حول السلم، جعلت صورتها أكثر إشعاعاً في الأوساط الأكاديمية والروحية العالمية، وهو ما يصفه جيل كيبيل بأنه "توظيف ذكي للدبلوماسية الروحية لخدمة الحضور المغربي في العالم".

***

د. هدى لحكيم بناني

في المثقف اليوم