قضايا
غالب المسعودي: اخلاقيات الكذب والاستثمار في السياسة

في عالم السياسة، غالبًا ما يُنظر إلى الكذب على أنه أداة، وسلاح، بل وحتى استراتيجية لتحقيق الأهداف. لكن عندما يتجاوز الكذب كونه مجرد أداة ليصبح استثمارًا أساسيًا، وتصبح السياسة بدورها استثمارًا في الكذب، فإننا ندخل في دوامة خطيرة تهدد أسس المجتمعات ومصير الشعوب. عندما يصبح الكذب استثمارًا، فإنه يتحول من فعل عارض إلى استراتيجية ممنهجة ومحسوبة. يرى نيكولا ماكيافيلي في كتابه "الأمير" أن الحاكم يجب أن يكون قادرًا على استخدام الخداع والمراوغة لتحقيق مصلحة الدولة. لكن هذا المبدأ يمكن أن يتجاوز حدود الضرورة ليصبح أساس الحكم، يعتقد بعض السياسيين أن الكذب ضروري للحفاظ على السلطة، فهم قد يكذبون بشأن الأوضاع الاقتصادية، أو التهديدات الخارجية، أو حتى إنجازاتهم، من أجل إرضاء الجماهير وتجنب المساءلة، هذا الكذب يولد شعورًا زائفًا بالاستقرار والأمان، مما يتيح للحكام فرصة لترسيخ سلطتهم، الاستثمار في الكذب يولد أزمة ثقة عميقة، في البداية قد يصدق الناس الأكاذيب، لكن مع مرور الوقت، وتكرار التناقضات، تتآكل الثقة بين الشعب وحكامه، و يصبح المواطن في حالة من الشك الدائم، مما يولد حالة من اللامبالاة السياسية والانسحاب من الشأن العام.
السياسة كاستثمار في الكذب
في هذا السياق، لم يعد الكذب مجرد أداة في السياسة، بل أصبحت السياسة نفسها مبنية على الكذب. لم يعد الهدف من السياسة هو خدمة المصلحة العامة، بل هو إنتاج وتوزيع الأكاذيب التي تخدم مصالح فئة معينة، تُصاغ الأيديولوجيات السياسية على أسس كاذبة، مثل وعود بالرخاء لا يمكن تحقيقها، أو تهديدات وهمية تتطلب التضحية بالحرية. تصبح الخطابات السياسية مجرد مسرحية يتم فيها تبادل الأكاذيب، وتصبح وسائل الإعلام أدوات لترويج هذه الأكاذيب، عندما تصبح السياسة استثمارًا في الكذب، فإنها تحاول الالتفاف على الواقع بدلًا من مواجهته. حيث يتم تزييف الحقائق، وتشويه التاريخ، وتغييب الأصوات المعارضة. ويصبح الحوار السياسي مستحيلًا لأن جميع الاطراف لا تتشارك نفس الواقع.
سياسة الكذب وكذب السياسة ومصير الشعوب
عندما تتداخل هاتان الظاهرتان، يصبح مصير الشعوب المحكومة مأساويًا ومظلمًا. يمكننا أن نستلهم من أفلاطون وكهفه الشهير الوصف لهذا الوضع. في كهف أفلاطون، يعيش السجناء وهم يرون ظلالًا على الجدار ويعتقدون أنها الحقيقة. الكذب كاستثمار سياسي هو بمثابة صناعة هذه الظلال، بينما السياسة كاستثمار في الكذب هي بناء الكهف نفسه. الشعب المحكوم بهذه الطريقة هو كسجناء الكهف، يعيشون في عالم من الأوهام، افلاطون الفيلسوف الذي يرى الحقيقة خارج الكهف هو بمثابة صوت المعارضة أو الصحفي الشريف الذي يحاول كشف الحقيقة. لكن هذا الصوت غالبًا ما يواجه مقاومة عنيفة، ليس فقط من الحكام الذين يريدون الحفاظ على الكذب، بل وأيضًا من الشعب نفسه الذي اعتاد على الظلام ويخاف من الحقيقة.
العواقب على مصير الشعوب
عندما يصبح الكذب هو القاعدة، يفقد الناس قدرتهم على التفكير النقدي وتحليل الأوضاع. يصبحون عرضة للتلاعب والاستغلال ولا يمكن أن تتحقق العدالة في مجتمع قائم على الكذب. فالقوانين تُصاغ لتخدم مصالح الحكام، والحقيقة تُدفن لصالح الأكاذيب. عندما ينكشف الكذب فإن الثقة تنهار، ويشعر الشعب بالغضب والخيانة. هذا يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، وثورات، وصراعات. إن الكذب كاستثمار في السياسة والسياسة كاستثمار في الكذب هما وجهان لعملة واحدة. هذه الظاهرة ليست مجرد قضية أخلاقية، بل هي قضية وجودية تهدد أسس المجتمعات. مصير الشعوب المحكومة بهذه الطريقة هو الانغماس في وهم زائف، يؤدي في النهاية إلى تدمير الذات. الحل الواقعي لهذا الوضع يكمن في السعي المستمر للحقيقة، ومقاومة الأكاذيب، وإعادة بناء السياسة على أسس من الشفافية والمساءلة. إنه طريق شاق، لكنه الطريق الوحيد للخروج من كهف الظلال.
الكذب في السياسة وسيلة لتحقيق الاهداف
يُنظر إلى الكذب في السياسة على أنه وسيلة لتحقيق أهداف معينة، مما يثير تساؤلات حول الأخلاق السياسية. هل الغاية تبرر الوسيلة؟ الفلاسفة مثل أرسطو كانوا يؤكدون على أهمية الصدق كقيمة أساسية في السياسة. استخدم الكذب كأداة للتلاعب بالمعرفة والمعلومات، يعكس علاقة السلطة بالمعرفة. الوسيلة التي تُستخدم كوسيلة لتعزيز السيطرة تعتمد السياسة الكاذبة والتي تخلق واقع زائف، مما يثير تساؤلات حول ما يُعتبر معرفة وكيف يمكن تمييز الحقيقة. يستخدم الكذب جزءًا من الخطاب السياسي، لتوجيه الرأي العام وتحقيق التأييد. عند تحليل هذه الظاهرة من خلال نظرية الخطاب نجد ان الكذب يتضمن استغلال المشاعر الإنسانية، مما يُظهر كيف يمكن للسياسة أن تلعب على الأبعاد النفسية. الكذب الواسع في السياسة يمكن أن يؤثر على ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة. هذا يطرح تساؤلات حول كيفية استعادة الثقة. الكذب يمكن أن يساهم في تشكيل ثقافة سياسية معينة، تؤدي إلى تغييرات في كيفية فهم الناس للسياسة دراسة وكيف أن الأكاذيب السياسية كانت جزءًا من أحداث تاريخية كبرى. مقارنة الشعوب التي تعاني من الكذب السياسي مع تلك التي تتمتع بالشفافية تظهر هذه المقارنات الواقعية كيف أن الكذب في السياسة ليس مجرد سلوك فردي، بل هو ظاهرة معقدة تعكس التفاعل بين الأخلاق، السلطة، المعرفة، والخطاب السياسي.
الفلاسفة الذين تناولوا أخلاقيات الكذب في السياسة
أرسطو: اعتبر أرسطو الصدق قيمة أخلاقية أساسية في السياسة، حيث أكد على أهمية الصدق في الخطاب السياسي لبناء الثقة.
ماكيافيلي: كتابه "الأمير"، يناقش ماكيافيلي استخدام الكذب كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، ويعتبر أن القادة قد يحتاجون إلى اتخاذ قرارات غير صادقة في بعض الأحيان.
كانط: كان رافضًا للكذب بشكل قاطع، حيث اعتبره انتهاكًا للأخلاق. وفقًا له، يجب على الأفراد الالتزام بالحقيقة في جميع الأوقات، حتى في السياسة.
هيجل: تناول هيجل العلاقة بين الحرية والصدق، حيث رأى أن الكذب يقوض الحرية الفردية ويؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية.
جون ستيوارت ميل*: رأى ميل أن الكذب يمكن أن يكون مبررًا في بعض الحالات إذا كان يؤدي إلى نتائج إيجابية أكبر، مما يعكس فكرته عن النفعية.
فوكو: تناول فوكو الديناميات الاجتماعية للسلطة والمعرفة، مشيرًا إلى كيف يمكن للكذب أن يُستخدم كأداة للسيطرة والتحكم.
هانا أرندت*: ناقشت أرندت في أعمالها تأثير الأكاذيب على الحياة العامة وكيف يمكن أن تؤدي إلى تفكك المجتمع وفقدان الثقة في المؤسسات.
كذب في السياسة وسياسة الكذب في المرحلة الحالية
الكذب في السياسة هو قضية معقدة ومثيرة للجدل، الكذب السياسي ليس مجرد خطأ، بل هو تحريف متعمد للحقيقة أو إخفائها. قد يكون الكذب عن طريق التضليل والخداع والإيهام والغش، يستخدم السياسيون مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لخداع الجمهور، مثل تكرار الروايات الكاذبة، والتضليل الإعلامي، واستخدام الإحصائيات المضللة، ونشر نظريات المؤامرة، يرى البعض أن الكذب السياسي غير أخلاقي على الإطلاق، بينما يرى البعض الآخر أنه قد يكون مبررًا في بعض الحالات، مثل حماية المصلحة العامة، تلعب وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في كشف الكذب السياسي ومحاسبة السياسيين ومع ذلك، يمكن أن تكون وسائل الإعلام أيضًا أداة للتضليل والدعاية في العصر الحالي، أصبح الكذب السياسي أكثر انتشارًا وتطورًا بسبب التقنيات الحديثة ووسائل الإعلام الاجتماعية وقد أدى ذلك إلى تراجع الثقة في السياسيين والمؤسسات السياسية، وزيادة الاستقطاب السياسي . هناك العديد من التحديات التي تواجه مكافحة الكذب السياسي في العصر الحالي، بما في ذلك صعوبة التحقق، وانتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت، واستقطاب وسائل الإعلام تتطلب الحاجة إلى مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لمكافحة الكذب السياسي، بما في ذلك تعزيز التثقيف الإعلامي، ودعم الصحافة المستقلة.
***
غالب المسعودي
..........................
* جون ستيوارت مل - ويكيبيديا
* انا أرندت (1906-1975) هي فيلسوفة وكاتبة سياسية ألمانية من أصل يهودي، تعتبر واحدة من أبرز المفكرين في القرن العشرين. عُرفت بأعمالها حول القضايا السياسية والفلسفية، وخاصة مفهوم السلطة والحرية